شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
رحلة العودة إلى غزة… خيط يحاول دخول إبرة دون ثقب

رحلة العودة إلى غزة… خيط يحاول دخول إبرة دون ثقب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

كنت أنوي العودة إلى مدينة غزة بعد أسبوعين من لحظة سماح الجيش الإسرائيلي لنا بالعودة. ظننت أن الأمر سهل، وبأنني أستطيع قبول عقلانيتي والبقاء في دير البلح حتى تستقر الأمور في شمال الوادي.

لكن مع أول لحظة من فتح طريق "نيتساريم" في وجه النازحين، جُنَّ جنوني، وشعرت بأن قطاراً يفوتني. شدّتني العاطفة إلى المكان المدمّر، وأحسست بصاعقة في جسدي، ألغت قدرتي على التحكم في القرار.

وفي لحظة واحدة قرّرت الانتقال إلى غزة. أجبرت عائلتي على قبول طرحي، وبدأنا رحلة العودة فوراً. لم أعرف من أين جئتُ بتلك الأقدام الحديدية، متهورة المشي، إلى أن أكملت عشرة كيلومترات حتى غزة.

المسافة من دير البلح، وسط القطاع، إلى أقرب نقطة لرحلة المشي، تستغرق ثلث ساعة، شعرت بأنها ثلاثون. كنت أطلب من السائق الإسراع، وقلت في سرّي: "لو أنه يمشي بسرعة دقات قلبي".

لحظة لقائي الأول مع شمال وادي غزة، شعرت بأن ذرات الهواء أخذت بالاتساع، وانتبهت إلى أن رئتَي عادتا للعمل بكامل السعة.

هواء بحر غزة، يا سادة، له أثر غريب على النفس، مُنعش كما أثر معجون الأسنان على خلايا الفم، لا يتوقف عن نشر الحياة وبثّها. بطبيعتي، أحب المدينة التي تحمل طعماً يمكن تذوّقه، المدينة التي تحتفظ بهويتها، وكانت غزة بطعم حبات عنب الشيخ عجلين، حلوة، حادقة، تملأ الفم بالفرح والمسرة. كل شخص تذوّق طعم غزة لا يمكنه نسيانه فيما بعد.

شعب يترك خيمة ليسكن خيمة

بدأت من "تبة النويري"؛ آخر نقطة سُمح للسيارات بدخولها، ثم انطلقت في رحلة المشي إلى غزة. أحسست بداية بأنني أمشي على فقاعات صابون، أتحسّس التراب الذي يأخذني إلى مدينتي. كنت كمن يلامس جلد من يحب، منتشياً بالملمس، مخدراً من كل الألم. لم يكن ذلك فرحاً، بل قصة حب مع المكان.

أذهلني كمّ الناس من حولي، إذ مضت شلالات من الرجال والنساء والأطفال، يدفعهم شيء واحد: الحب المطلق للمكان، حتى لو كان خراباً، ودون أدنى مقومات للحياة.

لحظة لقائي الأول مع شمال وادي غزة، شعرت بأن ذرات الهواء أخذت بالاتساع، وانتبهت إلى أن رئتَي عادتا للعمل بكامل السعة

رأيت شعباً بأكمله يترك الخيمة في خانيونس، ليسكن خيمة في غزة، يترك بؤساً ليجرّب بؤساً من نوع آخر. ما الفارق يا ترى؟ لماذا يتملّك الناس أحياناً هذا الانصياع الغريب؟ هل العلاقة مع الأرض هي من تحيل الإنسان إلى كتلة من العاطفة؟ أيقنت أن العقل يتعطّل أمام ذلك الخضوع.

منعت إسرائيل النازحين من التنقل بالسيارات والعربات على شارع الرشيد، وسُمح بذلك على طريق صلاح الدين، مع التفتيش من قبل شركة أمنية دولية.

وبسبب شحّ الوقود، بالإضافة إلى استغلال أصحاب السيارات للأزمة برفع أسعار التنقل، تعقّدت المهمة على النازحين بالعودة، أضف إلى ذلك، منع كل من تمكّن من الذهاب بالسيارة من الجنوب إلى الشمال، من العودة عكسياً إلا بعد أسبوعين، فأصبح المشي هو الخيار الوحيد.

مشينا نحمل أثاث الخيام

رأيت خلال المشي عجوزاً تساعدها مشاية بعجلات، تحرّك ركبتها كمن يحاول أن يفتح عينيه أو يصحو. تمشي وبجانبها حفيدها- كما يبدو- على طريق وعر، مليء بالحفر والطين، بعد تعرّضه للتدمير من تتار العصر؛ جنود إسرائيل.

كانت تمضي بتعبها، بآلام ركبتيها، بالجلد الناشف في وجهها، نحو المكان الرطب، وكعادتي، كلما رأيت عجوزاً، تخيّلت هيأتها في طفولتها. كانت جميلة، لكن الحزن على جسدها عمره سبعون عاماً.

سقت الحاجة الطريق بدمعها، وملأته بالزهور. رأيت على طول الطريق أشخاصاً مرهقين من مسير شاق، وحِمل لا يُطاق. رأيت من يفترش الأرض من التعب، ومن يصرخ لأنه فقد ابنته، ابنه، أخاه، أباه. صوت الصراخ الممزوج بالتيه، الصوت الذي يبدأ ولا ينقطع.

رأيت امرأة ثمانينية تجلس فوق كرسي متحرّك، أولادها يشعلون الحطب لتدفئة رجليها المتجمدة من برودة شارع البحر.

مشينا نحمل أثاث الخيام، الأدوات البسيطة للرحّالة، التي تعين على حياة بدائية. حملها الناس وهم يكبّرون، يغنون، يتصورون، لكن كثيرين سرقهم البؤس من التفكر بلحظات العودة إلى الأرض.

أذهلني كمّ الناس من حولي، إذ مضت شلالات من الرجال والنساء والأطفال، يدفعهم شيء واحد: الحب المطلق للمكان، حتى لو كان خراباً، ودون أدنى مقومات للحياة

لقد كان الطابع الحزين يسيطر على الرحلة، كما لو أنه دهان متمرّس، وبعد رحلة من التعب، وضعت أغراضي على عربة يجرها حصان، ودفعت للرجل أجراً كبيراً. كان غرضي فقط التخلص من إرهاق الحمل، من أجل التأمل أكثر.

كانت المشية بطيئة جداً، بسبب كثرة العائدين ووعورة الطريق. قارب الليل على الدخول، ووصلنا إلى أماكن البنيان على ساحل الرشيد، كل شيء كان مدمّراً، كل شيء من حولنا، وبحلول الليل، صار مدعاة للبكاء.

لقد غيّرت الحرب معالم المدينة التي أحب، غزة التي أعرفها بالشبر، صارت متاهة. توقفت لأكثر من مرة لأسأل أحدهم: أين نحن الآن؟ لست مصاباً بالزهايمر، لكنني كنت لأول مرة أشبه خيطاً يحاول الدخول في إبرة دون ثقب. حزنت لأنني لأول مرة أفشل في التعرّف إلى هويتي.

وللمرّة الأولى، أشعر بالغربة داخل غزة. لقد فقدت القدرة على احتضانها كما يجب. حزنت لأنني استخدمت القياسات والذاكرة البعيدة لمعرفة الأماكن. كانت غزة عصفورة في يدي وطارت، وها أنا الآن أحاول استرجاعها، لكنني كلما أمسكت قطعة منها، وجدتها بأجنحة مكسورة.

شعرت وأنا أخطو في شوارعها بانكسار ووحشة. مرّت سنين عمري في هذا المكان الجميل، عشت خلالها لحظات حلم متخيلة، وتحوّلت بفعل الحرب إلى كابوس.

لا طرق مرصوفة في المكان، لا بنايات شامخة، لا بنية تحتية، هي كتل من الركام المرعب فقط. تبعثرت مكونات المكان الذي اقترب سابقاً من أن يفرش الورد لأهله. غزة بعد السابع من أكتوبر ليست كما قبله، مدينة بأكملها أضحت بلا ملامح، بلا ألوان.

وصلنا إلى أماكن البنيان على ساحل الرشيد، كل شيء كان مدمّراً، كل شيء من حولنا، وبحلول الليل، صار مدعاة للبكاء

وصلتُ إلى عمق مدينة غزة بعد مشي دام أربع ساعات، ووصلتُ إلى دوار الـ17 غرب غزة.

وخلال رحلة المشي، حملت أيضاً تعب ما يقارب خمسمائة يوم من الحرب. جئت لأرميه في بحر غزة، البحر الذي كنت ألقي فيه الطوب سابقاً حينما أمتلئ بالغضب. تعود غزة وتداويني، تسحب البساط من تحت أحزاني، فأرجع خفيفاً، راضياً.

لكن للأسف، لم أشعر بهذا الرضا حين عدت إليها مجدداً. كانت هي من امتلأ بالغضب هذه المرة. وأنا لا أعرف كيف أداويها.

على كل حال، عدت إلى مدينة غزة. أنا الآن في رحابها، أعيش ألمها، ونتشارك الجراح، جراح يد فيها مائة ألف إصبع، بيد أني على يقين بعودة أخرى، هي عودة الحجارة والشوارع.

ستعود غزة صورة داخل الإطار لا خارجه، سيعود البحر يضحك لأهله، يربّت على أكتافهم عما قريب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image