شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
يوميات من غزّة (30)... ساعة أمام مغسلة الموتى

يوميات من غزّة (30)... ساعة أمام مغسلة الموتى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الثلاثاء 2 أبريل 202402:01 م

لا أعلم كيف أكتب الآن، مصادفة كنت أجلس في مستشفى أبو يوسف النجار على المقاعد أمام مغسلة الموتى. كان ذلك اليوم هادئاً نوعاً ما، إلّا أن الهدوء في هذه المدينة التي تمتلئ بالدماء كاذب، مثل كل الاتفاقات والمفاوضات التي تخرج كل أسبوع، والمماطلات التي تكبر كل يوم على حساب أرواحنا.

جاءت سيارة الإسعاف ملأى بالجثث، وأخرى ملأى أشلاء، وجثث أخرى كان نصيبها بأن تحتفظ بجزءٍ منها مقابل اختفاء الباقي. كانت غالبية الأشلاء في داخل أكياس، مجتمعة معاً، أمّا البقية فمنها ما كان ملفوفاً في أغطية ربما جمعها الجيران ليحفظوا هيئة الشهيد الأخيرة.

لم أستطع التحرك من مكاني، رائحة الدم تملأ المكان، ومعدتي تئن، شعرت أن هروبي خيانة، مثل كل الخيانات ارتكبتها من قبل وندمت عليها لاحقاً، لكن أكبرها على الإطلاق كانت عندما غادرت إلى الجنوب، لا أريد أن أكبر بعبء هذه الخيانات، لذلك بقيت مكاني.

جاءت سيارة الإسعاف ملأى بالجثث، وأخرى ملأى أشلاء، وجثث أخرى كان نصيبها بأن تحتفظ بجزءٍ منها مقابل اختفاء الباقي. لم أستطع التحرك من مكاني، شعرت أن هروبي خيانة، أكبر الخيانات التي ارتكبتها على الإطلاق كانت عندما غادرت إلى الجنوب، لا أريد أن أكبر بعبء هذه الخيانات، لذلك بقيت مكاني

الرحيل الجماعي

أسرع من الضوء والصلاة والوداع، ثم مجيء الأمهات والزوجات، العمّات والخالات، البنات والأبناء.

أثقل من صخرة كل هذا الصراخ والبكاء.

والأثقل منهما أن تختفي مشاعرك وتقف بكل ثقلك في المنتصف، كان هذا حال زوجة شهيد منهم، سألها أحد الصحافيين :

"ماذا تقربين للشهيد؟". لم تجب، لكن جاءت أصوات نساء أخريات يقفن إلى جانبها: "زوجته".

تمت الصلاة على الشهداء جماعةً، خاصة أنّ الموت الفلسطيني لا يأتي إلا جملةً، فلا أحد يرغب في الرحيل وحده، بل نرحل جماعات، كما نجلس ونأكل وننام جماعات، وفي النهاية نحن الذين نتشارك في كل شيء هل سيموت كل واحد منا على حدة؟

أمامها تلك الزوجة الصامتة، كانت هناك امرأة أخرى تصرخ على شهيد آخر، تهزّ جسده: "قوم يمّا، قوم برضايا عليك تقوم". والرجال الذين يقفون حولها يقولون لها "حرام يا حجّة… حرام يا حجّة".

ما الحرام في الأمر بالتحديد؟! أتساءل وأحاول أن أقدم على الخيانة، تصرخ النساء بشكلٍ جماعي أيضاً، فالحزن هنا واسع ومشترك، له قلب رخو يتأرجح بين ضلعين، لو نسيته من جهة سيضربك من الجهة الأخرى، الحزن هنا هو المكان كله.

يختفي الشهداء وكذلك النساء، تنزوي الأمهات والزوجات جانباً، بعيداً عن كل هذا الضجيج، لن تغفو الليلة امرأة دفنت زوجها أو ابنها أو أباها أبداً، لن تتجاوز الأمر، حتى لو رأوها مليئة بالصبر كما يدّعون.

هذا ما قالته لي إحدى النساء التي فقدت زوجها قبل مئة يوم " هذا الصبر كذبة، بل هي ردات فعل تختلف من شخص لآخر، نحن لا نستطيع تجاوز الفقدان والألم".

