تمكّن تكتل فريدريش ميرتس، الذي يضم الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي، من دخول البرلمان الألماني (البوندستاغ)، بعد حصوله على 29.52% من أصوات الناخبين. وبرغم هذا الإنجاز، لم يستطع ميرتس، الذي يلقبه الألمان تودّداً بـ"ميتي"، أن يكون نجم الحدث، حيث سرقت الأضواء نتائج حزب البديل من أجل ألمانيا، بقيادة أليس فايدل، الذي حصل على المرتبة الثانية ننسبة تصويت بلغت 20.8٪، في انتخابات وصفها المراقبون بـ"التاريخية".
ما يجعل هذا الفوز استثنائياً، هو الإقبال الكبير على صناديق الاقتراع، حيث بلغت نسبة المشاركة 52%، من أصل 59.2 مليون ناخب مؤهل، ما يعكس حجم التفاعل الشعبي مع هذه الانتخابات. وبذلك، يُنظر إلى فوز فايدل، على أنّه مستحَق، وبات برنامجها السياسي يحظى بقبول متزايد.
وخلال حملتها الانتخابية، أثارت فايدل، الجدل بمقترحات صادمة، من بينها ترحيل اللاجئين إلى جزيرة نائية، كما لم تُخفي إعجابها الشديد بدونالد ترامب، واعتبارها مارغريت تاتشر، مثلها الأعلى.
مع هذا الزخم السياسي غير المسبوق، يبرز السؤال: هل ستتمكن فايدل، من إعادة تشكيل المشهد السياسي الألماني وفق رؤيتها محوّلةً ألمانيا إلى "بلد العجائب"؟
دهاء الحب والسياسة
وُلدت أليس فايدل (46 عاماً)، في بلدة صغيرة قرب شمال الراين-وستفاليا في غرب ألمانيا، لوالدٍ يعمل في البناء، ووالدة تعمل في التمريض. بعد إنهاء دراستها الثانوية، التحقت فايدل، بتخصص الاقتصاد وإدارة الأعمال، ثم واصلت مسيرتها الأكاديمية لتحصل على دكتوراه في العلاقات الاقتصادية الدولية، مركزةً اهتمامها على الصين. دفعها مسارها المهني إلى التنقل بين سويسرا وألمانيا.
أليس فايدل تجمع بين الذكاء الاجتماعي والدهاء السياسي، إذ تترأس حزباً يعادي المثليين والمهاجرين، رغم كونها مثلية وشريكتها من أصول سريلانكية
ورغم الخطاب اليميني المتشدد لحزب البديل من أجل ألمانيا، تعيش فايدل حياةً تتناقض مع شعارات حزبها، كاشفةً عن شخصية ذات ذكاء اجتماعي ودهاء سياسي لافتين. فقد تمكنت من الوصول إلى زعامة حزبٍ يعادي المثليين، بينما تعيش علناً مع شريكتها ذات الأصول السريلانكية، مدركة تماماً موقف حزبها المتشدد تجاه المهاجرين.
تعكس هذه القدرة على المناورة والتكيّف شخصيةً قياديةً حادة الذكاء واسعة الحيلة. لكن السؤال الأهم هو: كيف سيواجه المهاجرون، خاصةً من هم من أصول مهاجرة، هذا الدهاء السياسي؟
الجحيم هو المهاجر
يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: "الجحيم هو الآخر"، لكن في الدول الصناعية المتقدمة، كلّما تراجع الاقتصاد، تحول الشعار إلى "الجحيم هو المهاجر". فقد أظهرت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات الألمانية، أنّ ملف اللاجئين تصدّر اهتمامات الناخبين، باعتباره المفتاح الأساسي لحلّ الأزمة الاقتصادية التي تواجهها ألمانيا.
يرى الدكتور حسام الحملاوي، الباحث المصري المتخصص في العلوم السياسية والمقيم في برلين، أنّ الانتخابات الألمانية تأتي في لحظة حرجة، حيث تواجه البلاد أزمةً اقتصاديةً متفاقمةً يُتوقّع أن تزداد حدّةً في الفترة المقبلة، مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي، وإغلاق المصانع، وتسريح أعداد كبيرة من العمال، ما يثير قلقاً واسعاً ويدفع الناخبين إلى البحث عن حلول، وإن كانت متطرفةً.
وفي حديثه إلى رصيف22، يوضح الحملاوي: "مع استمرار تدهور الوضع الاقتصادي شهراً بعد آخر، بدأ الناخب الألماني يفقد الثقة بأحزاب الوسط التقليدية، متجهاً نحو خيارات أكثر جذريةً. ومع عجز اليسار عن تقديم بديل فعّال، تحوّلت الأصوات إلى الأحزاب اليمينية، التي وجدت في المهاجرين والأجانب شمّاعةً لتعليق الأزمة الاقتصادية".
