المثقف الغزي، الذي يكتب عن الأحلام الصغيرة التي تتلاشى قبل أن تبدأ، وعن الألم الذي لا يظهر في الصور، وعن حياة يومية مليئة بتفاصيل تتحدى المنطق، لا يناسب القصة المريحة التي يراد لها أن تخرج من غزة؛ قصة "الصمود الأسطوري".
هذا المثقف يُزعج القالب الجاهز الذي صُنع لتلبية توقعات الجمهور العالمي. فحين يتحدث هذا المثقف عن غزة كمكان يعيش فيه الناس بكل ما يحملونه من تناقضات، فإنه يُفسد الرواية السائدة التي تُظهر غزة كرمز للمعاناة أو الصمود.
ربما لا يريد العالم أن يعرف أن غزة مكان يُمكن أن يضحك فيه الناس رغم كل شيء، أو أن يحلموا بمستقبل أفضل، أو أن يشعروا باليأس والضعف كما يفعل أي إنسان آخر. هذه الحقيقة تُربك الصورة المُعدة مسبقًا، لأنها تُظهر غزة ككيان حي ومعقد، لا كحالة يمكن استهلاكها عاطفياً، ثم نسيانها.
إقصاء المثقفين في غزة، في مؤتمرات وحلقات إعلامية وندوات نُظمت خلال الإبادة، هو أيضًا انعكاس للمنظومة الإعلامية التي تُفضل الأصوات السطحية القادرة على الترويج لنفسها بسهولة. في عصر يُسيطر فيه التسويق الشخصي و"المحتوى المُلهم" و"حنفية" البودكاست المفتوحة على آخرها، ولا يجد المثقف الذي يحمل رؤية عميقة مكاناً له.
فهو لا يتحدث بلغة تناسب وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يعيد إنتاج الكليشيهات التي تثير المشاعر دون أن تطلب من المتلقي أي التزام حقيقي يواجه حالة العجز الذي هو فيها. بدلاً من ذلك، يكتب عن المعاناة بطريقة تظهرها كجزء من حياة كاملة، حياة تحمل في طياتها القوة والضعف، الألم والفرح، الحب والكراهية، وعصابات التجار والمتسولين ومن لا يجدون قوت يومهم. هذا النوع من الخطاب لا يناسب العالم العربي، لأنه يجبر الناس على رؤية غزة كما هي، لا كما يريدونها أن تكون.
هذا النوع من السرد يعيد للناس حقهم في أن يكونوا أكثر من أبطال أو ضحايا، أن يكونوا أناساً عاديين يملكون الحق في الأحلام البسيطة، وفي أن يعيشوا حياة لا تحددها الكاميرات أو التقارير الإخبارية أو قصص انستغرام المقززة
تجريد المثقف من حقه في تقديم روايته
إن إقصاء المثقفين في غزة يعيد إنتاج الظلم نفسه الذي يعانون منه. المثقف الذي يجبر على الصمت أو على العمل في الهامش، يصبح ضحية أخرى للنظام الذي يديم القهر. إنه يجرده من حقه في تقديم روايته الخاصة، وفي أن يكون شاهداً حقيقياً على ما يحدث. بدلاً من ذلك، يترك المجال للآخرين، صناع المحتوى، الذين يعيدون إنتاج السردية السطحية التي تخدم النظام السائد. هؤلاء لا يحملون التجربة الإنسانية الحقيقية، بل يقدمون نسخة مخففة ومعدّة للاستهلاك.
كما أن إقصاء الأصوات الحقيقية في غزة ليس فقط فقداناً للعمق، بل هو خيانة للواقع. المثقف الغزي، إن مُنح المساحة، يمكنه أن يصيغ القصة بشكل يعيد الإنسانية الغزية إلى مركزها. سيُظهر أن غزة ليست مكاناً للمعاناة فقط، بل مكاناً مليئاً بالحياة بكل ما تحمله من تناقضات. هذا النوع من السرد يعيد للناس حقهم في أن يكونوا أكثر من أبطال أو ضحايا: أن يكونوا أناساً عاديين يملكون الحق في الأحلام البسيطة، وفي أن يعيشوا حياة لا تحددها الكاميرات أو التقارير الإخبارية او قصص انستغرام المقززة.
