"أحب غزة ظهراً، يخرج طلاب الجامعات، ويمتلئ شارع الرمال عن آخره، بشكله المبهج ومحاله التجارية. أمشي مع صديقاتي بحب ورضى عن الحياة"، تقول أمل الحاج (22 عاماً) لرصيف22. مستعيدةً ذاكرتها من المكان المنسوف بفعل حرب الإبادة على غزة، ومضيفةً: "كنت حين أمشي في حيّ الرمال، أستعيد قوتي الداخلية ورحابتي وتقبلي للواقع وطاقتي الإيجابية. كنا نحب هذه الأرض، بالرغم من الصعوبات الكثيرة التي واجهتنا بفعل الحصار الطويل".
ولحي الرمال مكانة خاصّة في قلوب الغزيين تُعزى لموقعه والحياة الاجتماعية والتجارية والثقافية النابضة فيه، لكن الآلة العسكرية الإسرائيلية جعلت من شوارع مركزية كثيرة فيه ركاماً ورماداً.
لم أزر بلاداً أخرى، لم أخرج من غزة، لكني أراها أجمل بقاع العالم
ولمدينة غزة طابعها الخاص، بشوارعها الضيقة، والأماكن المزدحمة جداً، ينشط الناس فيها نهاراً ويهدأون سوياً في الليل. فليل غزة هادئ جداً وشوارعها فيه تكاد تكون فارغة. ويرجع ذلك إلى عادة الناس خلال منع التجول الذي كانت تفرضه إسرائيل خلال الانتفاضة الأولى.
ولا يمكن فصل الواقع المكتظ بالحروب والرعب والحصار عن الظلال الثقيلة التي يلقيها على المكان. لكن غزيين كثير يتمسكون بحبهم للمدينة، ويشكلونه مضطرين، على نحو قادر على تجاوز قسوة الواقع.
"لم أزر بلاداً أخرى، لم أخرج من غزة، لكني أراها أجمل بقاع العالم. قد يضحك البعض على كلامي. إلا أني لا أرغب بأن أشعر بفرحة أكبر من تلك التي رافقتني وأنا أعيش في غزة"، تقول أمل.
لكن قسوة الواقع المعيوش في السابق، تبدو الآن في قمتها، بعد أن دمرت إسرائيل المدينة ومنازلها وشوارعها وجامعاتها ومقاهيها ومحالها التجارية ومكتباتها في فعل إبادة ومحو لكل ما هو مدني وحضري. فكيف يشعر أهلها وهم يشاهدون ذلك؟ وكيف تتغير طبيعة الذاكرة المحمولة إذا واجه المكان فعل محو بهذه الوحشية؟
حديقة الجندي المجهول… "من سعيد إلي مكاني؟"
تعتبر أمل أن أجمل معالم غزة شارع الرمال، وتحديداً منطقة الجندي المجهول، وشارع الشهداء المبني حديثاً، ومنطقة شارع الفنادق، ومنطقة مسجد الخالدي شمال المدينة. "كما أن شارع العشاق في غزة يشرح الصدر ويحببنا بطقوسها"، تضيف.
وشارع العشاق هو زقاق ضيق وسط غزة، كان يلتقي فيه العشاق قديماً.
تتابع أمل: "أعشق حديقة الجندي المجهول في حي الرمال، أحب بساطتها وألوانها التي ظلت كما هي كما أذكرها في طفولتي، وأكره أن تعدّل بلدية غزة عليها".
تشتاق أمل لجلساتها مع الصديقات في الحديقة، لكوب من القهوة التي كانت تشتريها بثلث دولار فقط. "نجلس على الطاولات الاسمنتية، من حولنا الأشجار والناس المارة الحزينين والفقراء. الكل يمشي كأنه يبحث عن حياة ما".
"أحب جلساتنا في الحديقة، تحت صورة أبو عمار التي كانت تتصدر غرب شارع الرمال؛ صورة كُتب عليها: "لن يكتمل حلمي إلا بك يا قدس". هذا المكان كان بمثابة عنوان في غزة، نلتقي تحته ونجلس مع الأهل والأحباب، ونذكره كعلامة للقاء شخص يجهل المكان"، تقول أمل.
