إنها ليست المرّة الأولى التي أجمع فيها شغفي، وأضعه في صندوق محكم. وكما في كل مرّة، لا أريده أن يتبعثر فأهدر مزيداً من الوقت والطاقة كي أجمع أجزاءه وأرجعه إليّ. هذا الشغف قد يكون من كماليات الحياة السائدة هنا في بلاد شرق المتوسط، وقد يتحوّل مع الوقت إلى طراز قديم منتهي الصلاحية. لكن على الرغم من هذا، أرى أنّي روّضت نفسي بما يكفي سعياً إلى أن أعود إليه، ففي نهاية المطاف العودة إلى الشّغف تعني عودتي إلى ذاتي. هل يمكن للذات أن تصبح ترفاً؟ أخشى ذلك. أجزم بأن الجواب حتماً لا، فيدخلني تسلسلي هذا رسميّاً إلى عالم الإنكار السائد والمتوارث في بلاد شرق المتوسط.
أوّد أن نتذكر معاً أيضاً، أنّ خوفنا من الأمور لن يمنع حدوثها.
جينيّاً، ورثت من أبي شكل عينيه، والشّيب المبكر إلى حدّ ما، وبعض المشكلات الصحية. تلك المشكلات كان بعضها حقيقياً وموجوداً فعلاً، وبعضها الآخر كان وهميّاً مدرجاً ضمن خانة الوسواس المرضي أو Hypochondria، وتعريفه "أنّه قلق مفرط من أن تكون مريضاً في حالة خطيرة، ربما دون وجود أي أعراض جسديّة. قد تعتقد أيضاً، أنّ أحاسيس الجسم الطبيعية أو الأعراض الطفيفة هي مؤشرات على مرض خطير على الرغم من نفي الفحص الطّبي وجود أي حالات مستعصية". هذا تعريفه كما ظهر على شاشة الهاتف في محرّك البحث "غوغل". أمّا بالنّسبة لي، فالموضوع مختلف. لم ينشأ وسواسي المرضي من العبث. تبعاً لمراجعة ذاتية، هو تراكم عوامل ومسببات عدة يمكن حصرها في سببين اثنين: والدي وتجارب صحيّة سيئة. كان أبي كثير الخوف علينا، يخشى من مسافة الطّريق حين ننتقل من مكانٍ إلى آخر، حتّى لو كنّا في نطاقٍ قريب. حفظت عنه منذ طفولتي كيف نطمر رأسنا، وجزءاً من وجهنا بعد الاستحمام، ونهرع إلى غرفة مقفلة الشبابيك حتّى لو كنّا في لهيب الصّيف، كي لا "يلفحنا" أيّ هواء. كان أبي يعدّ هذا أمراً وقائيّاً طبيعيّاً حتى اليوم الذي اكتشفت فيه أنه ليس كذلك على الإطلاق. هذا الخوف المفرط كوّن في المقلب الآخر عند أبي، حالةً من الإنكار، يعتمدها كإستراتيجيةّ دفاعيّة ذاتية كي يستريح من قلقه، أو من أيّ واقع سيئ غير قادر على احتماله ومواجهته، وكوّن عندي مزيداً من القلق. تطميناته حين كنت صغيرةً، والتي كانت تبعث في نفسي الهدوء، صارت اليوم دافعاً إضافيّاً كي أزيد تعلّقي بـ"غوغل"، طبيبي الافتراضيّ. يوماً بعد آخر، صار يتحّول هذا الوسواس إلى غاز سامّ يتسرب إلى كياني، إلى خلايا دماغي بكل أنواعها، فأشعر بأنّي مخدّرة، أعيش كمراقب صحّي مهووس فحسب، وعاجز عن الاستمتاع بأبسط لحظات الحياة أو التّفكير في أي تفصيل آخر. يتسلل هذا الغاز إلى يومياتي ببطء فيدخل الشّغف في غيبوبة طويلة.
أمّا بالنّسبة لي، فالموضوع مختلف. لم ينشأ وسواسي المرضي من العبث. تبعاً لمراجعة ذاتية، هو تراكم عوامل ومسببات عدة يمكن حصرها في سببين اثنين: والدي وتجارب صحيّة سيئة
لطالما كان الشّغف عندي موسميّاً كالثياب الصّيفية، أوضّبه وأفرغه حسب الحالة العامة. تلبّدت أيامي حين اخترت اختصاصي الجامعي الذي لا يشبهني، فاقتضى الأمر مني توضيب الشغف كي أكمل أعوامي الجامعيّة. كنت أعتقد في طفولتي أنّ الحياة تشبه اللعب، وتسير بالبساطة التي نريد لها أن تكون. كنت أتخيّل أنّي -وبتلك البساطة- سأمتهن كتابة القصص والروايات. أجلس بهدوء في غرفة صغيرة طرازها قديم، ويدخلها الضوء من شباك إطاره خشبيّ، يطلّ على حديقة هادئة مليئة بالشجر المتدلّي. لكنّي كبرت وفهمت أن واقع الأشياء مختلف، وأن الأمنيات لا تصنع الأحلام. عرفت أنّ بناء تلك الغرفة أساس لوجودي فيها، وأنّه ما من أحد سيبني لي غرفتي. صارت تلك الأمنية حافزاً يدفعني كي "أصبر على ما أكره حتّى أنال ما أحب".