جثة مجهولة

لملم عامل النظافة بعد اختفاء الشهداء كل "المشتايح" أي الألواح الخشبية التي كانوا قد صفوها لوضع الجثث عليها، وبدأ يرش الماء للتخلص من الدم المنتشر في المكان، لكن كانت هناك جثّة واحدة لا تزال على أحد هذه الألواح ، ظلّ وحيداً دون صراخ، أو بكاء أو حتى نظرة هدوء، أخذت الجثّة هدوءها وورقة على صدرها "مجهول من ميدان مراج".

ملقى على جانب غرفة تغسيل الموتى، مغطى بكيس أسود، بارد، خائف، لا تظهر ملامحه البتة، دون عائلة وما من أحد يعرفه، تظن أمه أنه سيعود بعد قليل للبيت وهي التي اعتادت دائماً أن يتأخر، وأن يغلي صدرها من القلق عليه.

لملم عامل النظافة بعد اختفاء الشهداء كل "المشتايح" أي الألواح الخشبية التي كانوا قد صفوها لوضع الجثث عليها، وبدأ يرش الماء للتخلص من الدم المنتشر في المكان، لكن كانت هناك جثّة واحدة لا تزال على أحد هذه الألواح ، ظلّ وحيداً دون صراخ، أو بكاء أو حتى نظرة هدوء، أخذت الجثّة هدوءها وورقة على صدرها "مجهول من ميدان مراج"

وربما له زوجة في خيمة تحاول إشعال النار فتفشل كعادتها وتترك القدر دون أن تصنع أي شيء من الطعام وهي تردد أمام أطفالها: "بس يجي أبوكوا بعمللكوا أكل".

وربما له طفلة في مراكز الإيواء، تجلس على باب مدرسة تنتظره مع حلوى مفقودة سيأتي بها لها. شعرت للحظة أنني يجب أن أبحث عن عائلة هذا المفقود، أبرّد نار القلق، ألا نقول في الحرب أن نعرف مصيره وندفنه أهون علينا من هذا المجهول؟ لكن أين سأبحث عن عائلته؟

نجاة بؤبؤ واحدة

قبل هذه الساعة، كنت أسمع فقط من الأطباء والأصحاب عن قصص عدّ الشهداء، أتذكر جيداً يوم مجزرة المعمداني، كان الوقت مرعباً جداً، الليل أسود من الفحم، جلسنا متحلقين على الجدار الذي اعتدنا أن نحتمي به، كلنا، العائلة التي نزحت إليها في الشمال، والنازحون إليها وأنا.

أتذكر جيداً يوم مجزرة المعمداني، كان الوقت مرعباً جداً، الليل أسود من الفحم، جلسنا متحلقين على الجدار الذي اعتدنا أن نحتمي به، كلنا.

كان هذا نزوحي الثاني في الشمال، أخذت إحدى بنات هذه العائلة بالتواصل مع زميل لها في كلية الطب -متطوع في مستشفى الشفاء- قال لها: إنهم يحصون الشهداء بعدد "بيابي" العيون التي تصل للمشافي، ومن يفقد بؤبؤ عينه بين الركام يفقد رقمه ويصبح مفقوداً.

هكذا صرنا نخاف من فقدان بؤبؤ العين، وعندما قُصفت إحدى السيارات خرج منها الرجال هرباً من الصاروخ التالي، وقعت وقتئذ عين الرجل، فنزل والتقطها، ولحسن الحظ أنّه كان أسرع من الصاروخ ونجا ببؤبؤ عينٍ واحدة وأخرى في يده.

أخيراً، بعد أن شعرت أنني قدمت مواساة صامتة للشهداء في تلك الساحة، أخذت نفسي دون خيانة هذه المرة ورحلت من المستشفى، ربما الخيانة الوحيدة التي فعلتها أنني تركت الجثّة المجهولة وحدها هناك دون مؤانسة، كان يجب أن أحدثها وأطمئنها حتى مجيء أحد قبل الليل وازدياد البرد، كان يجب أن آخذ غطاءً وأضعه عليها حتى لا يموت الشهيد للمرة الثانية من شدة الخوف والبرد والقهر.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

0:00 -0:00
Website by WhiteBeard