لكن التحدي الأكبر الذي يواجه هؤلاء المثقفين هو ليس فقط قمع النظام العالمي لهم، بل أيضًا غياب الاعتراف الداخلي بأهميتهم. فالمجتمعات التي تهيمن عليها السرديات الجاهزة تبدأ أحياناً برفض المثقف الذي يحاول أن يخرج عن القالب. فقد يعتبر خائناً أو غريباً لأنه لا يكرر الشعارات التي اعتاد الناس سماعها. المثقف الذي يكتب عن الحب وسط الحرب، عن جمال البحر رغم الحصار، عن الحياة اليومية بكل تناقضاتها، لا يُفهم دائماً، لأنه يُزعج المألوف.
إعادة الاعتبار للأدباء والمثقفين في غزة ليس قضية ثقافية فقط، بل هي قضية سياسية وإنسانية. هؤلاء المثقفون يحملون مفتاحاً لفهم أعمق وأكثر إنسانية لغزة. إنهم يقولون إن الحقيقة ليست دائماً سهلة أو مريحة، لكنها دائماً معقدة ومليئة بالتفاصيل. هذا هو التحدي الأكبر: أن نُعيد للناس- الذين اكتووا من الحرب، ولم يعتاشوا على تزييفها- حقهم في أن يرووا قصصهم بأنفسهم، بعيداً عن القوالب الجاهزة التي تجردهم من إنسانيتهم.
استعادة السردية الحقيقية
استعادة السردية الحقيقية في غزة لم تعد تحدياً أدبيا أو ثقافياً فحسب، إنما هي قضية ترتبط بشكل وثيق، حسب علم الاجتماع، بالطريقة التي تتشكل بها الهويات الجماعية ويُعاد إنتاجها.
في علم الاجتماع، تعد السردية المجتمعية جزءاً لا يتجزأ من تشكيل الهوية الجمعية، وهي الطريقة التي ينظر بها المجتمع إلى نفسه وإلى صورته من الخارج. في حالة غزة، تُفرض السردية من الخارج بآليات إعلامية وسياسية معقدة، لكنها أيضاً تتداخل مع الديناميكيات الداخلية للمجتمع نفسه، مما يُحدث تأثيراً مزدوجاً يعمّق من الحاجة إلى استعادة الرواية الحقيقية.
يفضّل المجتمع الدولي أن يرى غزة كمكان يحتاج إلى الإغاثة الإنسانية. وبعض الدول العربية تفضّل صورة "باتمان" الذي يحارب قوى الشر. والاثنان لا يريدان أن يريا غزة كمجتمع يطالب بالعدالة
من منظور اجتماعي، تُعتبر السردية التي تسيطر على مجتمع ما وسيلة لتوحيد الأفراد حول هوية مشتركة.
وفي غزة، الهوية التي تُروَّج هي هوية "المعاناة الجماعية" و"الصمود البطولي"، وهي هوية تستند إلى المظلومية التي تستند إليها الصور الإعلامية والتغطيات الإخبارية. هذه الهوية، رغم أنها توحّد الناس حول قضية واضحة، تُقصي في الوقت نفسه الجوانب الأكثر تعقيداً وتنوعاً للحياة اليومية.
فعندما يُطلب من مجتمع أن يُعرّف نفسه من خلال معاناته فقط، يُصبح كل فرد في هذا المجتمع محدوداً في إطار جماعي يهمش فردانيته واحتياجاته الشخصية.
يظهر علم الاجتماع أن مثل هذه السرديات المُبَسّطة لا تُبنى فقط من الخارج، بل يعاد إنتاجها داخلياً من خلال مؤسسات مختلفة مثل الإعلام المحلي، والخطاب السياسي، وحتى الأنظمة التعليمية.
هذا يعني أن الحاجة إلى استعادة السردية الحقيقية لا تتعلق فقط بمواجهة الصورة المفروضة من الخارج، بل بمراجعة الطريقة التي يتبنّى بها المجتمع هذه السردية. يميل المجتمع الغزي، تحت ضغط الحصار والحرب، إلى التمسك بسردية موحدة لأنها تبدو وسيلة للبقاء والنجاة. لكن هذه السردية الموحدة تُقصي الأصوات التي تتحدث عن تعقيدات الحياة الحقيقية في غزة.
من منظور أكثر تعمقاً، يمكن النظر إلى مسألة السردية الحقيقية من زاوية "رأس المال الثقافي" الذي تحدث عنه بيير بورديو.
