شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
لم أبكِ عندما مات أبي

لم أبكِ عندما مات أبي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الخميس 30 يناير 202508:59 ص

تسألني إحداهن باستمرار، وفي كل مرة يجمعنا حديث عن أحوال البلاد والعباد، عائلتها وبيتها وشريكها الذي لم يجب على رسائلها منذ يومين وأكثر: "لماذا لا تبكين على والدك؟ حتى وإن كان قاسياً، حتى وإن عنّفك وضربك وأهانك، ولم يأكل معك في وعاء واحد لما يقارب الثلاثين عاماً؟ يا لقساوة قلبك، فالأب يظل أباً مهما فعل بنا. طاعته واجبة وأمر إلهي لا نقاش وجدال فيه!"، أجيب أنا بالرد ذاته: "أنت لم تمرّي بما مررت به في بيت أبي، هذا الرجل الغريب عني، رغم أن القدر جعلني أرث القليل من ملامحه، عينيه الواسعتين البُنيتين، وابتسامته الهوليوودية الهادئة، التي لا أعرف حتى الآن من أين أتى بها، فهو لم يكن يوماً هادئاً أو حنوناً، إلا نادراً". 

عذراً يا أبي، لم تستطع عيناي البكاء عليك ومنك في الوقت نفسه.

القسوة يرثها الأبناء عن الآباء كالبيوت والأموال 

قديماً كانت الأمور تسير نحو ترتيبها الطبيعي: يموت الأب فيحزن الأبناء، تنكسر الأم وتدخل في ثوبها الأسود لأشهر وربما لسنوات، تتقسّم الثروة، قليلة كانت أم كثيرة، على الجميع، منازل وشقق سكنية ورصيد لا بأس به في البنك، وقطعة أرض زراعية في قرية منسية على أطراف المدينة، أو مبلغ شهري ثابت تمنّ به الدولة على أهل الفقيد، عرفاناً منها بدوره في الارتقاء بالمؤسّسة، وتسمين "كروش" صانعي القرار وحشوها بمئات وآلاف الجنيهات والدولارات، في جميع الأحوال ومها كان ما سيرثه الأبناء عن آبائهم، يظل السؤال يقرع رأسي دون توقف: هل يرث الأبناء القسوة عن آبائهم كما يرثون الأموال؟ هل كان والدي قاسياً كوالده؟ هل أراد أن ينتقم من أبيه بنا فيغذّي شعوره اللحظي بالنشوة والانتصار؟

هو الذي لم يرحمني يوماً، ولم يخبرني لماذا لم يضمّني حِضنه مرة عن طريق الخطأ، لأتأكد أن هناك ما يُسمّى بقلب الأب العطوف الذي لا يقسو قط. 

بوفاة والدي وعدم شعوري بالحزن والألم لفقدانه، تأكدت أننا لا نرث عن آبائنا أموالهم، ملابسهم، ملامح وجوههم وهيئة أجسادهم فقط، حتى مشاعرهم، آلامهم، أحزانهم وأفراحهم نحملها عنهم بعد موتهم. ربما لو كان أبي سعيداً ولو ليوم واحد وممتناً لوالده، لانتقل لي هذا الشعور للحظة واحدة. أتذكرها الآن وأنا أستمع للجميع يدعون له بالرحمة، بينما أشعر بثقل لساني وفقداني الكامل للقدرة على إرسال الرحمات له، فهو الذي لم يرحمني يوماً، ولم يخبرني لماذا لم يضمّني حِضنه مرة عن طريق الخطأ، لأتأكد أن هناك ما يُسمّى بقلب الأب العطوف الذي لا يقسو قط. 

لسنوات طويلة أرعبني سعال أبي وتكّات مفتاحه 

تمر السنوات العشر الأولى ثم الثانية والثالثة، ولا أعلم لماذا لا أشعر بالأمان في بيتي، في غرفتي، في الشارع، في المدرسة، في الجامعة ومقرّ العمل. لماذا تتسلّل البرودة لصدري، فتصطدم بتجويف فارغ، تتسع رقعته كلما مرّ عام أرى فيه وجه أبي العابس، وأسمع صوته المرتفع وهو ينهر أمي ويخبرها أنه لا قيمة لها ولا لبناتها ولا يريدهن في حياته، أو رفضه للإنفاق علينا بحجة أنه لم يقبض راتبه بعد، وخوفي من تكّات مفتاحه لعلمي المُسبق أني على موعد مع حلقة جديدة من معركة قادمة، بطلاها أبي وأمي، بحضور لا أحد، فقط أنا وشقيقتي الصغرى وجدران غرفتي التي هجرتها هرباً من الذكرى وبقايا الحكايات. 

ربما لم تُخلق يد الآباء للصفع فقط 

لم تحمل ذاكرتي الصغيرة سوى صفعات أبي المتكرّرة على خدي الأيمن، لا أعلم لماذا الأيمن تحديداً. المرة الأولى كنت في الثالثة، استقرّت يده العملاقة على خدي المستدير الغض، لسبب لا أذكره، فبعد أن أصبحت في الثلاثين نسيت السبب وتذكرت فقط ألم الصفعة. توالت بعدها لكمات وصفعات كثيرة، في كل مرة كان تجويف أسود شديد البرودة تتسع رقعته في صدري، فلا أستطيع أن أحب أبي ولا أستطيع التوقف عن ذلك، لكن ظلت مشاهد عبور أب يحمل عن ابنته حقيبة مدرستها ويربت بقوة على كفها الصغيرة تأسرني، وترسم نصف ابتسامة على وجهي، بينما تبحث الأخرى عن بقية الحكاية. أفهم حينها أن أيدي الآباء الضخمة لم تُخلق فقط للصفع، ربما يمكنها أحياناً أن تعقد ربطة العنق وضفيرة الشعر، وتصنع حكايا ما قبل النوم. 

لم تحمل ذاكرتي الصغيرة سوى صفعات أبي المتكرّرة على خدي الأيمن، لا أعلم لماذا الأيمن تحديداً. المرة الأولى كنت في الثالثة، استقرّت يده العملاقة على خدي المستدير الغض، لسبب لا أذكره، فبعد أن أصبحت في الثلاثين نسيت السبب وتذكرت فقط ألم الصفعة.

لم يكن الموت كما ظننت بعيداً عن أبي 

قبل أكثر من عام وبضعة أشهر، بينما كنت أعيش في جانب من العالم، ويعيش والدي في الجانب الآخر، تفصل بيننا مدن وشوارع وأجساد ثقيلة وآمال خائبة، ذكريات ثقيلة ويقين باللاعودة، تلقيت خبر وفاته بسكتة قلبية. هكذا يموت رجال ونساء عائلتي عادةً بمجرد انتهاء العام الخمسين. لم أصدق. كنت أرى الموت قريباً من الجميع بقدر ابتعاده عن أبي، لم أتخيله يوماً هادئاً، ساكناً في رداء الموت الأبيض، يحيط به القليل من الأهل والأقارب بدموع زائفة تليق بمشهد الوداع الأخير.

ظللت لأشهر طويلة أظنه حياً سألتقي به في إحدى شوارع العاصمة ولا أعرفه، وضعت مئات السيناريوهات لشكل حياته الحالي إلا سيناريو موته، لا أعلم لماذا نرى الموت بعيد دائماً عمن ظلمونا؟! 

رحل أبي دون أن يخبرني لماذا كنت في السنوات الأخيرة أتحاشى سماع صوته وهو يضحك، يطلق صدره عشرات السعلات المتتالية بعد آخر "نَفس" لآخر سيجارة أشعلها، كأن أذني تصنع ما يُشبه العازل الوهمي لبضع ثوان، يفصلني عن عالمي المُحيط، فلا يتضح لي صوت أبي، فتهدأ دقات قلبي المتسارعة، ويتسلّل الدفء لأطراف أصابعي التي سرعان ما يتحول لونها للأزرق وتدبّ فيها رعشة خفيفة، فلا تقدر على حمل الأشياء. 

تمنيت لو لم تكن حكايتي، لو أن شخصاً ما يعيش داخل جسدي، يرى هو ما رأيته وعشته في بيت أبي.

ليتها لم تكن حكايتي 

تمنيت لو لم تكن حكايتي، لو أن شخصاً ما يعيش داخل جسدي، يرى هو ما رأيته وعشته في بيت أبي. تمنيت لو كنت فتاة أخرى، قادرة على أن تبكي، تصرخ وتشتاق لعناق أبوي طويل، لمن يقولون عنه الرجل الأول في حياة المرأة، ولكن معذرةً يا أبي، فلم تترك لي الفرصة لأبكيك كلما استعدت ذكرياتنا سوياً، ففي الأساس لم تكن بيننا أية ذكريات أستدعيها الآن، غداً، أو بعد انقضاء العام الثاني على رحيلك، وحين نلتقي، لا تسألني لماذا لم أبك عليك وقت علمت بموتك المفاجئ، فحتى ملامح وجهك تتلاشى من ذاكرتي يوماً بعد الآخر، فلم أعد أرى منها سوى ابتسامة تلاحقني وتحبس أنفاسي كلما نظرت لصورة ملفي الشخصي على تطبيق "واتساب".

لم أكن طفلة سعيدة لأحن لأمسي وأهرب إليه 

ربما إذا استبدلت ذاكرتي بذاكرة شخص آخر أستطيع أن أحزن على رحيل هذا الرجل الذي لم يمر عليه سوى عام وبضعة أشهر. أشاهد صورة ما تجمعني بأبي، وألقي عليها التحية ونصف ابتسامة وقليل من الدموع، فأنا مثل الشاعر الفلسطيني محمود درويش، لم أكن طفلاً سعيداً لأقول "الأمس أجمل دائماً"، فلا صور فوتوغرافية تجمعنا، لكن مازال هناك متسع لمزيد من اللقطات العابرة، لمشهد رمادي غير مُكتمل ليد أبي وهي تهوي على وجهي الأيمن، فتُسقط القرط الدائري الجديد، فلا أدري على أي شيء أبكي، على نفسي وقرطي المفقود، أم على يد أبي الغليظة التي أكلها دود الأرض، وصوته التائه في ركن قصي بخزانة ذاكرتي الكبيرة؟

طفولتي لم أذكر منها سوى صفعات متتالية، توبيخ وصرخات ونوبات بكاء هيستيرية، ولوم يلقيه عليّ رجل جمعه القدر بامرأة لم يحبها، فكنت أنا ثمرة رفض وكراهية، وأطنان من الخوف سكنت أحشائي لسنوات

بالفعل لم أكن طفلة سعيدة لأحن لماضٍ بعيد وأهرب إليه، إلى أي ماض يمكنني أن أهرب؟ طفولتي لم أذكر منها سوى صفعات متتالية، توبيخ وصرخات ونوبات بكاء هيستيرية، ولوم يلقيه عليّ رجل جمعه القدر بامرأة لم يحبها، فكنت أنا ثمرة رفض وكراهية، وأطنان من الخوف سكنت أحشائي لسنوات، وددت كل لحظة أن أتقيأها وأستريح، لكن جميع محاولاتي عبث محض، تحملني لمزيد من الألم ولوم النفس والخوف من فقدان ما تبقى مني في كل مرة نظرت لمرآتي وشاهدت وجهه.

عذراً يا أبي، لم تستطع عيناي البكاء عليك ومنك في الوقت نفسه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image