حسام الحملاوي: ينتظر المهاجرين مستقبلٌ مظلمٌ مع الأسف. لقد فرض اليمين المتطرف أجندته على الساحة السياسية، ومن المتوقع أن نشهد ترحيلات للمهاجرين، وزيادةً في رفض طلبات اللجوء.
ووفق التقديرات، تواجه ألمانيا تهديدات جديةً تُعرّض نموذجها الاقتصادي التقليدي، الذي ازدهر منذ الحرب العالمية الثانية، لخطر التراجع. وباعتبارها أكبر قوة اقتصادية في أوروبا، تعاني البلاد من ركود غير مسبوق، إذ لم تكد تتعافى من تداعيات جائحة كوفيد19، حتى وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، ما أثّر على قطاع الطاقة، حيث تعتمد ألمانيا بشكل كبير على الغاز الروسي لتشغيل عجلة إنتاجها. برغم ذلك، فإنّ اللائمة تُلقى على المهاجرين غير الشرعيين بوصفهم "عالّةً على المجتمع"، تستنزف اقتصاد البلاد.
وعن مستقبل المهاجرين غير الشرعيين، خاصةً السوريين منهم، في ظل حالة الاستقطاب الراهنة، يجيب الحملاوي: "ينتظر المهاجرين مستقبلٌ مظلمٌ مع الأسف. لقد فرض اليمين المتطرف أجندته على الساحة السياسية، ومن المتوقع أن نشهد ترحيلات للمهاجرين، وزيادةً في رفض طلبات اللجوء. أما بخصوص السوريين، فإنّ سقوط بشار الأسد أصبح حجةً لتعليق إجراءات لجوئهم، ومن المتوقع رفض طلبات إقامتهم وترحيلهم بحجة أنّ سوريا أصبحت بلداً آمناً".
انتعاشة يسارية
تعكس نتائج الانتخابات الألمانية الحالية مشهدًا سياسياً متغيراً، فقد حصد تحالف الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي 29.52٪ من الأصوات، فيما نجح حزب البديل في الحصول على 20.8٪، ووصف المستشار السابق أولاف شولتس حصول حزبه، الديمقراطي الاجتماعي، على 16.3% من الأصوات، بأنه "هزيمة مريرة". و استطاع حزب اليسار الحصول على 8.5% من الأصوات، ما مكّنه من دخول البرلمان.
ورغم النسبة الضئيلة التي حصل عليها حزب اليسار، يرى البعض أن دخوله إلى البرلمان يشكل مؤشراً مهماً على وجود أصوات مناهضة للخطاب اليميني السائد، تسعى إلى تنظيم نفسها والانخراط بفعالية في المشهد السياسي.
في هذا السياق، تتحدث هبة عبيد، الصحفية الألمانية من أصول فلسطينية، عن تجربتها الانتخابية لرصيف22 قائلة: "بشكل غير مباشر، عند صعود التيارات اليمينية في ألمانيا، يسود جو من التطرّف في البلاد، ما يخلق شعورًا بعدم الارتياح في العديد من المناطق. أنا أسكن في منطقة كان التصويت العام فيها لصالح الأحزاب اليسارية، وقد صوتُّ لليسار أيضًا، لكن في مناطق أخرى يمكن الشعور بتأثير التيار اليميني بشكل أوضح".
رغم حصوله على 5% فقط، فإن دخول اليسار الألماني البرلمان إنجاز غير مسبوق، يعكس تحولاً سياسياً قد يقوده الشباب والمهاجرون مستقبلاً
وتضيف عبيد: "أنا أحمل الجنسية الألمانية، وأصولي فلسطينية سورية، وأعتقد أن التغيرات السياسية تؤثر علينا جميعًا، لكنها تؤثر بشكل أكبر على من هم حديثو اللجوء، أو من ينتظرون لمّ شمل عائلاتهم، أو من تعتمد تأشيراتهم على قرارات معينة. هؤلاء هم الفئة الأكثر تأثرًا".
وتلفت عبيد إلى أن الحزب اليساري تمكن من دخول البرلمان الألماني بعد حصوله على 5% من الأصوات المؤهلة. صحيح أن هذه نسبة صغيرة مقارنة بما حصلت عليه الأحزاب الأخرى، لكنها تمثل إنجازًا غير مسبوق لليسار الألماني، ما يشير إلى تغير في المزاج السياسي قد يلعب فيه الشباب اليساري والألمان من أصول مهاجرة دورًا أكبر في المستقبل، الأمر الذي يجعلها "لا تفقد الأمل في ألمانيا"، على حد تعبيرها.
ويتفق مع هذا الرأي حسام الحملاوي، الذي يرى أن هناك جيلًا يساريًا جديدًا بدأ يتحرك وفق بوصلة مختلفة عن اليسار التقليدي المنحاز إلى السردية الصهيونية، متوقعًا أن يعزز اليسار الألماني تأثيره الاجتماعي والسياسي في المستقبل.
