في الأيام الأولى لطفلي، كان تسرّب الهواء مع حليب الرضاعة يزعجه بشكل يجعله دائم الصراخ والتململ، إذ تتجمّع الغازات في معدته، فتحيلها كرة جوفاء، يرعى فيها الألم. وكأم جديدة، كان صراخ الرضيع وإعراضه عن ثديي وعجزي عن احتوائه، مناسبة جديدة لمعاودة اختبار الفشل، وبفداحة أكبر؛ كونها الوظيفة التي اجتازتها أمهات جميع الكائنات فيما عداي.
من جديد كان يكبر ظل الذّنب، ويستحيل معه وجداني حوائط مصقولة ترد صورته إليّ، فلا أدري من مّنا معكوس الآخر.
في كتابها الملهم "كيف تلتئم.. عن الأمومة وأشباحها"، تقول إيمان مرسال، إن الذنب يبدو وكأنه "الشعور الذي يوحّد الأمهات على اختلافهن. إنه يكمن في المسافة التي تقع بين الحلم والواقع، مثلما في البنوّة والحب والعمل والصداقة، هو أيضاً نتاج المسافة بين مثالية الأمومة في المتن العام وبين إخفاقاتها في الخبرة الشخصية".
لكنني بالتجربة عاينت الذنب في مراحل أسبق بكثير، فكان مصدره بالنسبة إلي نابعاً مما وصفته مرسال في كتابها بـ "التاريخ الشخصي السابق على الأمومة".
الذنب وشم الميلاد؛ لأننا خذلناهم وولدنا إناثاً، يلفّونه حولنا مع أول قماطة، وعندما ينزعونها يكون قد لوّن العظم.
أنا مثلاً كنت الرابعة، بعد أخت كبرى، وأخوين طعما حليب الحزن والغضب، فماتا رضيعين، هكذا روت نسوة العائلة، في إدانة مبطنة لأمي.
أتبعتني أمي بثلاثة أبناء آخرين، فصرت الوسطى، بين أختين وأربعة إخوة، اختطف الموت أكثرهم.
فتاة أخرى غير مرحّب بها، شقّت صرختي ثلج يناير، بعدما كادت الذئاب تقتل أبي وصديقه في رحلتهما لإحضار القابلة.
أخبرني الطبيب مفسّراً: "إنها خبرة الألم". قالها هكذا، بطريقة أدهشني أن تصدر عن غير شاعر، وأجزعني أن يواجه الرضيع كلا المعنيين: الخبرة والألم... مجاز
تلقّفتني جدّتي لأمي، وهي لا تكاد تصدّق نجاة زوج ابنتها من مصير زوجها الذي رحل شاباً، وترك أرملة صغيرة؛ فريسة مثالية للإدانة:
الوسطى
وردة الصّليب
مائهة الملمس؛
صعد أخواي الكبيران
دون أن يّجرّبا فتنة الذّئب
والأصغر تدلّت روحه من عنقي
كصرخة تجلّطت في الهواء.
فشلت على الدوامفي الاحتفاظ بأية رجلوبدوت في الصّور المعكوسة، باسمةكلّما أردت أن أنتحب
الوسطى.. الغريرة؛
صدقت أوهام الجدّات
عن نذير لعبة الحجلة،
ولم اعرف أن سأفقد أختا
كل مرة ألعب فيها الغمّيضة.
تروي أمي أنني كنت كثيرة السقم والبكاء، طافت بي على الأطباء وقرّاء القرآن، وبعض القساوسة؛ مهجوسة بأن ألحق بإخوتي الذكور. كانت ما إن تحرّر عضواً لي حتى ينتقل الألم لآخر، وتنتقل منّي إليها عدوى البكاء. لم تحدثني أمي عن الذنب، لكنني اختبرته مع صراخ طفلي كلما رجّه الوجع كلدغة متحركة. لحظّي الجيد، كان صديق العائلة طبيباً ماهراً، أسعفني دواؤه الذي كانت أقل جرعة منه تحيل بكاء طفلي لابتسامة ارتياح.
