تحمل الأديان التوحيدية نظرة مزدوجة نحو السحر والشعوذة، فهي من جهة تعترف بوجود "عزائم ورقى وعقد يؤثر في القلوب والأبدان، فيُمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه"، حسب ابن قدامة، أو "القيام بأعمال تتجاوز كليات الإنسان، بسلطات أخرى غير إلهية، خطيئة ثقيلة ضد الدين تقوم على تدخل الشياطين والنفوس الضائعة"، حسب الموسوعة الكاثوليكية، وبنفس الوقت تمنعه بشدة لدرجة اعتباره من الكبائر في الإسلام وخطيئة في المسيحية.
حدث الانفصال، وابتعد الدين عن السحر، وبعدما كان الكاهن أو الكاهنة هو ساحر القبيلة وشامانها، أخلى مكانه للأنبياء والكتب المدونة، استُبدل الوسيط التقليدي بوسيط مدعوم بتأكيد من الآلهة على حقه بالوساطة، إذ يجري على لسانه كلام الرب لا كلام الأسلاف، بعدما كان يستخدم قوى الطبيعة والقوى البشرية فقط، أصبح يعتمد على كلام الرب مشفوعاً بمعجزاته.
بعدما كانت الكاهنة هي ساحرة القبيلة وشامانها، جاءت الديانات التوحيدية لتأخذ مكانها الأنبياء والكتب المدونة، استُبدل الوسيط التقليدي بوسيط مدعوم من الآلهة، يجري على لسانه كلام الرب لا كلام الأسلاف ووحي الإلهام
هذه الإدانة للسحر، أو الانقلاب الذي أجراه الأنبياء على السحرة، لم يمض دون مقاومة، لكن المقاومة جاءت مصحوبة بألعاب أخرى، تخفي الرغبة في "تغيير الطبائع" والمصائر بدون أن تتعارض مع الرؤية الدينية، باستخدام حيل الخيمياء وخفّة اليد، فنشأت "معارف الشعبذة والنارنجات وحيل الشطّار والعيّارين".
كان الساحر القديم يعيد تشكيل العالم بناء على خبراته المستمدة من الأسلاف، وكان وجود ساحرات في القبيلة أو العائلة أمراً شائعاً، وحين تم استبداله بـ"السحر الإلهي" والكلمة المنطوقة ثم المكتوبة، الأنبياء الذين يغيرون العالم بالاعتماد على "كلمة الرب"، انكفؤوا وانكفأن، حيث لا توجد نبية أنثى، واعتمدوا الطرق الملتوية لاستعادة قواهم، كما يمكن أن يفسّر لجوء النساء إلى هذه الأنواع من الانشغالات السرية، نظراً لفقدانهم مكانتهم الفاعلة والحية في الحياة.
دليلة المحتالة وابنتها زينب النصّابة
"كانت الدليلة صاحبة حيل وخداع ومناصف، وكانت تتحيل على الثعبان فتطلعه من وكره، وكان إبليس يتعلم منها المكر"، أضافة إلى مواهبها الاحتيالية، كانت دليلة قد فقدت مكانتها الاجتماعية بسبب ترّملها ووفاة زوجها الذي كان براجاً عند الخليفة ويربي الحمام لذي يسافر بالكتب والرسائل، وغاظها أن يتمتع خصماها، "أحمد الدنف وحسن شومان"، عبر بضع حيل سخيفة قاما بها في بغداد، بمكانة اجتماعية وسلطوية هامة، وربحا عبرها تلك المكانة "مقدم الميمنة ومقدم الميسرة"، أي يجلسان على يمين ويسار الخليفة، مكانة تجعل اسميهما خالصين من الوصم، بلا دلالة عار، "الدنف وشومان"، بينما هي دليلة "المحتالة" وابنتها زينب "النصّابة".
من أشهر مشعبذات التراث العربي دليلة وابنتها زينب اللتين دفعهما الظرف الاجتماعي والاقتصادي الذي عاشتا ضمنه، من امتهان لمقام المرأة واعتبارها أقلّ ذكاء من الرجل إلى حيل اعتمدت على معرفتهما بالكيمياء لتثبتا خطل هذه الرؤية. فيضطر المدوّن لاحقاً، للاستعانة بسحر إلهي ليجعل زوج زينب، علي الزيبق، يتفوق عليها في مقالبه، بضمّها إلى بيت الطاعة. وكأن لا سبيل لترويض "الذكية" و"المستقلّة" إلا بإدخالها إلى بيت الطاعة
وانتقمت بمجموعة من المقالب الطريفة، باستخدام خيالها الذكي حيناً، كأن تخترع قصصاً مختلفة عن إرث مالي كبير وابن وابنة، أو "أكل الزلابية بالعسل"، وخفة يدها أحياناً أخرى كاستبدال البرقات ذات اللون الذهبي بالدنانير، أما ابنتها، زينب النصّابة، فتستخدم حيلاً يختلط فيها الإغواء ومعرفتها بـ"دناءة الرجال" بالكيمياء واستخدام "البنج" أو الأفيون".