في الطريق نحو تحقيقات الأمنيات، تفاصيل كثيرة تجعل المسافات الطويلة تبدو أقصر، وتجعل الرحلة أكثر أنساً. رفيق درب يعطيني كتفه حين أتعب، يد طفلتي الناعمة التي تنثر حبّاً على خدّي، وصوت أمّي ورائحة طهيها الزكيّة، وطعم قطعة من الشوكلاتة تذوب لذّةً في فمي، وعائلة يتبادل أفرادها الألفة إكتراثاً، وأبي... أبي الذي لا يزال ينتظر شيئاً ما.
في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي، فقد والدي بشكل كلّي ومفاجىء السّمع في إحدى أذنيه. تصادف ذلك مع العدوان الأخير على لبنان. عاد والدي إلى بيته فاقداً جزءاً من سمعه، وأشياء كثيرةً أخرى. لم أحزن لأنّ والدي تعرّض لتلك الوعكة التي لا حلّ لها، بقدر ما حزنت لأنه هو الذي يخشى من لفحة الهواء، لم يكترث للأمر، ولم تكن عنده أدنى رغبة في زيارة الطبيب على غير عادة. في تلك اللحظة، أيقنت أنّ تلك الحرب أطفأت ما تبقّى من وميض في وجه أبي. في اعتقادي، يعيش والدي خيبةً مركّبةً فجّرها الواقع المستجد بعد الحرب الأخيرة على لبنان. يعتبر أنّه على مرّ الأعوام الطّويلة الماضية، كان يزرع خوفاً وحرصاً وقلقاً وجهداً وسعياً، لكنه لم يرَ حصاداً في أعوامه السبعين. أينما يولِّ وجهه، يرَ أرضاً محروقةً لم تعد تصلح لزرع أي أمنيات. يفتح أبواب مكتبته العتيقة دون ملل، وينتظر قرّاءً لن يأتوا .
في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي، فقد والدي بشكل كلّي ومفاجىء السّمع في إحدى أذنيه. تصادف ذلك مع العدوان الأخير على لبنان. عاد والدي إلى بيته فاقداً جزءاً من سمعه، وأشياء كثيرةً أخرى
تزامنت ذكرى ميلاد أبي مع عشية عيد الحب واليوم العالمي للإذاعة. أبي الذي اختار الهروب للعيش مع نشرات الأخبار فانقطعت أخباره عنّا، ينتظر باستمرار خبراً يبدّل حاله، ويستمع دائماً دون أن يتكلم... وحين يغادر كلّ منّا إلى وجهته، يقبّلنا بحرارة. تلك القبلة هي طريقته كي يخبرنا كيف يحبنا، وكم هو سعيد بنا حتّى لو لم نتبادل أي حديث مقتضب.
في ذكرى ميلاد أبي، أوّد أن أضيء شمعةً و أطفىء صوت الإذاعة قليلاً. نأكل قطعةً من الشوكولاتة، أغمر أبي وأخبره بأنّه ليس وحيداً، وأنّ من يحبّونه هنا يهمسون له بصوتٍ إن لم يسمعه، سيشعر به. يقولون له إنّه بإمكاننا معاً أن نعيد الوميض إلى عينيه. أوّد أن نتذكر معاً أيضاً، أنّ خوفنا من الأمور لن يمنع حدوثها. أوّد لأبي أن يؤمن من جديد بأنّ النّزهة ما زالت مشروعاً بسيطاً يُدخل النور والهواء إلى الرئتين، وأن يؤمن بالشغف مرةً أخرى، وأن يدرك أنّ الذات لا يمكن أن تكون يوماً ترفاً. أتمنى لأبي أن يحبّنا دون خوف، وأن يخبرنا عن حاله حقّاً... وأن يتذكر ما قاله عبد الرجمن منيف، في كتابه "شرق المتوسط": "مهما ضاقت الدنيا ومهما صغرت، فإنّ فيها شقّاً ينفذ منه النّور ويحمل الهواء".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 ساعاتاول مرة اعرف ان المحل اغلق كنت اعمل به فترة الدراسة في الاجازات الصيفية اعوام 2000 و 2003 و كانت...
Apple User -
منذ يومينl
Frances Putter -
منذ يومينyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ 3 أيامأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ 4 أيامتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ 4 أيامغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...