أكثر من 40 ألف فلسطيني من مخيمات شمال الضفّة، هُجّروا قسراً من بيوتهم منذ بدء عملية "السور الحديدي" الإسرائيلية العسكرية، في 21 كانون الثاني/ يناير 2025. وهؤلاء، أو آباؤهم وأجدادهم، كانوا قد هُجّروا من بيوتهم عام النكبة.
فسكّان مخيم جنين، مثلاً، هُجّروا عام 1948، من أكثر من قرية في منطقة حيفا وجبال الكرمل، كزرعين وصبارين وإجزم والمزار وغيرها، إلى مخيمات اللجوء التي خرجوا منها هذه المرة، للمرة الثانية، كمخيم جنين وطولكرم ونور شمس والفارعة.
منذ نزوحنا من منزلنا، لم نتلقَّ أيّ دعم إنساني. باستثناء مرة وحيدة حصلنا فيها على 'كرتونة منظّفات' من وكالة الأونروا
"طلعنا بالأواعي اللّي علينا"، يقول أحمد مرعي، في حديث إلى رصيف22. "نزحت مع عائلتي الصغيرة؛ زوجتي وأطفالنا الأربعة، بالإضافة إلى عائلة شقيقي، من وسط مخيم جنين، دون أن يتسنّى لنا أن نأخذ شيئاً معنا"، يضيف. انتقل أحمد إلى منزل شقيقته في مدينة جنين لأيام عدة، ثم اضطرّ إلى استئجار شقّة.
في الأثناء، تدفع الحملة العسكرية الإسرائيلية، عدداً كبيراً من العائلات إلى الاحتماء أيضاً في قاعات الأفراح والمدارس والمساجد والمباني البلدية، وحتى في المزارع، ضمن أكبر حركة نزوح تشهدها الضفّة الغربية منذ نكسة عام 1967.
والدة محمود قزموز في بيتها في مخيم نور شمس
مخيم جنين مرةً أخرى
"الشقة فارغة، غير مفروشة، تمكّنت من شراء عدد من الأغطية والفراش. الأوضاع صعبة للغاية. وأنا عاطل عن العمل منذ بدء الحملة الأمنية التي شنّتها السلطة الفلسطينية في المخيم، كوني لم أكن أتمكّن من الوصول إلى مكان عملي"، يقول أحمد.
ويتابع: "ومنذ نزوحنا من منزلنا، لم نتلقَّ أيّ دعم إنساني. باستثناء مرة وحيدة حصلنا فيها على 'كرتونة منظّفات' من وكالة الأونروا. كما أنّ أولادي حالياً لا يذهبون إلى المدرسة، ولا يتمكّنون من الدراسة عن بعد، لأننا لا نملك إنترنت في الشقّة التي نعيش فيها، والشركة لا تستطيع الوصول إلينا".
ويؤكد مرعي، أنّ المخيم تعرّض لتدمير كبير في البنية التحتية، وكذلك منزله الذي خُرّب وكُسرت نوافذه، وجُرف الشارع المؤدي إليه.
"هذا التدمير هجّر أكثر من 20 ألف مواطن، قسراً، وتحت تهديد السلاح، تاركين منازلهم بما تحتويه من أملاك وأوراق ثبوتية"، يقول منصور السعدي، مساعد محافظ جنين، لرصيف22.
وكانت مصادر إسرائيلية، قد أعلنت عن تدمير أكثر من 250 بنايةً داخل المخيم. "لكن يصعب علينا قياس حجم الدمار الدقيق حتى اللحظة، فطواقمنا لم تتمكن من دخول المخيم، حيث تمنع القرارات الإسرائيلية، المؤسسات المدنية والطواقم الطبية والصحافية من الاقتراب"، يضيف السعدي.