ثِقل معطّل
وبرغم تصاعد الخطاب المناهض للّاجئين والمهاجرين، يظلّ الناخبون من أصول مهاجرة، خاصةً العرب، بعيدين عن دائرة التأثير السياسي، سواء بسبب ضعف الاندماج أو لانشغالهم بأولويات أخرى، ما يطرح تساؤلات حول إمكانية إحداث التغيير عبر تشكيل جماعات ضغط تقوم على مصالح محددة، تتيح لهم هامشاً للتحرّك والمناورة السياسية.
ولتحليل المشهد السياسي الراهن في ألمانيا، يوضح رضوان قاسم، مؤسس مركز "بروجن" للدراسات الإستراتيجية والعلاقات الدولية في برلين، لرصيف22، قائلاً: "لا شك أنّ هذه الانتخابات تُعدّ استثنائيةً ومليئةً بالمفاجآت، حيث شهدت مشاركة عدد غير مسبوق من الأحزاب، بلغ 41 حزباً، تمكّن 10 أحزاب منها من خوض المنافسة على المستوى الوطني. يعكس هذا التنوع حجم الانقسامات السياسية داخل المجتمع الألماني، ما يُبرز تراجع الأحزاب التقليدية وظهور تيارات سياسية جديدة".
ويشرح قاسم: "فمثلاً، على الرغم من الحملات الدعائية المكثفة ضد حزب البديل من أجل ألمانيا، الذي تتزعمه أليس فايدل، إلا أنّ الحزب واصل تقدّمه، محتلّاً المرتبة الثانية بعد تحالف الحزب الديمقراطي المسيحي-الاتحاد الاجتماعي المسيحي، وهو ما يشير إلى تصاعد التأييد الشعبي لليمين المتطرف في ألمانيا، برغم الانتقادات الواسعة التي تواجهه".
عن سؤال لماذا لا يتمتع الناخب الألماني من أصول مهاجرة، خاصةً العربية، بتأثير قوي في الحياة السياسية؟ يجب قاسم، بأنّ سبب ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى "مستويات الاندماج المنخفضة". فالكثير من المهاجرين لم ينخرطوا بشكل كامل في المجتمع الألماني، ما أدى إلى عزوفهم عن المشاركة السياسية، سواء على المستوى المحلي أو الوطني.
ويكمل: "ويظهر ذلك جلياً في ضعف نسبة التصويت بين الألمان ذوي الأصول العربية، إذ لا يشاركون بفعالية في الانتخابات البلدية أو البرلمانية، ما يضعف قدرتهم على تشكيل جماعة ضغط أو لوبي عربي مؤثر".
أثر الخطاب اليميني المتطرف على توجهات الشباب من أصول مهاجرة، مما دفع بعضهم إلى التصويت للأحزاب اليمينية كوسيلة لإثبات انتمائهم إلى الهوية الألمانية
يشير المحلل السياسي رضوان قاسم، في حديثه إلى رصيف22، إلى نقطة مهمة للغاية، هي أنّ فئة الشباب من أصول مهاجرة تلعب دوراً سلبياً في المشاركة السياسية. فهؤلاء، مثل الشباب الألماني عموماً، يميلون إلى العزوف عن السياسة، حيث يركزون بشكل أساسي على تحقيق الاستقرار الشخصي والرفاهية، على عكس الفئات الأكبر سنّاً والتي تظهر التزاماً أكبر بالمسائل السياسية.
الأمر الأكثر خطورةً، هو أنّ الخطاب اليميني المتطرف قد أثّر بشكل كبير على توجهات الشباب من أصول مهاجرة، حيث يُلقي هذا التيار باللوم على المهاجرين في المشكلات الاقتصادية والأمنية التي تواجه البلاد. وقد دفع هذا الخطاب بعض الألمان من أصول مهاجرة إلى الاقتراب من الأحزاب اليمينية المتطرفة والتصويت لها، في محاولة لإثبات "ألمانيتهم" ووطنيتهم.
وفي ختام مداخلته، يلفت قاسم، إلى أنّ المخاوف الاقتصادية تلعب دوراً حاسماً، حيث لا يتردد بعض الشباب من أصول عربية في دعم أحزاب يمينية، إذا رأوا أنّ سياساتها ستفيد الاقتصاد الوطني، حتى لو كانت تلك الأحزاب تتبنى مواقف معاديةً للهجرة والمهاجرين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Some One -
منذ 19 ساعةالذي كتب وتخيل هذه العلاقة، وتخيل مباركة الوالدين، وتقبل المجتمع لهذه المثلية الصارخة. ألم يتخيل...
مستخدم مجهول -
منذ يوميناول مرة اعرف ان المحل اغلق كنت اعمل به فترة الدراسة في الاجازات الصيفية اعوام 2000 و 2003 و كانت...
Frances Putter -
منذ 3 أيامyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ 5 أيامأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ 5 أيامتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ 6 أيامغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...