في منتصف شهر كانون الثاني/ يناير من العام الجاري 2024، العام الجديد الذي بدأ بغارة جوية إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت، شعرت بالخوف الشديد من توسّع رقعة الحرب بعد أن كانت الضربات محصورةً في الجنوب اللبناني.
بدأ القلق يسيطر عليّ، وأسئلة كثيرة راحت تتردد في ذهني: "هل أتى دورنا؟ هل سأعيش تجربة أهل غزة؟ هل سأفقد من أحبّ؟ هل ستعيش أمّي معاناة أمّهات غزة؟ هل ستموت هي أيضاً وأبقى أنا على قيد الحياة؟".
ليلة السبت، في 13 كانون الثاني/ يناير الماضي، ظننت أنها ليلة عادية. كنت في غرفة نومي في بيت أهلي، بعد أن عدت للسكن معهم بعد تركي عملي ومنزلي الذي كنت أسكنه بمفردي. دخلت الحمام وفجأةً من دون سابق إنذار أو تمهيد، قلت لنفسي: 'اقتل أمّك'، فابتسمت، لكن هذه الابتسامة كانت مليئةً بالخوف كي أخفّف عن نفسي هَول الفكرة. في أثناء عودتي إلى غرفتي، مررت بجانب غرفة أمّي فشعرت بأنّ قلبي سينفجر من الخوف. قلت في سرّي: "روق، هيدي مجرّد فكرة سخيفة، هلأ بتنام وبتفيق بكرا ما في شي". ليت الحل كان بهذه البساطة. استيقظت نهار الأحد، غارقاً في عرقي، ودقّات قلبي سريعة جدّاً. ظننت أننّي أفقد السيطرة وسأموت في هذه اللحظة. بعد دقائق قليلة أدركت أنّها نوبة هلع (panic attack). بعد انقطاع دام نحو سنة ونصف سنة، عادت هذه النوبات، لكن بشكلٍ مختلف، وليس بسبب انفصالي عن حبيبتي، بل لخوفي من أنني سأقوم بإيذاء أمّي.
مع شن غارة جوية إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت، بدأ القلق يسيطر عليّ، وأسئلة كثيرة راحت تتردد في ذهني: هل أتى دورنا؟ هل سأعيش تجربة أهل غزة؟ هل سأفقد من أحبّ؟ هل ستعيش أمّي معاناة أمّهات غزة؟ هل ستموت هي أيضاً وأبقى أنا على قيد الحياة؟
خرجت من غرفتي بعد ساعتين تقريباً. لم أكن على طبيعتي. كنت حزيناً وخائفاً وقلقاً، لا أعرف ماذا سأفعل. لم أستطع النظر إلى أمّي. كل ما كان يجول في رأسي هي تلك الفكرة البشعة. كنت أشعر بالذنب وأردد في سرّي: "أنا مش هيك، أنا مش هيك". عدت إلى الغرفة ولم أخرج منها.
في المساء، نوبة هلع جديدة مصحوبة بالبكاء. وقفت أمام المرآة، وقلت: "إنت منّك قاتل، ما تخاف ما رح يصير شي، بكرا بتصير منيح". قررت إثبات صحّة ما أقوله لنفسي، وخرجت إلى الصالون وجلست بجانب أمّي، وعانقتها، واستلقيت في حضنها، لعلّ هذا يخفف من خوفي وقلقي.
حينها، ارتحت قليلاً، وأدركت أنني لن أُقدِم على فعل شيء كهذا، وتذكّرت أحاديث أصدقائي عني: "مارك ما بيقدر يقرّب ع نملة"، وابتسمت.
بدأت بالبحث في هاتفي عن الموضوع، وعرفت أنّه من المحتمل أنني مصاب بالوسواس القهري. في البدء لم أستطع تقبّل الأمر، فالعلاج مرهون بالدواء. هنا، تفاقم قلقي، فخلدت إلى النوم على أمل أن استيقظ في الصباح وأنا في حال أفضل.
ولكن من جديد، استفقت بحالة سيئة، وذهبت إلى الجامعة آملاً في تشتيت ذهني عن هذه الفكرة، وللأسف لم أنجح.