ومثلما حدث في اجتياح مخيم جنين، عام 2002، فإن عدداً كبيراً من النازحين خلال هذه الحملة، لن يكون لديهم منازل ليعودوا إليها. فاجتياح المخيم لم يدمّر المنازل فحسب، بل أعاد هندسة فضاء السكان العام وعلاقتهم به، عبر توسيع شوارعه وأزقته، فجعله مكشوفاً أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية.
آثار تدمير الشوارع والبنى التحتية في مخيم نور شمس
بلدات تحتضن النازحين
يشير السعدي، إلى أنّه "تم تشكيل لجنة طوارئ بعضوية وزارة الحكم المحلي ووزارة الشؤون الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني، التي قامت بنقل المواطنين إلى القرى المحيطة بجنين. ثم قامت البلديات والمجالس القروية هناك بتنظيم وجودهم بإشراف لجنة الطوارئ العليا".
ومن بين هذه المناطق المحيطة، "استقبلت بلدة برقين نحو ثلث سكان مخيم جنين"، بحسب ما يفيد مدير بلدية برقين، أيمن شلاميش، في حديثه إلى رصيف22.
"نزحت إلى هذه البلدة الملاصقة لمخيم جنين، 829 أسرةً تضمّ 4،724 نازحاً، موزّعين على بيوت البلدة. وقد قامت البلدية، بالتعاون مع المؤسسات الرسمية والأهلية، بتشكيل لجنة طوارئ محلية لإدارة شؤون النازحين، وتقديم الطرود وتوفير العلاجات الطبية والاحتياجات الأساسية لهم"، يضيف شلاميش.
ويؤكد على أن لا مكان آمناً في المنطقة، فالمداهمات والتحركات العسكرية لا تستثني أي مكان.
مشاهد مستعادة من النكبة
"لم تبدأ معاناة عائلتي في مخيم نور شمس في مدينة طولكرم، من هذه الحملة العسكرية، بل منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزّة"، يقول الناشط محمود قزموز، لرصيف22.
"يقع منزلنا في الشارع الرئيس للمخيم. وعند كل اقتحام إسرائيلي، يتضرر المنزل الذي يضمّ سبعةً من أفراد العائلة، بشكل مباشر، سواء بالرصاص أو بفعل قنابل الإنيرغا أو الجرّافات التي هدمت جزءاً منه"، يضيف محمود.
وفي كل مرة كانت العائلة تعمل على إصلاح الأضرار، لكن المنزل أصبح غير قابل للسكن وفقاً للجنة السلامة العامة في الدفاع المدني. أُجبرت العائلة على النزوح إلى منطقة "إكتابا"، وتحديداً إلى منزل نجلها الأسير، قبل بدء العملية العسكرية بأيام.
ما يحدث اليوم في شمال الضفة الغربية ليس حالةً مؤقتةً أو عمليةً عسكريةً ستنتهي فور انتهاء أهدافها، بل تعمل إسرائيل على خلق واقع جديد، بدأت بتطبيقه من خلال تغيير جذري لمفهوم المخيم للفلسطينيين
"لم يتضرر المنزل فقط، بل تضررت المخازن الأرضية التي استخدمنا جزءاً منها كمتجر ملابس تعود أرباحه للعائلة، وثمة جزء نعطيه كمساحة إيجار لصيدلية. الجزآن غير صالحين للاستعمال"، يؤكد محمود.
عائلة محمود وعائلات أخرى نازحة من سكان مخيم طولكرم، تشكّل نسبة 85% من سكان المخيم، في ظلّ تصعيد عسكري أتى على البنية التحتية والممتلكات، ورافقته حملة اعتقالات واسعة.
يرى محمود، أنّ ما يجري في المخيم حالياً أمر مرعب، واصفاً إياه "بمشاهد مستعادة من النكبة". "على الرغم من أنّ المخيم واجه معاناةً مستمرةً قبل هذه العملية، لكنها لا شك تُعدّ الأصعب منذ اجتياح عام 2002، حيث هُجّر الناس وهُدمت بيوتهم ومحالهم التجارية، واتخذ الجيش الإسرائيلي عدداً من المنازل نقاطاً عسكريةً، وقسّم المخيم إلى مربعات واتخذ عدداً من المواطنين دروعاً بشريةً"، يقول.