وحين جاء علي الزيبق، المصري لينتقم كان سبيله الوحيد إلى زينب النصّابة هو الزواج، في دلالة مدهشة للكيفية التي يرغب بها الرجال السيطرة على النساء. وفي بقية القصة، قادت الأحداث الزيبق إلى الزواج بثلاث نساء أخريات، ساعدنه على ضمان نجاحه لدى الخليفة وكافأهن بالزواج منهن، هن، بالإضافة إلى زينب النصابة، بنت السقطي وجاريتها التي علمتها السحر واشترطت عليها أن تتزوج من نفس الشخص التي تتزوجه سيدتها، وقمر بنت عذرة اليهودي، التي أسلمت ثم قتلت أبيها لتدخل إلى قلب علي الزيبق.
فالتفوّق الذي حققه الزيبق كان بالاستعانة، إضافة للرب الذي أمر قمر اليهودية أن تعلن إسلامها في منامها، بالحب، ذلك أن النساء أنفسهن وقعن في غرامه، وكافأهن بالزواج منهن، أربع نساء في ليلة واحدة، وتلك من عجائب الليالي العربية.
إن هذه الخوارق والحيل التي اضطرت دليلة وزينب للقيام بها ابنة الظرف الاجتماعي والاقتصادي الذي عاشتا ضمنه، من امتهان لمقام المرأة واعتبارها أقلّ ذكاء من الرجل، إضافة إلى اعتبارها صاحبة "فتنة" وخطر، ويظهر هذا واضحاً في دلالة الأسماء، فاضطرت للقيام بألاعيب لتثبت خطل هذه الرؤية، ويضطر المدوّن لاحقاً، لأن يستعين بسحر إلهي ليجعل الرجل يتفوق في مقالبه، وينتصر عليها، بضمّها إلى بيت الطاعة، بيت "الحلال"، كأن لا سبيل لترويض "الذكية" و"المستقلّة" إلا بإدخالها إلى بيت الطاعة المسلم.
وصفات لتحرير البدن والذهن
تطورت الوصفات والحيل السحرية على مر القرون، وتتراوح تلك الوصفات بين صبغ الشعر بالأخضر، تجميع براغيث المنزل في زاوية واحدة والعطس والضراط بآن معاً، بحيث يخفي أحدهما الآخر.
ألبرت لو جراند، لاهوتي وكيميائي من القرن الثالث عشر، ولد في مكان ما بألمانيا وتوفي في كولونيا عام 1280، كان مهتماً بشكل خاص بالطبيعة والحيوانات والنباتات، لديه كتاب وصفات سحرية شاع شيوعاً هائلاً آنذاك، يتضمن مجموعة من النصائح السحرية الخاصة بالحياة الجنسية:
- إذا كنتَ تشكّ في عفاف حبيبتك، اجعلها تأكل المسحوق الناعم الموجود ضمن ورقات الزنبق الأصفر، إذا كانت عفيفة فستتبول على الفور.
- لجعل امرأتك تفضلك على الآخرين، ادهن السرير بطمي يتكون من فضلات الماعز المعجونة بالدقيق والمبللة بالزيت، شحم الماعز يمكن أن يؤدي الغرض نفسه.
- لضمان وفاء الزوجة يقوم الزوج بدهن سرير الزوجية بالعسل، مع بقايا شعرها الذي تساقط، ثم يحرقه، لن تنظر لغيره أبداً.
- أما إذا أرادت الزوجة ضمان ولاء زوجها وعدم النظر إلى امرأة أخرى، يجب أن ترتدي قليلاً من نخاع القدم اليسرى لذئب.
- لجعل امرأتك باردة جنسياً، اسقها، دون علمها، مغلي قضيب الذئب مع شعر جفونها.
لا يخفى علينا من هذه السطور بأنها من منظور ذكوري بالكامل، تمدّ الرجال المغاييرين (heterosexual)، بوصفات لتعزز سلطتهم الجنسية.
اهتم العلماء العرب بهذا النوع من الحيل، وإن حاولوا التنصل من أصحابها، إلا أن إعجابهم الخفي بمهاراتهم تلك، يظهر بين السطور بسهولة. من تلك الكتب في فضح أساليب المشعوذين والعيّارين، كتاب "الحيل البابلية للخزانة الكاملية"، للحسن بن محمد الإسكندري القرشي، ويذكر فيه المؤلف العديد من الحيل غير المعروفة آنذاك، وتدلّ على معرفة كاملة بخاصيات كيميائية لمواد مختلفة، مثل استخدام خواص النباتات لتثبيت الكتابة ومنعها من الانمحاء، أو استخدام الجير "الكلس" لإنتاج دخان مخيف، وأيضاً استخدام الحرارة الناتجة عن إطفاء الجير لسلق البيض، بالإضافة لباب كامل في الزراعة وتلقيح النباتات بعضها ببعض.
