شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
مدينة بلا

مدينة بلا "خيارات علي" و"مربى فراولة هنادي"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 28 نوفمبر 202411:37 ص

في نوفمبر 2020، بدأ أسوأ وأبشع اختبارات الفقد وأشدّها توحشاً. فجر أحد أيامه نمت قليلاً، لم تتجاوز النصف ساعة، لكنه نوم ثقيل بعد حرب مع تعب القلق والخوف على أنفاس أمي الأخيرة. خفق قلب أختي فوق رأسي الثقيل وقالت: "إمي".

فعرفت أن جسد أمي صار جثة. ركضت في البيت أوقظهم كي أخفي رغبتي بالانهيار. لم أكن أريد ذلك لي وحدي، وقلت بثبات للجميع: "ماتت أمي".

وسرعان ما دخلت في دوامة إنكار لوقت طويل، ممتد ربما حتى اللحظة هذه التي تجتاح فيها الحرب ذاكرتي وتفقدني المدينة شيئاً فشيئاً.

قبل أيام، أخبرتني أختي المحاصرة في إحدى مستشفيات شمال القطاع، بأن طيف أمي لم يفارقها، وظلّ معها منذ المساء حتى الفجر. إنه تأكيد على الإنكار. الأمهات كلما شعرن بخطر أو قلق تجاه الأولاد يزوروهن ويهدهدن خوفهم وقلقهم، ثم يمضين نحو صلوات الفجر كعادتهن.

تلك عادة أمي وما زالت حتى في موتها وفي غيابها، لقد تكرّر هذا معي في أشدّ ليالي الحرب قسوة وعند الفجر تذهب. ساعدني في إنكار غيابها "حصار كورونا" الذي جاء، فلم أقو على مواجهة العالم والخروج إليه دون دعوات أمي، دون جسدها في البيت.

كنت قد بدأت حمية غذائية قاسية قبل وفاتها بشهرين، ومضيت أحظى بمواصلة الإنجاز هذا، رغم كل تداعيات الحزن والانهيار موت يلف حول رقاب العالم وأمي ليست معي.

"خيارات علي"

كادت صديقتي "آمنة" أن تفسد، في ذكرى أمي السنوية، هذا الإنجاز، حين قرّرنا أن نتناول غذاءنا في "بيليني"، أحد مطاعم المدينة. أيقونة هذا المكان وسرّه كان "علي". تندرت آمنة بسخرية أمامه: "بدنا شي يفسد حميتها".

"علي" رديف صورة غزة، يمتلك سحراً خاصاً بابتسامته وحضوره. إذا ما قرّرنا الخروج من محطة إلى محطة، سيكون "علي" بداية كل ما يصلح أن يقال عنه "رايق" في المدينة.

"علي" رديف صورة غزة، يمتلك سحراً خاصاً بابتسامته وحضوره. إذا ما قرّرنا الخروج من محطة إلى محطة، سيكون "علي" بداية كل ما يصلح أن يقال عنه "رايق" في المدينة 

مدينة تزورها الحرب كلما شعرت بالضجر وكأن المدينة نزهة الحرب الأبدية.

مقهى صغير بنوافذ زجاجية، ركنان صغيران، أربع طاولات في كل جانب، يطل على أحد أعرق وأقدم شوارع المدينة "عمر المختار". ليس ذاك سرّه الوحيد: لوحتان على حائط، كراس بالأزرق والأخضر، رف خشبي صغير بمجموعة من الأصص، بينهما كتب متناثرة كجزء من شخصيات المكان. اسمه "مزاج"، زاوية خاصة لمزاجك.

فيما تظن أن هذا سحر وسرّ صغير من أسرار المكان، يظهر لك "علي" كسرّ متفرّد للمكان بعد كل هذا، بعينين خضراوين وابتسامة دائمة. شاب قصير بسترة خضراء حول خصره، وشعر يجمع بين اللونين الأشقر والبني. يأتيك مبتسماً لتظن أن هذا كاف أيضاً. أيعقل أن كل المقاهي تخلو من هذا؟

بالتأكيد وداعة غزة لا تنتهي، ولكن "علي" يمتلك سرّاً آخر، فهو من يطهو لك خيارك الأفضل.

