بين ظهور النفايات وانتعاش سوق الصيّادين، تتناقض تأثيرات "السدّة الشتوية" على المنشآت المائية في مصر، خلال شهرَي كانون الأول/ يناير وشباط/ فبراير من كل عام، وتشهد "السدّة" حبس المياه عن الرياحات والترع والمجاري المائية، بهدف إجراء أعمال الصيانة والتطوير في شبكات الريّ والصرف، وكذلك مجرى النيل وفروعه من أقصى الجنوب وحتى المصبّ في أقصى الشمال.
تواظب مصر على تطبيق "السدّة الشتوية"، حيث تلجأ وزارة الموارد المائية والري في البلاد إلى خفض كمية المياه المنصرفة خلف السدّ العالي في مجرى نهر النيل بالتزامن مع حلول فصل الشتاء، تبعاً لانخفاض الاحتياجات المائية لأغراض الزراعة والشرب. وتُشكّل هذه الفترة فرصةً لإعادة تأهيل المجاري المائية وصيانة الترع الرئيسية والفرعية فضلاً عن ترشيد استخدام المياه.
ماذا نعرف عن "السدّة الشتوية"؟
وتختلف الروايات عن بداية هذا الطقس البيئي في مصر، حيث تُشير غالبية المصادر المحلية، إلى أنه ارتبط ببناء السدّ العالي، في ستينيات القرن الماضي، في حين يقول الخبير الدولي ومستشار وزير الموارد المائية والري المصري الأسبق، الدكتور ضياء الدين القوصي، لرصيف22، إنه كان موجوداً خلال فترة حكم محمد علي لمصر (بين عامي 1805 إلى 1848).
على النقيض من ظهور النفايات، تمثّل "السدّة الشتوية" فترة رواج للصيادين الذين يكثّفون عملهم مع انحسار المياه… فماذا نعرف عنها؟ ولماذا تحرص مصر على تطبيقها سنوياً منذ عقود؟
ويضيف أستاذ الموارد المائية في جامعة القاهرة الدكتور نادر نور الدين، لرصيف22، أنّ "السدّة الشتوية" تقليد مصري قديم يعود إلى أربعينيات القرن الماضي، حيث كان الفيضان في شهرَي تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر من كل عام، يجلب معه كميات كبيرةً من الطمي، التي تترسّب في الترع والمصارف وتقلل من حجم استيعابها للمياه، لذلك كانت الحكومة تنتظر حتى نهاية الفيضان وحلول الشتاء في كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير؛ حيث تسقط الأمطار وتقلّ حاجة الزراعات إلى المياه؛ من أجل منع المياه عن الترع والقنوات وتطهيرها واستخراج الطمي المُترسب داخلها.
ويُردف نور الدين: "بعد إنشاء السدّ العالي توقّف ترسّب الطمي في الترع والقنوات المائية، إلا أنّ 'السدّة الشتوية' استمرت تحت مبررات أخرى على غرار ضرورة الاستفادة من الأمطار المتساقطة في الشهرَين الأولين من العام، لا سيّما على منطقة الدلتا حيث تهطل بغزارة على عكس منطقة الصعيد، وعدم حاجة النباتات إلى المياه بكثرة في تلك الفترة".
إلى ذلك، يوضح الباحث في الشأن الإفريقي وشؤون حوض النيل، هاني إبراهيم، عبر حسابه في فيسبوك، أنّ أوّل قرار بشأن تطبيق "السدّة الشتوية" أصدرته وزارة الأشغال العامة عام 1935، وحمل رقم 3 لسنة 1935، وكان يتضمّن مواعيد ثابتةً لمناوبات الريّ وتطبيق "السدّة الشتوية"، واستمرّ العمل به والإعلان عن مواعيد "السدّة الشتوية" في مدد زمنية تبدأ من منتصف كانون الأول/ ديسمبر وتنتهي بنهاية شهر كانون الثاني/ يناير من كل عام.
كما يُشير المختص بشؤون حوض النيل، إلى أنّ خفض التدفّق في مجرى النهر خلال مدة "السدّة" يُسهم في توفير حيّز في مجرى النهر لاستيعاب مياه السيول خلال تلك الفترة، مع إجراء أعمال صيانة المنشآت المائية وتطهير الترع، عادّاً أنّ الأخيرة هي العامل الأساسي في تطبيق "السدّة الشتوية".
مع ذلك، يتحدث مختصون عن تناقض التأثيرات البيئية لهذه "السدّة" ما بين تأثيرات إيجابية وأخرى سلبية. فكيف ذلك؟
اختلاف كامل عن الطقس الأصلي
ويرى الخبير ضياء الدين القوصي، أنّ طقس "السدّة الشتوية" بالمفهوم الصحيح له -غلق جميع الترع على مستوى الإقليم تماماً لفترة لعمل صيانة للمنشآت المالية كافة في الإقليم- لم يعد قائماً منذ أواخر تسعينيات القرن العشرين، وإنما ما يحدث عمليات صيانة جزئية أو مرحلية للمناطق التي تحتاج إلى صيانة حيث تُستغلّ فترة الشتاء لصيانته بعد غلق فرع النهر الذي يوصل المياه إليه.
ويشدّد القوصي، على أهمية هذا الطقس، خاصةً أنّ الكثير من المنشآت المائية "قديم"، وبحاجة إلى الترميم والصيانة من حين إلى آخر. مع ذلك، ينبّه إلى سلبيات تصاحب ممارسة "السدّة الشتوية" بشكلها الحالي، من بينها عدم وصول مياه الري إلى بعض المناطق لفترة طويلة قد تزيد عن الشهر، وهو ما يؤثّر على المزروعات التي قد تُصاب بتلف أو تتأثر إنتاجيتها بسبب غياب الريّ.
يؤكد القوصي، أيضاً، على صعوبة إدارة الموارد المائية في مصر، خاصةً أنّ الكميات المُتاحة لا تتناسب مع أعداد السكان والمساحات المزروعة، وتحديداً مع دخول البلاد "دائرة الفقر المائي"، مطالباً في الوقت ذاته بتحسين منظومة الريّ وإدارة استخدامات المياه بالاعتماد على التكنولوجيا الحديثة، لأن الكثير من المنشآت المائية قديمة و"عفّى عليها الزمن"، وعمر بعضها يمتد لمئات السنين، على غرار سد الملك أمنمحات الثالث المعروف بـ"سد اللاهون".
وكان وزير الموارد المائية والريّ المصري، هاني سويلم، قد صرّح، في تشرين الأول/ أكتوبر 2024، بأنّ احتياجات البلاد المائية تناهز 114 مليار متر مكعب سنوياً، فيما تقدّر الموارد المائية بنحو 59.6 مليارات متر مكعب سنوياً، 55.5 مليارات متر مكعب منها هي حصة مصر من مياه نهر النيل، و1.30 مليار متر من مياه الأمطار، و2.4 مليارات متر من المياه الجوفية العميقة غير المتجدّدة، و400 مليون متر من تحلية مياه البحر، فضلاً عن إعادة استخدام 21.6 مليارات متر مكعب سنوياً من مياه الصرف، واستيراد محاصيل زراعية من الخارج تقابل استهلاكاً مائياً بنحو 33 مليار متر مكعب.
يتّفق مع القوصي، أستاذ الموارد المائية في جامعة القاهرة الدكتور نادر نور الدين، بشأن تعرّض بعض المحاصيل للتلف نتيجة عدم رَيِّها لفترة طويلة، على غرار الخضروات التي تحتاج إلى المياه بشكل دوري، عادّاً أنّ منطقة الصعيد هي الأكثر تضرّراً في فترة "السدّة الشتوية"، في ظلّ ندرة سقوط الأمطار هناك.
يقول أمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب، الدكتور مجدي علام، لرصيف22، إنّ النفايات باتت منتشرةً على الطرقات والمصارف بشكل واسع، وإنّ انحسار المياه في فترة "السدّة الشتوية" يتسبّب في ظهور وجه قبيح لتلك الترع والمصارف، حتى أنّ البعض يُلقي بالحيوانات النافقة فيها
ملوحة التربة
ويذهب نادر نور الدين، إلى أمر مهم يتعلق بتطبيق "السدّة الشتوية" في مصر الآن، هو الرغبة في "تقليل ملوحة التربة"، حيث تساهم تلك الفترة في تقليل مستوى المياه الجوفية، التي بدورها تزيد من نسبة الملوحة في الأرض الزراعية وتؤثر على إنتاجيتها، بالإضافة إلى أنّ عدم تعرّض الزراعات لمياه الريّ في تلك الفترة، يزيد من قوة جذورها التي تتغلغل في التربة بعمق بحثاً عن المياه والعناصر الغذائية.
كما يَعرّج على إعادة استخدام مياه المصارف في عملية الريّ، موضحاً أنّ هناك بعض المياه التي تكون "ملوحتها مقبولةً"، على غرار مصارف جنوب الدلتا، لذلك تُستخدم مباشرةً في ريّ الأراضي الزراعية، أو تُخلَط بمياه الترع في حال كانت ملوحتها "متوسطةً"، من أجل تقليل تلك الملوحة وزيادة إمكانية استخدامها في الريّ. ويُشير أيضاً، إلى أنّ فترة "السدّة الشتوية" تشهد زيادة تركيز الملوحة في المصارف، نتيجة عدم وصول مياه جديدة إلى تلك المصارف لمدة تتجاوز الشهر، خاصةً أنّ مياه الصرف الزراعي تتركز فيها "مُتبقيات الأسمدة الكيماوية ومُتبقيات المبيدات".
وبحسب آخر إحصائيات رسمية معلنة، تتراوح مساحة الأراضي المتأثرة بالأملاح في مصر بين 30 و40% من مساحة الأراضي المزروعة فيها، وذلك بحسب تصريح حديث لمدير معهد بحوث المحاصيل الحقلية التابع لمركز البحوث الزراعية المصرية، الدكتور علاء خليل.
وفي تصريح آخر لمدير مركز التميز المصري للزراعة الملحية، الدكتور حسن محمد الشاعر، ورد أنّ مصر لديها ما يقرب من مليونَي فدان من الأراضي القديمة في الدلتا، المتأثرة بملوحة التربة، بواقع 60% من أراضي شمال الدلتا، و25% من أراضي وسطها وجنوبها، و25% من أراضي مصر العليا، ما يؤثر على الإنتاجية الكلية للزراعة في البلاد.
ظهور النفايات في الترع والمصارف
وينتقد أستاذ الموارد المائية، نور الدين، عدم وجود أماكن مخصّصة لتجميع القمامة والنفايات في الكثير من القرى والنجوع البعيدة عن المدن الرئيسية، وتأثير ذلك على المنشآت المائية حيث يقوم الكثيرون بإلقاء نفاياتهم في الترع والمصارف المائية، وسرعان ما تظهر بشكل واضح في فترة "السدّة الشتوية".
من جهته، يرى أمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب، الدكتور مجدي علام، أنّ النفايات باتت منتشرةً على الطرقات والمصارف بشكل واسع، وأنّ انحسار المياه في فترة "السدّة الشتوية" يتسبّب في ظهور وجه قبيح لتلك الترع والمصارف، حتى أنّ البعض يُلقي بالحيوانات النافقة داخلها.
وبينما يتفق الخبراء الذين تواصلنا معهم على وجود نفايات بكميات كبيرة على الطرقات والمصارف، يشير علام، في حديثه إلى رصيف22، إلى ظاهرة سيئة يُداوم عليها بعض من يعملون في جمع القمامة، هي إلقاء ما لا يرغبون فيه من عناصر القمامة التي جمعوها في أقرب نقطة مصبّ مياه أو ترعة، دون الاكتراث بخطورة هذه النفايات على المنشآت المائية والبيئة، بالإضافة إلى استغلال البعض "ممن يقطنون أمام الترع والمصارف"، فترة انحسار المياه خلال "السدّة الشتوية" للتعدّي على المنشأة المائية من أجل توسيع الطريق أو غرس أشجار جديدة، في غياب المتابعة والرقابة من الجهات المسؤولة.
"عدد سكان مصر حالياً يناهز 120 مليون نسمة، يستخدمون كميات المياه نفسها التي كان 20 مليون نسمة يستخدمونها في وقت سابق. الزيادة السكانية مستمرة وموارد وكمية المياه ثابتتان لا تتغيران، ومن هنا يجب الاستمرار في العمل بـ'السدّة الشتوية'"، هكذا يبرهن علام على أهمية هذا الطقس السنويّ، عادّاً أنّ ما يقلل من فائدته هي كميات النفايات الهائلة التي تُلقى في المصارف والترع خلال فترة انحسار المياه، والتي بدورها تتسبّب في هَدر كميات ليست بالقليلة من المياه.
صناعة تدوير المخلّفات
ويلفت علام، إلى "صناعة تدوير المُخلّفات" التي باتت رائجةً بشكل كبير في مختلف المحافظات المصرية، وتندرج داخلها أكثر من 15 مهنةً فرعيةً، إلا أنّه وعلى الرغم من ذلك، فإنّ "المدفن الصحي" الذي يراعي اشتراطات قانون النظافة والبيئة عند القيام بإعادة استخدام وتدوير المخلفات يبقى غائباً في البلاد، لا سيّما في الورش والمصانع الصغيرة.
ويطالب الخبير البيئي، بانتهاج قاعدة "4R"، للحدّ من تلوث البيئة وإلقاء النفايات في المنشآت المائية، وتتمثّل في تقليل المخلّفات، ثم إعادة استخدام المنتجات خاصةً البلاستيكية، ثم إصلاح المنتجات القابلة لإعادة الاستخدام مرةً أخرى، ثم صناعة منتجات جديدة من المخلّفات، عادّاً أنّ النفايات تلوّث كل المحيطات والبحار والأنهار على مستوى الكرة الأرضية تقريباً، لكن بنسب متفاوتة.
وتقوم قاعدة "4R"، على هدف أساسي يتمثّل في الحد من تلوث البيئة وإهدار المواد الغذائية، وهي قاعدة تخصّ عملية إدارة المخلّفات وإعادة تدويرها وتتكون من 4 عناصر هي: "Reduction - Reuse - Recycling - Recovery".
انتعاش الصيد
وعلى النقيض من ظهور النفايات، فإن "السدّة الشتوية" تُمثّل فترة روّاج للصيادين الذين يكثّفون عملهم مع انحسار المياه. وفي هذا السياق، يقول محمود علام، وهو أحد الصيادين في مركز البداري في محافظة أسيوط في صعيد مصر: "المياه تقلّ بشكل واضح في فترة 'السدّة الشتوية' خلال أول شهرَين في السنة حيث يتزايد الإيراد اليومي من السمك الذي يتم اصطياده من نهر النيل وكذلك من المصارف والترع".
ويضيف الصياد المصري، أنّه يعمل يومياً في تلك الفترة، ويستعين ببعض العمال المساعدين، حيث "يكثُر الخير" تحديداً لأنّ جانبي النيل من اليابسة يشهدان انحساراً للمياه، ما يمكّنه ومساعديه من إلقاء شباكهم وجمع كميات كبيرة من الأسماك، قد تصل إلى نحو 50 كيلو من الترعة الواحدة، مقارنةً بـ10 كيلوات في فترة زيادة مياه الترع.
يمتهن محمود، مهنة صيد الأسماك منذ 30 عاماً، ويوضح من خلال خبرته أنّ "السدّة" تجعل بعض الهواة يهبطون إلى الترع والمصارف لصيد الأسماك، حتى لو كانوا لا يمتهنون الصيد، إلا أنّ قلة المياه وظهور الأسماك تغريهم، وقد يصل إيراد البعض اليومي من الصيد في الترع والمصارف إلى بضعة كيلوغرامات.
يطالب الخبير البيئي، بانتهاج قاعدة "4R"، للحدّ من تلوث البيئة وإلقاء النفايات في المنشآت المائية، عادّاً أنّ النفايات تلوّث كل المحيطات والبحار والأنهار على مستوى الكرة الأرضية تقريباً لكن بنسب متفاوتة
ويعرب محمود، عن أسفه على ما يصادفه في أثناء الصيد، سواء في نهر النيل أو الترع، قائلاً: "الحيوانات النافقة منتشرة في كل المصارف والمنشآت المائية وكذلك القمامة، وتتراكم على جانبَي النيل، وتطفو مع انحسار المياه".
جنوح العبّارات النهرية
ختاماً، يتطرّق محمود، إلى أمر سلبي آخر ربما تتسبب فيه "السدّة الشتوية"، هو جنوح بعض العبّارات النهرية التي تصل مدن طرفَي نهر النيل، مشيراً إلى أنّ انخفاض منسوب المياه في النيل يتسبّب في جنوح بعض العبّارات، وتعطّلها نتيجة الغرز في الطمي بالمجرى النهري. ومع انخفاض منسوب النيل وتنفيذ "السدّة الشتوية"، شهدت الأيام الماضية، تعطّل عبّاراتين نهريتين، تعملان كـ"معدّية" لنقل المواطنين، بين ضفتَي النيل في مركزَي أبوتيج وساحل سليم في محافظة أسيوط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Toge Mahran -
منذ 3 أياماكتر مقال حبيته وأثر فيا جدا♥️
Tayma Shrit -
منذ 3 أيامكوميديا سوداء تليق بمكانة ذاك المجرم، شكرا على هذا الخيال!
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ 5 أيامالمقال بيلقى الضوء على ظاهرة موجوده فعلا فى مصر ولكن اختلط الامر عليك فى تعريف الفرق بين...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياماحمد الفخرناني من الناس المحترمة و اللي بتفهم و للاسف عرفته متاخر بسبب تضييق الدولة علي اي حد بيفهم
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ 6 أياممقال رائع..
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعالحبة الحمراء أيديولوجية يقتنع بها بعض من النساء والرجال على حد السواء، وبرافو على هذا الشرح الجميل