برغم تنصل علماء العرب من حيل المشعبذين، إلا أنهم تحدثوا عن معرفتهم الكاملة بالخواص الكيميائية لمواد مختلفة، مثل استخدام خواص النباتات لمنع الكتابة من الانمحاء، أو الجير لإنتاج دخان مخيف
أيضاً كتاب "زهر البساتين في علم المشاتين"، تأليف محمد بن أبي بكر الزرخوني، وكتاب "المختار في كشف الأسرار" للجوبري، وأهمهم كتاب "النارنجيات" أو "الباهر في عجائب الحيل" المنسوب لابن شُهيد القرطبي، ويعتقد بأنه جزء من كتاب "كشف الدك وإيضاح الشك" الذي يكشف المزيد من هذه الحيل والأفانين. والنارنجيات أو النيرنجات، كلمة معربة من "نيرنك" وهي "التمويه والتخييل، إظهار غرائب الامتزاجات بين القوى الفاعلة والمنفعلة، لصدور آثار من الحب والبغض، الإقبال والإعراض".
يحتوي الكتاب على اثني عشر باباً في مواضيع عديدة من الحيل، كعجائب البيض وعجائب الخواتم وطرد النعاس ومنع السُكر، والعديد من الحيل الطريفة والغريبة والمستحيلة أيضاً، لكنها باب خيال يُفتح على عالم لم يستطع الزجر والمنع أن يحدّا منه.
إذا أردت أن تشرب دون أن تسكر... إذا أردت أن ينعظ (أي أن ينتصب عضو) كل من في الحمام... إذا أردت أن تأخذ النار بيدك... وصفات سحر طريفة من كتاب النارنجيات
من الوصفات الطريفة
لم يدّع أي من المشعبذين سلطة روحية تأمر وتنهي وتتحكم بالمصائر، كتلك التي منحها السحر للأنبياء، فغاياتهم كانت دنيوية بحتة لمساعدة الناس أو الحصول على المال
- إذا أردت أن ينعظ (أي أن ينتصب عضو) كلّ من في الحمام: تأخذ سذاباً يابساً (نوع من النبات) وكبريتاً غير محرق وكُندساً (نوع من النبات معطّس) وعنصلاً ذكراً (نوع من النباتات البصلية) من كل واحد جزء، تخلطها في الشمس وتجعل في مثانة ثور أو تيس وتطرح في الماء الحار بعد أن تشدّ المثانة، فإنه لا يبقى أحد في الحمام إلا أنعظ.
- تأخذ خرقة فتمسح بها أير حمار إذا أدلى، مسحاً شديداً واعملها فتيلة، واسرجها بزنبق في سراج جديد، فكل من حضر يرى أن البيت ملآن أيور حمير.
- إذا أردت أن تأخذ النار بيدك فلا تحرقك، تأخذ سندروساً (صمغ نوع من الأشجار) وطلقاً (نوع من الأحجار Mica) وادفنها في زبل رطب عشرة أيام، فإنه ينحلّ ويصير كالذهب، فخذ منه واجعله على أصابعك وطرف لسانك، ثم قطر عليه نفطاً واشعله فإنه يشتعل ولا يضرّك.
- إذا أردت منع السمك من دخول شبكة أحد الصيادين، إذا نفض الصياد الشبكة، فاخلع نعليك والبسهماً مخالفاً، اليمين في اليسار واليسار في اليمين.
- تأخذ شحم كبش وشحم ذئب، وتجعلهما في فتيلين، وتجعل التي بشحم الكبش في سراج والتي بشحم الذئب في سراج، ويكون الفتل من حرير أبيض وتسرجها بدهن زنبق، فإن السراجين يقتتلان.
- إذا أردت أن تشرب دون أن تسكر، تأخذ نعناعاً مجففاً مدقوقاً ومثله رازيانجاً (يانسون) ومثله سكّر طبرزد (سكّر نقي يكسر بالفأس) اخلطه واعجنه بماء الهندباء، واعمله بنادق، فإذا أردت تأخذ واحدة واشرب ماشئت.
اللافت في الوصفات التي عمل عليها هؤلاء المؤلفون، أو وصفات ألبرت لوجراند، أنها لا تمضي لأبعد منها، أي لا تدعي الخوارق لتفيد في إثبات وحدانية الإله أو تعطي سلطة روحية للساحر أو المعدّ، إنما غاياتها دنيوية بحتة، إما الطرافة أو التحايل للحصول على المال، الإبهار أو مساعدة الناس فيما يظنونه حقاً مشروعاً، كزيادة القدرة الجنسية أو إيقاع الحب في قلوب الآخرين، وهذا نوع من إعادة الخاصية البشرية لموقع الساحر أو الشامان في القبيلة أو المجتمع، بعدما سرقه الأنبياء وحولوه إلى سلطة تأمر وتنهي، تمنح الجنة لمن أطاع وتقطع رأس من لم يقتنع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...