ففي السياق الغزي، الأدباء والمثقفون الذين يحملون رؤى مغايرة ويكتبون عن الجوانب الإنسانية والمركبة للحياة، يمتلكون رأس مال ثقافي يُمكّنهم من تقديم سرديات بديلة ومتنوعة حقاً.
لكن الرأس المال هذا يُقمع بشراسة شديدة بسبب هيمنة السرديات السطحية التي تُفضل الرموز البسيطة والقابلة للاستهلاك السريع. ويزداد هذا القمع الخارجي حين يتماهى مع قمع داخلي يقصي من يقدم صورة لا تناسب "الضحية المثالية".
على مستوى أكثر شمولية، فإن السرديات المفروضة، غالباً ما تُخلق لتحويل المجتمعات إلى أدوات تخدم مصالح القوى الكبرى. السردية التي تُبقي غزة في إطار المعاناة البطولية تُستخدم لتبرير العجز الدولي والعربي عن التغيير الحقيقي.
يفضل المجتمع الدولي أن يرى غزة كمكان يحتاج إلى الإغاثة الإنسانية. وبعض الدول العربية تفضل صورة "باتمان" الذي يحارب قوى الشر. والاثنان لا يريدان أن يريا غزة كمجتمع يطالب بالعدالة.
هذه السردية تجعل القضية الفلسطينية كلها تبدو كأنها أزمة إنسانية مستمرة، لا كصراع سياسي واجتماعي عميق لا يمكن شرحه من خلال المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، الذين لا يعلمون عن القضية الفلسطينية أياً من تناقضاتها المعقدة.
استعادة السردية الحقيقية تعني إعادة تعريف الهوية الجماعية لغزة من خلال الاعتراف بتنوعها وتعقيدها. فالمجتمع ليس مجرد كتلة واحدة من المعاناة، بل شبكة معقدة من الأفراد الذين يحملون تجارب ورؤى مختلفة وتطلعات، مبررة بمجملها، عن مستقبل الصراع مع إسرائيل.
يعلمنا علم الاجتماع أن السرديات لا تُبنى فقط من خلال من يتحدث، بل من خلال من يسمع أيضاً. إذا أراد العالم أن يفهم غزة حقاً، فعليه أن يتخلّى عن حاجته لسماع ما يريد فقط، وأن يبدأ بالاستماع لما يقوله الناس في شوارع غزة
الأديب الذي يكتب عن الحب في ظل الحرب، أو المثقف الذي يتحدث عن لحظات الأمل الصغيرة وسط انهمار القذائف على رأسه، يعيد صياغة هذه الهوية. أشخاص مثله يقدمون غزة ككيان حي، ويجبرون العالم على رؤية الحقيقة بدلاً من الصورة النمطية المُبسّطة لمجتمع يحمل هوية واحدة.
يعلمنا علم الاجتماع أن السرديات لا تبنى فقط من خلال من يتحدث، بل من خلال من يسمع أيضاً. إذا أراد العالم أن يفهم غزة حقاً، فعليه أن يتخلى عن حاجته لسماع ما يريد فقط، وأن يبدأ بالاستماع لما يقوله الناس في شوارع غزة.
هذا الاستماع يتطلب شجاعة لتجاوز القوالب الجاهزة، والاعتراف بأن غزة ليست مجرد مأساة أو رمز، بل مجتمع حي مليء بالأصوات التي تستحق أن تُسمع وتُفهم. وفقط من خلال استعادة السردية الحقيقية، يمكن لهذا الفهم أن يتحقق، ويمكن لغزة أن تُرى كما هي، لا كما يريدها الآخرون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
ZMskyuza ZMskyuza -
منذ 12 ساعة1
حوّا -
منذ يومينشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل هذه العنجهية فقط لأن هنالك ٦٠ مليون إنسان يطالب بحقه الطبيعي أن يكون سيدا على أرضه كما باقي...
Ahmed Mohammed -
منذ 3 أياماي هبد من نسوية مافيش منطق رغم انه يبان تحليل منطقي الا ان الكاتبة منحازة لجنسها ولا يمكن تعترف...
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياموحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامصادم وبكل وقاحة ووحشية. ورسالة الانتحار مشبوهة جدا جدا. عقاب بلا ذنب وذنب بلا فعل ولا ملاحقة الا...