أدخل المكان في حيرة دائمة ليقول "علي": "هذا خيار جيد". تشكّ والشكّ عادة، لكن ثقته تهزم شكّك في طبق، وتأكل هزيمة شكّك مبتسماً راضياً. أخفيت هذا السر عن كل الصديقات رغم أنهن يعرفن ذلك.

في إحدى المرات، كان "علي" قد نصحني بنوع سلطة، وحين ندمت صديقة على خيارها قالت: "ناجحة في الاختيارات دائمة، في المرة القادمة لو طلبت سمّاً سأطلب مثلك". ضحكت واحتفظت بسر خياري أن "علي" هو سر نجاحي في هذه الاختيارات.

يشبه علي أمي حين كانت تلقمني نصائحها، ربما هذا سرّ آخر يضاف لمسار "علي" كشخصية في ذاكرتي.

مدينة تزورها الحرب كلما شعرت بالضجر وكأن المدينة نزهة الحرب الأبدية

انتقل "مزاج" من فكرة بيت العائلة إلى بيت مستقل وصار "بيليني"، وهي فكرة الانتقال الذي عاشته غزة مؤخراً، حيث صارت تصنع لنفسها مساراً بصرياً معادياً لصورة الموت الأبدي، فصار "بيليني" ماركة مسجلة جديدة في ذاكرة طعم غزة. شيء من امتداد العائلة لا يفنى، فكان "علي" هناك، في مطعم مازال يطل على شارع عمر المختار بنافذة زجاجية ولكن بلمسات الأسرة الجديدة

فـ: "صار أوسع هالصالون، وصار أشرح هالبلكون"، و"علي"، بسترته الخضراء وابتسامته، رغم فارق الزمن وإزاحة الحاجة للتطور والانفصال عن بيت العائلة "مزاج"، ما زال بنفس الحضور.

يصر "علي" أن يكون رديف صورة أمي. إذا ما ازدحمت ذاكرتي وتاهت مني الخيارات، جاء "علي" ليرتبها في صحن سلطة، مبتسماً بكل ثقة تهزم شكّي. حين قالت "آمنة" يومها بسخرية عن إفساد الحمية قال بثقة: "بس السلطة لا تفسد الريجيم"، وجاء يحمل ابتسامته برفقة صحن تحفظه قائمة طعام المكان باسم "تشكن جريل".

لا يهم، لو سنحت لي الفرصة يومها لحفظته باسم "ابتسامة طازجة". السرّ ليس في طهو خياراتك بل ببساطة تقديمها أيضاً. يشبه ذلك إحساسك بالجوع الذي يركض بك نحو البيت، لأنك تعرف أن مطبخ أمك لن يخلو مما يهزم جوعك، ولو لم يكن خيارك المفضل.

في نوفمبر 2023، كان البرد يهاجم أول أيام نزوحي في خانيونس. طال إحساس الدفء علي، حتى تنازل ابن خالي "احمد" عن حصته في أحد الأغطية ومنحني إياه، وحين انتهت حصتي من الدفء أعدته لأحمد، ومضيت أراقب الأخبار. كانت صورة "علي" تظهر، بنفس السترة الخضراء وبذات الابتسامة، بلقب جديد "شهيد": قُتل "علي" أثناء قصف مباشر لمنزله.

هكذا مرّ الخبر هادئاً، وبدا وكأن "علي" سقط وسقطت معه أفضل الخيارات في ذاكرة الطعم عن المدينة، وأنا في أبعد نقطة عن التقاط كل هذا.