وعن تدمير المكان تعلّق: "أشعر بخيبة وحسرة على فقدان هذا الشارع وهدم كافة مكوناته، وإزالة حديقة الجندي المجهول وصورة الزعيم أبو عمار".
وتتساءل: "ترى، لو أُعيد بناء غزة، فمن سيعيد لنا أصالة تلك الأماكن، تلك التفاصيل الصغيرة التي كانت تصنع يومي وتحببني بحياتي؟"
ونصب الجندي المجهول في الحديقة هو نصب بُني فوق قبر فلسطيني مجهول الهوية. قامت إسرائيل بتدميره عام 1967، ثمّ أعاد ياسر عرفات إعماره وافتتاحه عام 2000. ثمّ دمرته إسرائيل مرة أخرى عام 2005، ومرّة أخرى أخيرة في هذه الحرب.
الباقة تجمعنا
مرح الوادية (34 عاماً) كانت تتنزه في حي الرمال بشكل يوميّ. "كان مجرد السير فيه يعني لي الكثير. كل الغزيين من كل الأحياء يجتمعون فيه. فهو قلب المدينة وساحة اللقاء".
من حي الرمال، كانت تنطلق مرح إلى البحر، سيراً على الأقدام، وتحديداً إلى "كافيه الباقة". "هذا هو المقهى الأكثر شهرة في مدينة غزة، والأحب إلى قلوبنا، عشنا كل مراحل تطوره. بدءاً من وضع أولى كراسيه فوق الرمال، وصولاً إلى تشييد طابق ثاني منه ورصف أرضيته"، تقول مرح لرصيف22.
وتردف: "فيه نلتقي، ونفرّغ غضبنا ونتحدث إلى البحر. فيه نحتفل بأعيادنا وتخرجنا. وفيه، كل الغزيين سواسية. كان شعار المكان "الباقة تجمعنا" لكنه لم يكن مجرد شعار".
ترى، لو أُعيد بناء غزة، فمن سيعيد لنا أصالة تلك الأماكن، تلك التفاصيل الصغيرة التي كانت تصنع يومي وتحببني بحياتي؟
تؤكد مرح أن المكان كان يُنسي الناس الحصار، ويُشعرهم بالحرية. فهو مكان مفتوح للهواء الطلق، تُرى منه السماء الصافية والبحر ومراكب الصيادين، "على الرغم من أن إسرائيل كانت تصرّ على تنغيص هذا المشهد بالطيران والاستهدافات"، تقول.
مضيفةً: "علمت أنه دُمر بشكل جزئي، علمت أنه صامد ينتظر أبناءه وبناته، وسيفتقد أحبابه الشهداء الذين قتلتهم إسرائيل. حين تنتهي الحرب، سوف يذهب الكثير منا للبحث عن بقاياه، سوف يعاد إعماره في هذا اليوم، وسوف نبكي فيه كثيراً ونمارس انهيارنا المؤجل".
تؤكد مرح، التي عاشت في حي الشجاعية، ونجت من مجزرة عام 2014، ثم عاشت حرب الإبادة واستطاعت أن تخرج إلى مصر، على أن كل شيء خارج غزة بات بلا قيمة. "غزة لم تكن مجرد مدينة، بل كانت جزءاً من أرواحنا"، تقول.
"لا أعرف ما الذي يجعلها جميلة"
أما مريد أبو سلطان (29 عاماً)، فيختلف في رؤيته لجمالية غزة، فيراها بأنها مدينة عادية وغير ملفتة، لكنها تمتلك هويتها الخاصة في تلقيها للأشخاص واحتضانهم.
يقول لرصيف22: "لأكون صريحاً، غزة مدينة غير جذابة من حيث فضائها وشكلها العام، وليس فيها أماكن كثيرة يمكن الحديث عنها، لكنها ككتلة واحدة من الحجر والبشر جميلة".
ويردف: "هي خليط لا يمكن مقاومته، تبتعد عنه أو تسافر فتحن إليه، لا أعرف، هل هو الطقس؟ الشوارع البسيطة جداً، غير النظيفة معظم الوقت؟ هل هم أهلها البسطاء الطيبون المجاملون؟ هل هو كل ذلك، شيء ما يجعلك ترفع الكلفة والحرج ما بينك وبين هذا المكان".