عدت إلى المنزل خائفاً يتملكني القلق. لم يعد في استطاعتي رؤية أمّي ولا التواجد معها في المكان نفسه.
كانت لديّ حاجة إلى الحديث مع أحد ما، حول ما يدور في رأسي، لكنني خفت من إساءة فهمي والحكم المسبق عليّ، فلجأت إلى شقيقتي، أملي الوحيد في الاحتواء والمساعدة، ولكنني كنت قلقاً أيضاً من التسبب لها في صدمة واستعادة ذكريات أليمة لأنها هي أيضاً تعاني من الوسواس القهري.
أخبرتها عن حالتي مع التشديد على جملة "أنا مش هيك" لكيلا تشعر بالخوف منّي. عندما استمعت إلي، بدأت بالبكاء، وقالت: "ما تخاف ما رح يصير شي"، وطلبت مني القدوم إلى منزلها، على أن نقصد أحد الأطباء النفسيين لإيجاد الحل.
غادرت منزل أهلي، ولم أودّع أمّي كما أودّعها عادةً عند خروجي من المنزل. لم أقترب منها، ولم أقبّلها ولم أحضنها.
طلبت من شقيقتي أن تخبرَ أمّي عن سبب خروجي من المنزل، فتفهمت حالتي، وأكّدت لشقيقتي أن الأهمّ في هذه الفترة هو أن أتعافى، وأعود إليها بحالة جيدة.
تحدّثت إلى الطبيب النفسي وأخبرته بكل التفاصيل وصوتي يرتجف، فأجابني: "أوّل شي ما تخاف، هيدي مجرّد فكرة براسك ما رح تنفّذها". عندها قال لي إنّي أعاني من اضطراب الوسواس القهري، وإن هذا الاضطراب وراثيّ في العائلة.
طمأنني الطبيب بالقول: في كل التاريخ المعروف لهذا الاضطراب لم يُقدِم أي مصاب به على تنفيذ أفكاره المؤذية في الواقع، وإن أحد الأساليب العلاجية المعتمدة حالياً تتمثّل في تعريض المصاب بالوسواس القهري لمصدر خوفه بشكل مباشر، كأن يعطي المشرف على العلاج سكيناً للمصاب ليؤكد له أن الفكرة لن تدخل حيز التنفيذ، وإن تأثير الاضطراب ينحصر فقط في سيطرة الفكرة على دماغ المصاب.
ليلة السبت، في 13 كانون الثاني/ يناير الماضي، ظننت أنها ليلة عادية. كنت في غرفة نومي في بيت أهلي، بعد أن عدت للسكن معهم بعد تركي عملي ومنزلي الذي كنت أسكنه بمفردي. دخلت الحمام وفجأةً من دون سابق إنذار أو تمهيد، قلت لنفسي: 'اقتل أمّك'، فابتسمت، لكن هذه الابتسامة كانت مليئةً بالخوف كي أخفّف عن نفسي هَول الفكرة
ختم حديثه بالتأكيد على ضرورة تناول الدواء كل يوم قبل النوم لمدّة شهر، وحذّرني من أعراضه الجانبية في فتراته الأولى.
أتذّكر جيّداً أوّل قرص تناولته؛ شعرت بالدوار الشديد وبألمٍ في معدتي وجفاف في حلقي.
اقترحت أختي حينها مشاهدة فيلم، فوافقت؛ ربما أنشغل قليلاً عن التفكير وأنسى الأعراض الجانبية المزعجة. لم أستطع مشاهدة الفيلم بأكمله بسبب التشويش في الرؤية. طلبت منها إيقاف الفيلم معبّراً عن حاجتي إلى النوم. نمت نوماً عميقاً لأوّل مرة منذ سنواتٍ عديدة.
اللحظات الأولى من الصباح كانت غريبةً جدّاً؛ هدوء، وفراغ. تحضر الفكرة في رأسي ولكن بشكلٍ مختلف. مع العلم أنّ عدو الوسواس القهري هو الصباح، لأن الدماغ يكون فارغاً من الأفكار فيه، فيكون المجال مفتوحاً أمام الفكرة الوسواسية أكثر، على عكس الليل، الذي يكون الدماغ في أثنائه منهكاً فتضعف الفكرة أو تنحسر.