حين جربت أن أهزم شبح الجوع أمام شحّ خيارات السلطة، وصنعت صحناً من بعض أوراق السلق، فشلت وقلت: "الله يرحمك يا علي"، وحين جاءت أختي تحمل علبة مربى الفراولة التي تباع بالسوق قلت: "الله يرحم طعم يديك يا هنادي"

"مربى فراولة هنادي"

وكأن نوفمبر يتعمّد أن يقتل صور أمي الممتدة، ودخلت في دوامة الإنكار ذاتها. ساعدني مجدّداً حصار انقطاع الاتصالات، الذي امتد لأكثر من ثلاثة أيام، حتى عاد مستوحشاً أكثر والبرد صار أشرس، في بيت يشبه بيت خانيونس، نصفه قد يسقط في أي لحظة.

كانت "هنادي" صديقتي قد أرسلت لي رسالة تخبرني أن بيتها ينتظرني حين تنتهي الحرب بعد أن فقدت بيتي، وكنت أعدّد في ذاكرتي البيوت التي استعدّت أن تصير بيتي بعد أن صار البيت حطاماً في أكتوبر 2023. أخذت غطاء أواسي به جسدي المرتجف، المنتظر انتهاء الحرب، والعودة إلى البيوت التي ترسل لي "أهلاً بك"، حتى قتل انتظاري وبردي خبر: لقد قصف بيت هنادي وعائلتها، وقتلت هنادي وزوجها وكل من معها. كانوا ستين شخصاً.

ركضت بنفس الطريقة التي ركضت بها يوم وفاة أمي، وكأنني أبحث عن صوت ينكر هذا الخبر. بعض الأشخاص لكثرة ما أثروا بنا نظن أنهم لن يموتوا.

أخشى على مدينة تنجو من الحرب بعد حين، وكيف ستبدو المدينة بلا امتداد صور لأمي وطعم "خيارات علي" و"مربى فراولة هنادي"

تكبرني "هنادي" بعشر سنوات. هي شقيقة صديقتي. اختلطت ملامحها بملامح أمي يوم تقابلتا في إحدى محلات السوق. استشبهت كل منهما بملامح من تعرف، فاحتضنتا بعضهما البعض فرحتين بهذا اللقاء. لم تقابل هنادي أمي كثيراً، لكنها كلما التقت بها ببيت عائلتها، ذكرت ذلك الموقف وهي تضحك أجمل ضحكة.

تحمل "هنادي" ذات الملامح التي يحملها "علي": عينان خضراوان، وجه بشوش وابتسامة غير التي تمتلكها شقيقاتها الست.

لكن كلما ذكرت لي ذاك الموقف أشعر أن ملامح أمي صارت تعلو ملامحها، واستعارت من أمي قلبها وطريقة صنع "مربى الفراولة". لقد صنعت "هنادي" مطرقة تكسر دوامة إنكاري وتؤنس فقدي لأمي، حين حملت علبة "مربى الفراولة" في يدها بعد موت أمي. كنت في بيت أبيها أبكي أمي، وجاءت تحمل خياراً يذكرني بأمي، وأفضل ما صنعت لذاكرة مذاقي:

"مربى الفراولة". لوقت طويل كنت أرفض استبدال ما يدلّني على أمي، لكن هنادي نجحت. ألقمتني لقمة المربى تلك بينما دموعي تسيل، فأعادت لي أمي في مارس 2022 لحظة، فحملت العلبة معي أحتفظ بها في مطبخي وكأنها صورة تجمع "هنادي" بأمي في إطار واحد.

مدينة بلا نوفمبر

يعيد نوفمبر نفسه اليوم في ذكرى فقد أمي و"علي" ثم "هنادي"، والحرب ما زالت. لم نجرب بعد طعماً يعيدهم جميعاً ولو للحظة، حتى حين جربت أن أهزم شبح الجوع أمام شحّ خيارات السلطة، وصنعت صحناً من بعض أوراق السلق، فشلت وقلت: "الله يرحمك يا علي"، وحين جاءت أختي تحمل علبة مربى الفراولة التي تباع بالسوق قلت: "الله يرحم طعم يديك يا هنادي".

أخشى على مدينة تنجو من الحرب بعد حين، وكيف ستبدو المدينة بلا امتداد صور لأمي وطعم "خيارات علي" و"مربى فراولة هنادي".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image