لطالما كانت الأمراض النفسية لغزاً محيّراً للبشرية، وفي المجتمعات العربية القديمة، كان فهم هذه الحالات مشوباً بالخرافات والأساطير، حيث ربطت العديد من الثقافات بين هذه الحالات والجن والسحر.
يتناول هذا التقرير بشكل موسع كيف انعكست هذه المعتقدات في التراث العربي، وكيف ساهمت في تشكيل الوصمة المرتبطة بالصحة النفسية حتى اليوم.
المرض النفسي بين الجن والسحر
في الكثير من الحكايات الشعبية، كانت الأعراض النفسية، مثل القلق والاكتئاب والهلوسات، تُفسّر بأنها نتيجة لتلبّس الجن أو تأثير السحر، وكانت هذه المعتقدات تجد جذورها في النصوص الدينية والتقاليد الاجتماعية التي تنظر إلى الجن والسحر كجزء من عالم غير مرئي يؤثّر على حياة البشر. على سبيل المثال، وردت في التراث العربي قصص عن أشخاص يعانون من اضطرابات نفسية حادة، فكان يُعتقد أنهم تعرّضوا لأذى "العمار" أو "الجان"، بسبب دخولهم أماكن مهجورة، أو مخالفة الطقوس المرتبطة بالجن.
"المجتمعات العربية القديمة ربطت الأعراض النفسية بتلبّس الجن أو السحر، وكان ذلك مدعوماً بتفسيرات دينية وتأويلات نصوص تراثية، على سبيل المثال، عندما يعاني شخص من نوبات قلق أو هلاوس، كان يُعتقد أنه أصيب بأذى روحي، ما جعل الرقية الشرعية والفكّ بالقرآن وسيلة أساسية للتعامل مع هذه الحالات"
تتجلّى هذه الأفكار في كتابات الجاحظ في "البيان والتبيين"، حيث يروي عن حالات لأشخاص أصيبوا بما نسميه اليوم "اضطرابات نفسية"، كما كانت المجتمعات القديمة تلجأ إلى الرقاة والشيوخ الذين يستخدمون القرآن الكريم والأدعية الخاصة لطرد الأرواح الشريرة أو فكّ السحر.
تعليقاً على هذه النقطة، يقول الشيخ أحمد الزهري، معالج بالرقية الشرعية، لرصيف22: "إن المجتمعات العربية القديمة ربطت الأعراض النفسية بتلبّس الجن أو السحر، وكان ذلك مدعوماً بتفسيرات دينية وتأويلات نصوص تراثية. على سبيل المثال، عندما يعاني شخص من نوبات قلق أو هلاوس، كان يُعتقد أنه أصيب بأذى روحي، ما جعل الرقية الشرعية والفكّ بالقرآن وسيلة أساسية للتعامل مع هذه الحالات".
من جانبها، تشير الدكتورة هند عبد المنعم، أستاذة الأدب الشعبي في جامعة القاهرة، إلى أن "هناك العديد من الحكايات الشعبية التي ربطت المرض النفسي بالخرافات، مثل قصة تحكي عن شخص يتحدّث مع نفسه ويجوب الأسواق. هذه القصة تُظهر أن المجتمعات القديمة كانت ترى هذه الأعراض كدليل على السحر أو التلبّس، في حين أنها قد تعكس اضطراباً نفسياً كالفصام".
الطرق التقليدية في العلاج
اعتمدت المجتمعات العربية القديمة على وسائل متعدّدة للعلاج النفسي، وكانت غالباً ما تجمع بين الطب التقليدي والممارسات الروحانية. من أبرز هذه الوسائل: الرقية الشرعية، الأعشاب الطبية، الموسيقى والعلاج بالفنون والطقوس الروحانية.
في هذا السياق، يشير الشيخ مصطفى الغندور، وهو مختصّ في العلاج بالرقية والأعشاب، إلى أن "الرقية الشرعية كانت تُستخدم لتطهير النفس من الأرواح الشريرة أو فكّ السحر، أما الأعشاب، مثل الزعفران واللبان الذكر، فكان لها دور في تهدئة الأعصاب وتحسين الحالة المزاجية، وهذه الوسائل جمعت بين المعرفة الدينية والطبية، ما ساعد على تعزيز مفهوم العلاج النفسي البدائي في المجتمعات القديمة".
وبدوره، يقول الدكتور علي فؤاد، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة الإسكندرية، لرصيف22، إن الموسيقى كانت جزءاً من العلاج النفسي في الحضارة الإسلامية، على سبيل المثال، استعان الخليفة هارون الرشيد بزرياب لتخفيف توتره عبر الغناء: "هذه الممارسات تُظهر إدراكاً مبكراً لتأثير الفنون والموسيقى على تحسين الصحة النفسية، وهو مفهوم أثبته الطب الحديث لاحقاً".