قررت عدم البقاء في المنزل والذهاب إلى الجامعة، فالملل والبقاء في المنزل هما بمثابة مكافأة تغذّي الوسواس القهري وتعززه.
وأنا في سيارتي، كان الوضع غريباً جداً؛ لم أشعر بزحمة السيارات من حولي، وكأنني وحيدٌ في الطريق. فراغ أيضاً.
وصلت إلى الصف، ولم أتحدّث إلى رفاقي كالمعتاد. لم نشرب القهوة معاً، خوفاً من أن أنزلق في الكلام وأخبرهم عن حالتي. بقيت وحيداً حتى عدت إلى المنزل.
استمرّت هذه الحال بضعة أيّام، كاد الملل يقتلني خلالها، لكن الإيجابي في الأمر أن تأثير الفكرة عليّ بات خفيفاً، وأصبحت أدرك أنّها مجرد فكرة وأنني في الحقيقة "مش هيك".
تتردد الفكرة في رأسي لكن ليس بشكلٍ متواصلٍ؛ كل ساعتين أو ثلاث ساعات تظهر مرّةً ومن ثمّ تختفي.
بعد أسبوع، قررت العودة إلى منزل أمّي. عدت إليها وكأن شيئاً لم يكن. كنت أشعر بالراحة. الفكرة اختفت بشكلٍ كامل نوعاً ما.
حضنتها بحرارة واعتذرت منها، فبكينا معاً، وقالت لي: "معليه، مهم إنت منيح وما تخاف".
وها أنا اليوم، بحالةٍ جيدّة، أمارس حياتي بشكل طبيعي، ولكن الأعراض الجانبية للدواء، مثل التأثير على الرغبة الجنسية، وفرط الشهيّة، والإمساك، تخذلني.
اللحظات الأولى من الصباح كانت غريبةً جدّاً؛ هدوء، وفراغ. تحضر الفكرة في رأسي ولكن بشكلٍ مختلف. مع العلم أنّ عدو الوسواس القهري هو الصباح، لأن الدماغ يكون فارغاً من الأفكار فيه، فيكون المجال مفتوحاً أمام الفكرة الوسواسية أكثر، على عكس الليل، الذي يكون الدماغ في أثنائه منهكاً فتضعف الفكرة أو تنحسر
الآن، وبعد نحو شهرين على بداية هذه التجربة، لدي تساؤلات ومخاوف كثيرة، فأنا ما زلت ملتزماً بالدواء ولا أشعر بأنني سأوقفه قريباً.
يرعبني احتمال عودة هذه الفكرة بشكلٍ مستمرّ، أو أن تسيطر عليّ فكرة أخرى فتعيدني إلى نقطة الصفر.
لا أعلم ما الذي يحمله المجهول لي ولصحتي العقلية، كما أن الخوف من المجهول هو مسبب أساسي للوسواس القهري.
لكنني مع ذلك، أفكّر في إيجابيات هذه التجربة. إذا كانت هناك أي إيجابيات لهذا الاضطراب البشع، فهي أنني أصبحت أكثر تعاطفاً مع الأشخاص الذين يعانون من مشكلات في الصحة العقلية.
صرت مدركاً أن التعاطف من دون عيش تجربة مماثلة شيء، والشعور بمعارك الآخرين في هذا المجال بعد الإصابة شيء آخر كلياً.
أنا اليوم، ممتنّ لحياتي "العادية"، تلك التي كانت تشعرني بالملل قبل هذه التجربة. الآن أصبحت أقدّر قيمتها وقيمة الملل.
قررت كتابة هذا النصّ لأن كتابة هذه التجربة والأفكار التي في داخلي عنها، أمرٌ مريح، ولعلّه يفيد أي شخص يمرّ في تجربة من هذا النوع أو يعاني من أي مشكلة في صحته العقلية، خصوصاً في مجتمعاتنا التي لا تزال تهمّش الصحة النفسية، ولا تعطي أهميةً للعناية بها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...