وبالنسبة لمريد، فإن أحدث الأماكن في غزة وأجملها كان منتجع بيانكو شمال مدينة غزة. "هذا المكان يشعرني بأني خارج غزة، حتى بحره مختلف عن بحرها، تصميمه مريح جداً وحداثي ويخلق حميمية مع المكان"، يقول.
مضيفاً: "كنت أرتاده كثيراً، وأشعر فيه براحة نفسية وقابلية للعمل في اليوم التالي. لكن إسرائيل شوهته، وقتلت صديقي الذي كان يرافقني إلى هناك. لا أعرف كيف سأدخل هذا المكان مرة أخرى من دونه".
الهروب إلى المكتبة
"مكتبات غزة كانت أهم الأماكن لدي، لا سيّما مكتبة بلدية غزة شرق المدينة، في شارع الوحدة"، تقول آية الصباغ (33 عاماً) لرصيف22.
هذه المدينة متراصة، البيوت متلاصقة والشوارع ضيقة ومتشعبة، لذلك كانت دوماً ممتلئة بالضجيج والصراخ، في رأي آية، التي كانت تهرب من ذلك كله إلى المكتبات.
"كنت أنهي عملي كمعلمة، ثم أذهب إلى مكتبة البلدية، أجلس داخل حديقتها، أحمل كتاباَ أو رواية أو بحثاً، وأخرج إلى عالمي الخاص".
لكن حرب الإبادة الإسرائيلية دمرت المكتبة بالكامل، وهي مؤلفة من ثلاثة طوابق، وتضم عدداً كبيراً من الكتب والوثائق والمجلدات القديمة، التي يتراوح عمرها ما بين 100 و150 عاماً".
خلال هذه الحرب، اضطرت آية للنزوح مع عائلتها من شمال غزة إلى خيمة، أفقدتها إطار الخصوصية الذي كانت تسعى إليه دوماً.
تقول: "أعيش الآن في جحيم، لا أجد داخل الخيمة ذلك الهدوء الذي اعتدت عليه في المكتبات داخل غزة. كما أني لا أجد الكتب. حتى الكتابين الذين اقتنيتهما خلال النزوح، أخذ أبي أحدهما وأشعل به الحطب كي يطبخ للعائلة".
وتتابع: "كثيراً ما أجلس متكومة على جسدي داخل الخيمة، أبكي وأتذكر تلك الفرصة اللطيفة التي كنت أحظى بها قبل الحرب مع التأمل العقلي والهدوء والاستناد إلى الكتب".
خارج هذه المدينة المكتظة بكل أشكال الفقر والألم، كانت تحاور آية نفسها. أما الآن، داخل الخيمة في رفح، فتصف نفسها مثل "قطعة قطن بين آلاف المسامير".
وتختم بحسرة: "هذه الحرب لم تسرق منا أشخاصاً أو أبنية فقط، إنما سرقت هويتنا الشخصية وصوتنا الداخلي والطعم الحلو الذي نصيغه داخلنا لنجعل الحياة مقبولة. داست إسرائيل ببساطيرها على كل هذا، على كل لحظة حلوة عشناها".
لكن مرح الوادية تعتقد بأن المكان سينهض رغم تدميره وقتل أصحابه، "لكنه سينهض مجدداً بكل الأحياء منا"، تقول، "نحن الغزاويّة ارتباطنا بهذه المدينة كبير".
هذه الحرب لم تسرق منا أشخاصاً أو أبنية فقط، إنما سرقت هويتنا الشخصية وصوتنا الداخلي والطعم الحلو الذي نصيغه داخلنا لنجعل الحياة مقبولة
لطالما كان لغزة عدة أوجه، وربما كان الوجه الأوضح لها هو الوجه المتجعد مع الخوف من المستقبل، والرهبة من مصادفة الموت مع القنابل والصواريخ والرصاص، بفعل الحروب المتكررة.
ووجه آخر هو وجه الأمل والجمال والاعتناء بكل صغيرة من أجل تصدير حياة كبيرة. وربما ثمة وجوه كثيرة لهذه المدينة لا يعرفها ولا يستطيع رسمها سوى أصحاب المكان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...