"الرقية الشرعية كانت تُستخدم لتطهير النفس من الأرواح الشريرة أو فكّ السحر، أما الأعشاب، مثل الزعفران واللبان الذكر، فكان لها دور في تهدئة الأعصاب وتحسين الحالة المزاجية"
ساهمت المعتقدات القديمة التي ربطت الأمراض النفسية بالسحر أو ضعف الإيمان في تعزيز الوصمة الاجتماعية، وفق ما يقول الدكتور رامي عز الدين، استشاري الطب النفسي: "هذه الوصمة ما زالت تؤثر على المجتمعات العربية حتى اليوم، حيث يخشى الكثيرون الاعتراف بمشاكلهم النفسية أو طلب المساعدة من المتخصّصين، خوفاً من الأحكام الاجتماعية".
ويؤكد عز الدين أن التحديات الأساسية تشمل نقص الوعي العام حول الأمراض النفسية، والاعتماد المستمر على العلاج التقليدي، مثل فكّ السحر أو الرقية فقط، وغياب التشخيص المبكر، وهناك حاجة ماسة لحملات توعية تربط بين الطب الحديث والتراث لفتح باب الحوار وإزالة الخرافات.
الوصمة
يحكي أحمد (اسم مستعار) لرصيف 22، تجربته قائلاً: "كنت أعاني من خوف مستمر وقلق دائم، وكان من حولي يعتقدون أن السبب هو السحر أو تلبّس الجن، وهذه المعتقدات جعلتني أتردّد في زيارة طبيب نفسي، ولجأت في البداية إلى الشيوخ والأعشاب، لكن ذلك لم يحقق تحسناً ملحوظاً".
ويتابع بالقول: "جرّبت الرقية الشرعية والأعشاب أولاً، لكنها لم تكن فعّالة بالقدر الكافي. في النهاية، قرّرت زيارة طبيب نفسي، وكان هذا هو العلاج الأكثر تأثيراً وساعدني على فهم حالتي بشكل أفضل".
ويضيف: "المجتمع كان يعتبر مشكلتي ضعفاً في الشخصية أو نقصاً في الإيمان، ما جعلني أشعر بالوصمة الاجتماعية، خاصة عندما علم البعض أنني أزور طبيباً نفسياً. مررت بتجربة حب قوية انتهت بشكل مؤلم، ما أثّر بشكل كبير على حالتي النفسية، وحاولت تجاوزها من خلال الانشغال بالعمل والتركيز على تحسين نفسي، واستغرق الأمر وقتاً للتعافي".
ويختم بالقول: "العلاج الحديث أفضل من العلاج التقليدي".
نظرة المجتمع للأمراض النفسية
من جانبها تقول الدكتور هند عبدالمنعم، أستاذة الأدب الشعبي في جامعة القاهرة، لرصيف 22: "عكس الأدب العربي القديم، بشكل كبير، نظرة المجتمعات للأمراض النفسية، من خلال تصويرها كظواهر خارقة أو عقاب إلهي، وارتبط المرض النفسي بالسحر والجن، كما يظهر في الحكايات الشعبية والشعر، و في كثير من الأوقات كان المرض النفسي يُنظر إليه على أنه فقدان للعقل أو جنون، دون التفريق بين الحالات النفسية والعقلية".
وتضيف: "المعتقدات الشعبية أثّرت بوضوح على الأدب العربي، حيث كثيراً ما ربط الأدباء الأمراض النفسية بتلبّس الجن أو تأثير السحر. على سبيل المثال، في الحكايات التراثية، كانت نوبات الهلاوس أو الصراخ تفسّر على أنها نتيجة أذى روحي، وهذا التصوير رسّخ الخوف والوصمة تجاه الأمراض النفسية وأبعدها عن التفسير العلمي".
وتواصل: "الحكايات الشعبية كرّست الوصمة، عن طريق تصوير الأمراض النفسية كعقاب أو نتيجة للسحر وتلبّس الجن، لكنها، في بعض الأحيان، قدّمت صورة إيجابية، من خلال تصوير الشخص المجنون كحكيم أو صاحب نظرة مختلفة للعالم، مثل شخصية المجنون الحكيم التي تظهر في بعض الروايات".
وتختم بالقول: "هناك تشابه بين الأدب العربي وآداب ثقافات أخرى. في الأدب الإغريقي، كان المرض النفسي يُفسّر أحياناً كغضب من الآلهة أو تأثير الأرواح، وهو مشابه لتفسيره في الأدب العربي من خلال الجن والسحر، أما في الأدب الفارسي، فغالباً ما ارتبطت الأمراض النفسية بالحب والمآسي الإنسانية، على غرار ما نجده في قصص الحب العذري".
بدوره، يقول عمر (38 سنة)، لرصيف 22: "كنت شخصاً اجتماعياً، محباً للحياة، لكنني بدأت ألاحظ تغيرات غريبة في نفسي، حتى أصبحت أشعر بخوف غير مبرّر: نوبات هلع مفاجئة وأرق لا يفارقني. في البداية، ظننت أن الأمر مجرّد إرهاق أو توتر، لكن مع مرور الوقت، بدأت الهواجس تتسلل إلى عقلي".
ويضيف: "بدأت الأسرة في البحث عن شيخ يعالجني بالرقية الشرعية. في إحدى الجلسات، جلس الشيخ أمامي ممسكاً بماء مقروء عليه، وبدأ يردّد آيات من القرآن بصوت مرتفع، بينما كان يدفعني لأشرب الماء ويصرخ في وجهي: اخرج أيها الجني اللعين".
ويتابع: "شعرت بالخوف أكثر. تكرّر الأمر لعدة جلسات، لكنني لم أشعر بأي تحسّن، بل زادت حالتي سوءاً، حتى اقتنعت أنني ممسوس من جن. في أحد الأيام، قرأت بالصدفة مقالاً عن اضطرابات القلق ونوبات الهلع، واكتشفت أن أعراضي تشبه تماماً ما ورد في المقال، قرّرت أخيراً أن أذهب لأحد الأطباء النفسيين، وعندما ذهبت، شرح لي حالتي الصحية وكانت (اضطراب الهلع)، وهو حالة يمكن علاجها بسهولة من خلال جلسات العلاج السلوكي وبعض الأدوية المهدئة، وبعد أسابيع قليلة من بدء العلاج، شعرت بتحسّن كبير، وعادت حياتي إلى طبيعتها. أدركت حينها أن ما كنت أعاني منه لم يكن بسبب الجن أو السحر، بل كان مرضاً نفسياً يمكن علاجه".
الحب الذي كاد أن يدمرني
تقول ياسمين (اسم مستعار): "مررت بقصة حب وانتهت بالانفصال. كأني فقدت جزءاً من روحي ولم أعد قادرة على التركيز، أصبحت أبكي باستمرار، فقدت شهيتي وانعزلت عن العالم. كنت أسمع من جدتي أن الحب قد يصيب الإنسان بالجنون، أو السحر. بدأت أتساءل: هل هذا نوع من السحر؟".
وتضيف: "الجميع بدأ يتعامل معي كأني مجنونة، حتى جاء أحد الشيوخ عن طريق زوجة عمي، جلست أمامه وهو يقرأ القرآن لكن لم يحدث أي شيء. كنت جالسة ومدركة ما يحدث أمامي، فقال: هي طبيعية ولا تعاني من مسّ الجن، واقترح بعض الأعشاب الطبيعية لكي تهدّئ أعصابي. بالفعل هدأت لبعض الوقت ولكن لفترة ضئيلة جداً، ومن ثم رجعت كما كنت".
وتواصل: "حالتي النفسية بدأت تزداد سوءاً حتى قاربت على الانهيار، عندها أخذتني صديقتي المقربة لطبيب نفسي من أقاربها، بدون معرفة أحد، لأن المناطق الريفية لا تقبل بهذا، ومن ثم استمع الطبيب لحالتي النفسية، وتم تشخيصي بأني أعاني من اضطراب ما بعد الصدمة العاطفية، وأنه أمر شائع بعد الانفصال العاطفي".
وتختتم حديثها قائلة: "حالتي ظلت تتحسّن على يد الطبيب، ومازلت لا أقتنع بحديث الدجالين ولا العلاج بالأعشاب، كل ما اقتنع به هو فقط الكلام العلمي الذي حسّن حالتي وأصبحت مثل باقي الفتيات".
"في إحدى الجلسات، جلس الشيخ أمامي ممسكاً بماء مقروء عليه، وبدأ يردّد آيات من القرآن بصوت مرتفع، بينما كان يدفعني لأشرب الماء ويصرخ في وجهي: اخرج أيها الجني اللعين"
وعليه، تظل الأمراض النفسية موضوعاً شائكاً في المجتمعات العربية، حيث تتداخل بين الماضي والحاضر، بين الخرافة والعلم. المعتقدات القديمة، رغم أنها عكست محاولات لفهم المجهول، إلا أنها ساهمت في تعزيز وصمة اجتماعية لا تزال قائمة حتى اليوم.
مع التقدم العلمي، أصبح من الضروري تغيير هذه المفاهيم وتطوير وعي مجتمعي يدرك أن الصحة النفسية لا تقلّ أهمية عن الصحة الجسدية، لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال تعزيز الحوار المفتوح، الاعتماد على الطبّ الحديث ودعم الجهود التوعوية التي تحترم التراث دون أن ترسّخ الخرافات.
في النهاية، التوازن بين الأصالة والتقدم هو المفتاح لفهم أعمق للصحة النفسية في مجتمعاتنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 16 ساعةl
Frances Putter -
منذ 17 ساعةyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ يومينأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ يومينتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ يومينغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...
ماجد حسن -
منذ 6 أياميقول إيريك فروم: الحبُّ فعلٌ من أفعال الإيمان، فمن كان قليلَ الإيمان، كان أيضًا قليل الحب..