منزل عائلة قزموز في نور شمس
سوء الحال هذا، دفع محمود ومجموعةً من الشباب، إلى إطلاق حملة إغاثية لمساعدة المتضررين من السكان. وتعمل المجموعة على توفير الحاجات الأساسية مثل الأغطية والفراش والأدوية وحليب الأطفال والفوط الصحية. "للأسف، ما يجري أكبر من أن تجابهه قدراتنا. الواقع يحتاج إلى توحيد الجهود الرسمية والشعبية، وأهالي المخيم يشعرون بتقصير تجاههم في ظلّ تعتيم إعلامي ومنع تغطية ما يجري".
ويحدث هذا النزوح الكبير، في ظلّ القانون الإسرائيلي الذي يحظر عمل الأونروا، وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، التي أكدت أنّ العمليات العسكرية جعلت مخيمات اللاجئين الشمالية غير صالحة للسكن؛ ما أدّى إلى حصار السكان ونزوحهم المتكرر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الأونروا تقدّم خدماتها في 19 مخيماً في الضفة الغربية، لنحو 913 لاجئاً مسجّلاً.
واقع جديد في الضفّة ولا دور للسلطة الفلسطينية
"ما يحدث اليوم في شمال الضفة الغربية ليس حالةً مؤقتةً أو عمليةً عسكريةً ستنتهي فور انتهاء أهدافها، بل تعمل إسرائيل على خلق واقع جديد، بدأت بتطبيقه من خلال تغيير جذري لمفهوم المخيم للفلسطينيين، من حيث بنية المكان وطبيعته ودوره، وحتى من حيث وجوده، ما يطال بشكل مباشر قضية اللاجئين، خاصةً مع استهداف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، الأمر الذي يجعل المنطقة أمام حدث خطير وله تداعيات بعيدة المدى"، يقول الكاتب والباحث في الشأن الإسرائيلي عصمت منصور، لرصيف22.
ويضيف: "ربما اعتدنا على العدوانية الإسرائيلية ومشاهد القتل والتدمير، لكن عندما تأتي في سياق بصمة يضعها وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش واليمين المتطرف، فمن الطبيعي أن تحمل أبعاداً أخطر على وجود الشعب الفلسطيني، وليس على قضيته فحسب".
أما عن دور السلطة الفلسطينية، فيصفه منصور، بأنّه "شبه معدوم". "تعيش السلطة اليوم أصعب مراحلها، وتعمل إسرائيل على إضعافها أكثر فأكثر، وهو ما يجعل تأثيرها محدوداً على الأحداث"، يقول.
ويردف: "إسرائيل تريد سلطةً ضعيفةً كي تمرر سياساتها، وتضعف تمثيل الشعب الفلسطيني ووحدته. ومن جهة أخرى، فإنّ السلطة الفلسطينية لا تسعى إلى استجماع أوراق قوتها لتخلق حالةً شعبيةً والتفافاً حولها، وتوسيع دائرة القرار والشراكة"، مؤكداً على أنّ "مشروع الدولتين تحوّل إلى مطلب فلسطيني فقط، أما العالم فيُجمع على أنه مشروع يصعب تحقيقه على أرض الواقع، خاصةً مع مشاريع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يطرح خططاً بديلةً لمستقبل الفلسطينيين وتهجيرهم إلى الدول المجاورة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 17 ساعةl
Frances Putter -
منذ 17 ساعةyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ يومينأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ يومينتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ يومينغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...
ماجد حسن -
منذ 6 أياميقول إيريك فروم: الحبُّ فعلٌ من أفعال الإيمان، فمن كان قليلَ الإيمان، كان أيضًا قليل الحب..