لكن بتكرار التجربة كان بكاء الصغير يخفت، وتضيق معه ابتسامته، رغم أن وجعه لم يقل أو تتغيّر تركيبة الدواء، وأضيق طردياً بالعيش؛ فقد غامت الرسائل بيننا من جديد، نكصت إلى حدّ التشفير. أخبرني الطبيب مفسّراً: "إنها خبرة الألم". قالها هكذا، بطريقة أدهشني أن تصدر عن غير شاعر، وأجزعني أن يواجه الرضيع كلا المعنيين: الخبرة والألم.
الآن، مع مقاربة ابني لمرحلة المراهقة، كلّما اتسعت مساحة اختلافي معه أتعلّل بكلمات جبران، التي غنتها فيروز: "أولادكم ليسوا لكم... أولادكم أبناء الحياة"، لكن هل تتألم الحياة كلما فشلت في إطعام صغارها؟ الحياة، هل تجزع مثلي كلما واجه أحد أبنائها خبرة الألم؟
الأكيد أن لا؛ وإلا لانتهت بمقتل هابيل، ذلك الناجي الوحيد، الذي طالما غبطته على إفلاته بنعومة من ورطة الحياة، بعدما ركل لأخيه كرة الذنب.
بالنسبة لي، كانت حواء الأجدر بالرثاء، لكن لم تخبرنا الأساطير إن كانت تجاوزت حسرتها؛ المسكينة شقّ الألم صدر أحد أبنائها، واستحال الآخر سيزيفاً ينوء بالإثم وبذنب النجاة Survivor Guilt.
"حواء هي المرأة الوحيدة التي مرّت بخبرة الأمومة بدون أية ذاكرة شخصية أو جماعية عن كونها بنتاً لأم، بدون مرجعية تستضيء بها": تقول إيمان مرسال، في إشارة إلى كون حواء هي الأمّ الأولى؛ ما اضطرها، ووحدها تماماً، لمواجهة نوع استثنائي من الخبرة والألم؛ فهي، وإن تشاركت مع آدم عقوبة مغادرة الجنة، إلا أنها انفردت بمحنة الأمومة، وهي محنة أشق وأدوم برأيي من آلام الولادة التي تطرقت إليها مرسال في كتابها، لكن لا تعبأ الأساطير بالنساء على أية حال:
اليتم كان مناسبة مثالية
ﻹدراك أنّني لست نبية
ولو امتلكت أبا حالما كيعقوب.
لم يودع الرّبّ ثقته امرأة ابداً؛
والّتي صنعت على عينه
كان عليها أن تلملم مزق ابنها
من أفواه الغربان.
مثلها فشلت على الدوام
في الاحتفاظ بأية رجل
وبدوت في الصّور المعكوسة باسمة
كلّما أردت أن أنتحب.
في الفيلم الأفغاني "أسامة" 2003، عندما جزّت المرأة ضفائر طفلتها وألبستها كالصّبيان لتعول العائلة، غرست الصغيرة ضفائرها في أصيص زرع، وارتدت الحياد.
يا لبؤسي! كيف غاب عني أن أمي أطلقت اسماً واحداً على اثنين من أولادها فرحل كلاهما؟
للآن يسكنني وجهها الواجم كمدلول مرئيّ على خبرة الألم، ويحيلني تلقائيّاً إلى الأمّ والجدة اللتين فقدتا كل رجالهما في الحرب، وواصلتا الحياة بجريرة أنهن إناث، عافتهما الحرب واضطرتهما للاقتيات على طفولة الفتاة، التي أطعمتهما الخبز والذنب، قبل أن يسبيها أحد الملالي زوجة رابعة، مضيفاً بها غصناً جديداً لشجرة البؤس:
"لكأن للبؤس شجرة تضرب بجذورها في أرواحنا، تتغذى على أيامنا، وتمتص حيويتنا وآمالنا، ثم تطرح ثماراً من حسك وشوك نلوكها مرغمين، فلا مفر من قدرنا المرسوم"، طه حسين "شجرة البؤس".
لا أحد يمرّر الإرث كالنساء؛ كانت رؤوس الفصول مناسبات مثالية لأمي لرثاء أبيها الذي لاح في طفولتها بالكاد، تفرغ الدولاب من ملابس الفصل المغادر، وتخرج من حقيبة ضخمة ملابس الفصل الجديد، وهي تغني منتحبة بصوتها الأقرب لأسمهان في قصيدة "ليت للبراق عينا"... مجاز
الألم إرث النساء؛ أدركت ذلك قبل أن أقرأ رواية طه حسين، المفتتحة بالمقطع السابق، أو أقرأ عن نظرية كوكبة العائلة Family constellations، والتي تعني في أبسط صيغها أنّ جسدنا ووجداننا يحملان بداخلهما بضعة أجيال من التجارب والصدمات على المستوى الخلوي، ومع هذه الطبقات تأتي العادات والسلوكيات وأنماط الحياة والوجود التي لا يمكننا التخلص منها.
يسمي الخبراء ذلك بـ "المجال المورفوجيني"، أي مساحة غير مرئية تحتوي على ذكريات وطاقات معينة لمجموعة مثل الأسرة أو المجتمع، ويعتبرون اليهود وتروما الهولوكوست الممتدة للأجيال الأحدث مثالاً واضحاً على هذا الأمر، لكن كيف غاب عنهم مثال صارخ كالنساء؟
ذلك النوع البشري الذي قاسى، منذ أول الخلق، حيوات ومصائر ما تزال تحكم حياة أحدث أجياله، خاصة في نصفنا الأكثر إظلاماً من الأرض.
لا أحد يمرّر الإرث كالنساء؛ كانت رؤوس الفصول مناسبات مثالية لأمي لرثاء أبيها الذي لاح في طفولتها بالكاد، تفرغ الدولاب من ملابس الفصل المغادر، وتخرج من حقيبة ضخمة ملابس الفصل الجديد، وهي تغني منتحبة بصوتها الأقرب لأسمهان في قصيدة "ليت للبراق عينا".
في الضفة الأخرى من البيت، كانت جدتي تتلو "عدّوداتها" كلما شرعت في الاستحمام أو تخضيب شعرها الفضي بالحناء كأنها تعتذر، فلا أستبين من كلماتها سوى اسم "علي"، ولا أستبين هل كانت ترثي زوجها أم أخاها؛ حمل كلاهما الاسم نفسه، ولا أدري كيف سكنني لعشرين عاماً فأصررت على منحه لأوّل أطفالي، رغم ما للاسم من إرث مشحون بالفقد، وكأنني كنت أفتقد أسباباً إضافية لاجترار الذنب.
المفارقة أنني كنت أظنني أنجو به من حمولة اسم "يوسف" الذي أجمعت عليه العائلة، وقيّد الطفل به في سجلات المواليد، قبل أن يّستبدل باسم "عليّ" نزولاً عند رغبتي.
يا لبؤسي! كيف غاب عني أن أمي أطلقت اسماً واحداً على اثنين من أولادها فرحل كلاهما؟
يفصلني اليوم عامان عن سن الأربعين، وللآن لا تنسى مرآة أن تعكس قبالتي صورة الطفلة "أسامة"، يتدلّى جسدها المقيّد داخل بئر عاطلة، تخفي جسدها إلى كتفيها، وحولها عسس وجلادو "طالبان"، تصرخ منادية أمّها، وعندما يمنحونها ما ظنّته العفو، يسيل حيضها الأول ليغرق قدميها، كإيذان بأوان الخروج من الجنّة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يوممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم