بعد مناقشة مفصّلة لمشكلة ندرة المياه في مصر، بدَأنا في المقالات السابقة باقتراح مجموعة حلول مستدامة وإستراتيجيات متكاملة للتعامل مع تلك المشكلة. وكما شرحنا سابقاً، مشكلة المياه في مصر أصبحت معقّدةً إلى درجة أنه لا يمكن استخدام أو تطبيق حلول فردية للتعامل معها، ولهذا السبب من المهم العمل على محاور مختلفة لحل مشكلة المياه في مصر، بالتوازي مع الاستمرار في العمل عليها في حال الرغبة في استدامتها.
أول هذه المحاور كان إيجاد مصادر مياه بديلة لنهر النيل، لعلاج مشكلة ندرة المياه المزمنة على المدى البعيد. ناقشنا هذه البدائل، من الأقلّ إلى الأكثر تكلفةً، عبر الأمطار والفيضانات، والمياه الجوفية، وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي، وتحلية مياه البحر، والمشاريع المقترحة لإنشاء شبكات مياه جديدة وربطها بالدول الأخرى، أو إقامة مشاريع جديدة تهدف إلى الحصول على المياه من دول أخرى، حيث تضمنت هذه المشاريع: ربط النيل بنهر الكونغو، التعاون مع إثيوبيا، استكمال مشروع "قناة جونقلي"، مشروع "بحر الغزال"، مشروع "مستنقعات موشار"، ومشروع ربط بحيرة فيكتوريا بالبحر الأبيض المتوسط.
في هذا المقال، نناقش العمل على زيادة كفاءة استخدام مصادر المياه المتاحة الحالية إذ تفقد مصر الكثير من المياه في الاستخدامات المتعددة، سواء للزراعة أو لأغراض أخرى مختلفة
وسنبدأ في هذا المقال بمناقشة محور جديد، محور يعمل على زيادة كفاءة استخدام مصادر المياه المتاحة الحالية إذ تفقد مصر الكثير من المياه في الاستخدامات المتعددة سواء للزراعة أو لأغراض أخرى مختلفة.
المحور الثاني… تحسين كفاءة استخدام مصادر المياه المتاحة الحالية
يقوم هذا المحور على اعتبار أنّ المياه قيدٌ يحدّ من قدرة النظام بسبب محدودية كمياتها. وعليه، تحسين كفاءة استخدام مصادر المياه المتاحة الحالية تُعدّ شيئاً مهماً للغاية لتقليل الكميات المهدورة منها. وهذا يعني استغلال أقلّ قدر من المياه بأكبر فاعلية ممكنة. وبعد عملي مع مجموعة من الخبراء على دراسة كيفية تقليل هدر المياه، توصّلنا إلى أنّ فقدان المياه في مصر يعود إلى أربعة أسباب رئيسة.
ومن خلال العمل على هذه الأسباب، يمكن أن نقلّل الفاقد من المياه على النحو التالي:
رفع كفاءة أنظمة الريّ الحالية وتطويرها لتتمتّع بكفاءة أفضل.
إدارة الزراعة بفعالية.
ترشيد استهلاك المياه المُستخدمة في كل الأغراض على مستوى البلاد.
إدارة مياه النيل بشكل فعّال ومستدام.
كل سبب أو فئة من هذه الفئات يشمل تفاصيل كثيرةً. يناقش هذا المقال أول الأسباب، أي كيفية رفع وتطوير كفاءة أنظمة الريّ الحالية للأراضي الزراعية.
رفع وتطوير كفاءة أنظمة الريّ الحالية
تذهب 70% من مياه النيل لخدمة الأنشطة الزراعية في مصر، وتبلغ كفاءة نظام الري الحالي 50%، أي أنّ ما يقرب من نصف المياه المستخدمة للأغراض الزراعية تُهدَر. وعليه، فإنّ تقليل فاقد المياه في هذا القطاع تحديداً قد يؤثّر تأثيراً كبيراً على إدارة المياه المهدورة على مستوى الدولة عموماً. والعمل على هذا الملف من شأنه ليس فقط رفع كفاءة نظام الريّ الحالي، وإنما توفير الكثير من المياه، وكذلك الطاقة للاستخدام في أغراض أخرى. ويمكن تحقيق ذلك من خلال طرائق عدة:
أولاً: تبطين القنوات المائية والترع لمنع تسرّب المياه
تُعدّ عملية تبطين قنوات المياه والترع من الوسائل الفعّالة لمنع تسرّب المياه والحفاظ على الموارد المائية. يتمثّل الهدف الرئيس لتبطين القنوات، في تقليل الفقد الناتج عن التسرّب، ما يُسهم في تحسين كفاءة نقل المياه.
تذهب 70% من مياه النيل لخدمة الأنشطة الزراعية في مصر، وتبلغ كفاءة نظام الريّ الحالي 50%، أي أنّ ما يقرب من نصف المياه المستخدمة للأغراض الزراعية تُهدَر
والترعة هي مجرى مائي محفور لنقل المياه من نهر النيل إلى الأراضي الزراعية. ومعنى مصطلح "تبطين القنوات والترع"، إكساء السطح الترابي للقناة المائية بطبقة أخرى تمنع تسرّب المياه من القناة إلى التربة المحيطة بها. يتم استخدام مواد متنوعة مثل الخرسانة أو الأحجار لتبطين القنوات، ويتحدّد نوع التبطين وفقاً لطبيعة التربة المارّة بها الترعة، حيث تعمل هذه المواد على تعزيز قوة القنوات وتقليل التآكل، بما يضمن تدفّق المياه وتقليل الفاقد بالتسرّب.
تبطين قنوات المياه له الكثير من الفوائد حيث يعمل على تحسين جودة المياه، ويمنع تلوّثها بالعناصر الخارجية مثل الأتربة والمواد العضوية. فضلاً عن ذلك، يُسهم في السيطرة على نمو الحشائش التي تعرقل سير المياه في القناة، وتالياً يساعد في تقليل عمليات التطهير المطلوبة لهذه الحشائش وللتكلفة الكبيرة المطلوبة لإزالة تكتّل الحشائش، وهو ما يساعد المياه في الوصول إلى المزارع، التي توجد في آخر الترع. إلى ذلك، تسبب المياه الراكدة في الترع العادية أمراضاً مثل البلهارسيا والحشرات القشرية، تنتقل إلى الإنسان وتؤثّر على الصحّة العامة بعكس الترع النظيفة. فبعد تبطينها يتم التخلّص من مسبّبات الأمراض وتحسين وضع الأراضي المحيطة بها وتقليل فقدان المياه.
ثانياً: صيانة الترع وقنوات الريّ
تُسهم صيانة الترع وقنوات الريّ في تناقص كمية البخار للمياه، وتقليل نسب الشوائب التي تصل إلى نهاية الترع وتؤدي إلى الحد من كفاءتها ومقدار التصرفات الممكن استعمالها مباشرةً دون معالجة. كذلك فإنّ تقليل الشوائب يضمن وصول المياه بشكل أسرع إلى الأراضي الزراعية، مع القدرة على تحقيق العدالة في توزيع المياه وزيادة الإنتاجية لتلك الأراضي. الصيانة الدائمة تقلّل أيضاً من تكاليف الصيانة السنوية للمجاري المائية.
ومن الجدير بالذكر، أنّ الحكومة المصرية أعلنت في إطار الخطة القومية للموارد المائية 2037، عن مشروع لإعادة تأهيل وتبطين وصيانة ترع الريّ لمواجهة أزمة العجز المائي، مع الأخذ في الحسبان التكامل بين الوزارات المعنية كافة ومشاركة مجالس المحليات وأصحاب المصلحة والمستفيدين من جميع الشركاء وفئات المجتمع، في تنفيذها. وقد توقّعت الحكومة المصرية، توفير نحو خمسة مليارات متر مكعب من المياه التي كانت تُهدر على طول مجاري الشبكة المائية في أنحاء البلاد كافة، بإتمام هذا المشروع. وأعلنت أن فقدان المياه في الترع القديمة لا يقلّ عن 30% إلى 40%، ما يتسبّب في سوء الصرف في هذه الأراضي، إذ يتمّ غمر الأراضي المنخفضة حول الترعة بالمياه فلا تصلح فيها الزراعة.
انطلق المشروع القومي لتبطين وتأهيل الترع على ضفّتَي نهر النيل نهاية عام 2020، حيث بدأت وزارة الري المصرية بتنفيذ المرحلة الأولى من المشروع المخطّط أن يجري على مرحلتين، والذي يشمل تأهيل ترع بإجمالي 20 ألف كيلومتر في 20 محافظةً، وكان مقرّراً أن ينتهي المشروع بالكامل عام 2024، بتكلفة تصل إلى 80 مليار جنيه (نحو مليون و600 ألف دولار أمريكي)، كميزانية تقديرية.
كان يتعيّن على الحكومة دراسة هذه الترع، وتقدير التكاليف المحتملة لهذا المشروع قبل البدء به. ومع ذلك، يبدو أنّ الحكومة التي تفتخر بإدارتها مشاريعها دون الحاجة إلى إجراء "دراسات جدوى"، تواجه حالة الارتباك نفسها في إدارة ملف المياه، كما هي الحال في ملفات الدولة الأخرى
ومع ذلك، أعادت الحكومة تقييم المشروع في عام 2023، وسط انقسام حول جدواه ومطالب بتغيير الإستراتيجية، قبل أن تُعلن وزارة الموارد المائية والريّ المصرية آنذاك تشكيل وحدة لإعادة تقييم ومراجعة العمل على هذا المشروع، عقب جلسة برلمانية في منتصف كانون الثاني/ يناير 2023، شارك فيها وزير الريّ المصري هاني سويلم، وأفاد خلالها بوجود بعض المشكلات في المشروع.
كما أقرّ بأنه لا يمكن التعامل مع كل الترع بطريقة استخدام الخرسانة نفسها، واصفاً تبطين جميع الترع بتلك الطريقة دون تمييز بأنه "إهدار للمال العام".
وكما أوضحنا، يتحدّد اختيار المواد المستخدمة في تبطين القنوات بناءً على طبيعة التربة التي تمرّ بها القناة. لذا، كان يتعيّن على الحكومة دراسة هذه الترع وتقدير التكاليف المحتملة لهذا المشروع قبل البدء به. ومع ذلك، يبدو أنّ الحكومة، التي تفتخر بإدارتها مشاريعها دون الحاجة إلى إجراء "دراسات جدوى"، تواجه حالة الارتباك نفسها في إدارة ملف المياه كما هو الحال في ملفات الدولة الأخرى.
في المقال القادم، نستكمل مناقشة هذا المحور الجديد الخاص بتقديم حلول أخرى مستدامة وإستراتيجيات متكاملة للتعامل مع مشكلة ندرة المياه في مصر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
حوّا -
منذ يومينشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل هذه العنجهية فقط لأن هنالك ٦٠ مليون إنسان يطالب بحقه الطبيعي أن يكون سيدا على أرضه كما باقي...
Ahmed Mohammed -
منذ 3 أياماي هبد من نسوية مافيش منطق رغم انه يبان تحليل منطقي الا ان الكاتبة منحازة لجنسها ولا يمكن تعترف...
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياموحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامصادم وبكل وقاحة ووحشية. ورسالة الانتحار مشبوهة جدا جدا. عقاب بلا ذنب وذنب بلا فعل ولا ملاحقة الا...
mahmoud fahmy -
منذ أسبوعكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم