شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
رحلة شخصية متخيّلة مع أصدقائي السودانيين بعد الحرب

رحلة شخصية متخيّلة مع أصدقائي السودانيين بعد الحرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 7 فبراير 202511:42 ص

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.  

سأكتب عن السودان الذي أتمنى زيارته يوماً ما. ربما أكتب عن زيارة متخيّلة، لا أعرف عدد السنوات التي يمكنها أن تفصلني عنها، لكني لست شخصاً شديد التفاؤل لكي أتخيّل أنها قريبة، ولا يسعني الصبر حتى أتخيّل أنها بعيدة. سأطلق لخيالي العنان، وأتخيل الزيارة بتفاصيلها وأحداثها، وهو المهم بالنسبة لي. لن أتحدث عن سنوات أو أرقام، أو متى وكيف؟ سوف أترك التفاصيل المنطقية والعلمية للزمن ليتكفل هو بها. أنا هنا أعيش تفاصيل الحلم فحسب. سأدع الواقع بتاريخه وأحداثه، وأنسى كل الألم الذي أشعر به، وأعيش في الخيال قليلاً.

سأكون محتارةً جداً، لأنّ الجميع يريد أن أبدأ الزيارة به، لكني سأختار الست فريدة وبناتها، لأنها أول شخص أطلب منه أن يستضيفني في السودان. الست فريدة امرأة طيبة وحنونة، ومعطاءة بلا حدود، تشكو ابنتها من أنها لا تستطيع عمل أبسط أمور الحياة، برغم أنها شابّة كبيرة وأنها اضطرت إلى أن تتعلم الغسيل بعد الحرب. أمّها تقوم بكل شيء، يا له من دلال! أعرف أنني سأعيش أياماً في دلال مخملي في بيت الست فريدة، وأحبّ أن أطلعكم على تصوّر لهذا البيت؛ بيت يشبه صاحبته، هادئ وحنون، منظّم جداً ودافئ ومليء بالحياة والمرح. تركت الست فريدة بيتها في السودان في الحرب، وأعتقد أنّ البيت الآن ينوح عليها، لكنها حين تعود سيبدأ البيت تلقائياً بالتغيّر، وسيمتليء بالنور. ربما تمّ هدمه في الحرب، أو هدم جزء منه، لكن الأرض راسخة، وتعترف بأنها ملك لهذه المرأة دون غيرها. على كل حال، ستطبخ لي كل يوم طعاماً مختلفاً. ستحكي لي بهدوء عن ذكرياتها في البيت، وعن كل ولادة ومخاض شهدتهما حوائط المكان. ستحكي لي عن خطتها في المستقبل لزرع حوش البيت بالطماطم والخضروات الخفيفة زراعتها مثل الفلفل والجرجير. ستشكو لي أنّ معظم النساء يلُمنها على تدليل بناتها وأنها تحمل على عاتقها كل تفاصيل البيت وحياة الأولاد. أنا الشخص الوحيد الذي يشعر بها. أعرف أنّ أنفاسها مرهونة بالحركة والبيت والأولاد، وأنها لا تعرف كيف تعيش من دون الاستيقاظ مبكراً، والبدء بخدمة البيت والعائلة. هي لا تعرف شيئاً في الحياة سوى البيت والأولاد، وكل ما يخص البيت والأولاد، البيت بضيوفه وحوشه وأثاثه وجيرانه وذكرياته ودفئه. البيت هو وطنها الوحيد. 

ليس الأمر صعباً، إذ أصبحت مصر والسودان شبه دولة واحدة بعد فتح الحدود بين البلدين، تحتفظ كل جارة بخصوصية تاريخها وتراثها وطبيعة شعبها

وسأزور عطبرة مع عبد الرحمن، سأفضّل أن تكون الزيارة بالقطار، لكن ليس بالقطار الذي رأيته أيام متابعتي لأحداث الثورة في السودان، على التلفاز. كان متهالكاً، والناس يلتفّون حوله من كل النواحي بخطورة ولاآدمية. سيكون قطاراً أسود لامعاً ونظيفاً ومنظّماً جداً يليق بي وبعبد الرحمن وخالته وأخته "حدوتة" وبقية أهله، سيطلب مني أن أذهب معه لزيارة قبر أمّه "رسالة". سأقرأ لها الفاتحة وأخبرها بكل شيء حكاه لي عنها. في رحلة القطار سأجلس بجوار الشباك وأمامي منضدة متوسطة الحجم وبجواري حدوتة وعبد الرحمن، وتلتف بقية العائلة حول المائدة. سيخبروني بأنها المرة الأولى التي يسافرون فيها إلى عطبرة، نزولاً عند رغبة عبد الرحمن، فقد أخبرهم بعد لمّ الشمل في السودان وبعد قرارهم الأخير بترك ليبيا والاستقرار في موطنهم الأصلي، بأنه يريد زيارة عطبرة مع صديقة مصرية.



نسيبة وزوجها وبناتها سوف يعودون وسوف يستقبلونني بعد انتهاء زيارتي للست فريدة. سأكون متلهفةً لكي أرى "سارة" و"سحر"، وستشكو لي منهما، فمنذ عودة الأسرة إلى السودان والبنات في كل يوم عند أقاربهنّ. تكاد لا تراهنّ، فتشعر بالاستغراب منهنّ، إذ كيف يستطعن زيارة كل هؤلاء الناس والاندماج بينهم بهذه السرعة، وكأنهنّ عشن معهم منذ الولادة. سأخبرها بأنها السبب، وبأنها كانت طوال الوقت تحكي عن الأهل في السودان والأقارب ومن تركتهم ومن أتوا ومن فعل أو لم يفعل، كأنها تعيش بينهم. البنات الآن يعشن الواقع الذي لطالما تخيّلته نسيبة، وحكت عنه في أمنياتها والدموع تسيل من عينيها البنّيتَين الجميلتَين.

عوضية، اسم متخيل لامرأة سودانية قابلتها جارتي في العمارة، وحكت لها عن حياتها السابقة في السودان. ولأنّ "صلاح" أخبرني بأنّ النساء المسمّيات بهذا الاسم يخجلن منه، ويطلقن على أنفسهنّ أسماء أخرى، قررت أن اسمّيها عوضية، وسأجعلها فخورةً جداً بهذا الاسم. الكثير من الأشياء سوف تتغير؛ أفكار السودانيين وأحلامهم ونظرتهم إلى تراثهم... إلخ. سوف تكون أرض السودان كلها مزروعةً بنجيل أو شجر أو مزارع، عوضية التي كان لديها منزل بحديقة قبل الحرب، ستعود وتبني منزلاً أكبر وحديقةً أجمل. ستخبرني هيلين، صديقتي النيوزيلندية، بأنها تحسدني على زيارة السودان، وأنّ أولادها يتمنون أن يشاهدوا هذه الجنّة التي لطالما رأوا صورها على الإنترنت. 

ستخبرني هيلين، صديقتي النيوزيلندية، بأنها تحسدني على زيارة السودان، وأنّ أولادها يتمنون أن يشاهدوا هذه الجنّة التي لطالما رأوا صورها على الإنترنت. 

سأعرّف أصدقائي إلى بعضهم البعض. سأحبّ أن تصبح أروى وهاجر صديقتين. ستخبرني أروى، بأنها زارت كل ولايات السودان، وستأخذني أنا نفسي في جولة إلى كل الولايات. ستتذكر معي زياراتها للأماكن، وسأتذكر من خلال حديثها "تمشياتنا" والطرق التي كنا نسير فيها لساعات طويلة في مصر. سأُذكِّرها حينما قالت لي إنها لم تزُر ولايات السودان، وها هي ذي الآن تعرف كل تفصيلة في جميع الولايات، وتشرح لي مثل مرشدة سياحية تاريخ كل بقعة وكل شبر في السودان، وتحكي كأنها وُلدت عشرات المرات وعاشت عشرات الحيوات في كل ولاية منها، وأنها تنتمي إلى هذه الولايات جميعاً. ستُشفى من التفكير المفرط وستعرف معنى كلمة "راحة دماغ". السفر والحركة في طول السودان وعرضها علّماها الكثير من المهارات للتغلب على التفكير المفرط. مشاهدة أهله وهم يزرعون ويصنعون ويبنون ويحتفلون ويعيشون بحبٍّ ورخاء ستجعلها تعرف طعم الحياة العادية والراحة والاسترخاء.

سألتقي صدفةً في الشارع بامرأة. ستناديني باسمي بصوت عالٍ: شيماء، وتخبرني بأنها جلست بجواري في جلسة حكي في الشيخ زايد، وتقول لي إنها زارت الإسكندرية وعملت بنصيحتي، وقضت وقتاً ممتعاً في مصر، وصنعت الكثير من الذكريات، وحينما عادت وتزوّج أبناؤها وأنجبوا لها أحفاداً ها هي ذي تحكي لهم الآن عن مصر ويحلمون هم بزيارتها حينما يكبرون. سوف يزورون الإسكندرية ويشاهدون كل الأماكن التي تحكي جدّتهم لهم عنها في مصر؛ الفيوم، بورسعيد، ورأس البر. ذكّرتني بقولي لها، حينما كانت مكتئبةً ولا تتخطّى عتبة البيت، ولا تعرف أيّ شيء عن البلد الذي جاءت لتقيم فيه بعد الحرب، إنها منهكة ومتعبة ومريضة وحزينة. قلت لها: أنت لا تستطيعين فعل أي شيء لمن هم في السودان، ولكنك تستطيعين أن تعيشي الحياة، وتصنعي لك ذكريات في البلد الجديد، ذكريات تأخذينها معك لتحكيها لأحفادك في السودان بعد العودة. قلت لها إنّ أحفادها سيقولون عنها إنها امرأة مجنونة، إذ عاشت فترةً من عمرها في مصر ولم ترَ الأهرامات، أو تسافر إلى الإسكندرية. أخبرتني أنها بالفعل حينما أخذت بنصيحتي تحسّنت صحتها، وأنّ الشيء الوحيد الذي ضايقها أنها لم تحصل على فرصة التواصل معي مرةً أخرى، لكنها انتظرت اليوم الذي سأزور فيه السودان. ضحكت حين قالت هذه الجملة، وقالت لي: عشت على أمل أن أراكِ يوماً ما تزورين السودان كما قلتِ من قبل. المجنونة حكت عنّي لأحفادها، وهم أنفسهم ينتظرون هذه الزيارة، وكأنها وعد من قريبة أو صديقة عمر، لا مجرد كلمة من امرأة عابرة قابلتها في ورشة حكي. ستأخذني لتعرّفني إليهم، وسأجد نفسي في مصر مرةً أخرى من خلال حكاياتهم عن كل منطقة وتفاصيلها الدقيقة جداً. 

والآن، أنا التي عليّ انتظار زيارة الأحفاد كي يروا كل شيء يحكون عنه على أرض الواقع. ليس الأمر صعباً، إذ أصبحت مصر والسودان شبه دولة واحدة بعد فتح الحدود بين البلدين، تحتفظ كل جارة بخصوصية تاريخها وتراثها وطبيعة شعبها، لكن العلاقات بين البلدين أشبه بما كانت عليه أيام الملكية حينما كان يحكم مصر والسودان ملك واحد. بلدان وقلب واحد.

صلاح سيعطيني هديةً ثمينةً. أجود أنواع المانغو من مزرعته. حياة صلاح لن تتغير كثيراً، هو رجل هادئ لا يحب التغيير، يريد الحفاظ فقط على الحياة كما هي والأسرة والأولاد والمانغو. "صلاح المانغاوي"؛ هكذا أسميته لأنه يحبّ المانغو بشكل جنوني. سأزوره في بيته وسيعرّفني إلى الأسرة الممتدة من أجداد وأولاد وأحفاد، بالطبع سأنسى كل الأقارب الكثيرين جداً باستثناء شخص واحد هو الأقرب جداً إلى قلب صلاح: الأب.

سيخبرني صلاح، أنه لم يعد قلقاً أو خائفاً. إن هذه الأسماء للمشاعر أصبحت من الماضي. حتى التكنولوجيا في السودان ليست طاغيةً أو متجذرةً بشكل فجّ كما في كل العالم

سيذكّرني بأحاديثه عن السودان ولهجاته حينما كان يعيش في مصر، وبأماكن زراعة المانغو في السودان في منطقة شندي في شمال السودان، وجنوب كرفان، ودارفور، وسنار: "كلها مناطق لزراعة المانغو، لكن أشهرها شندي وكردفان". وسيتمنى أن تكون معرفة المصريين بالسودان قد تطورت، إذ كان يشكو دائماً من أنّ المصريين لا يعرفون الكثير عن السودان. سيحكي لي عن فترة العودة الأولى وصعوباتها، لكن سيعود الهدوء إلى صوته مرةً أخرى، حينما يبدأ بالحديث عن وضع زراعة المانغو في السودان وأحوالها وتطورها مرةً أخرى.

سيخبرني صلاح، أنه لم يعد قلقاً أو خائفاً. إن هذه الأسماء للمشاعر أصبحت من الماضي. حتى التكنولوجيا في السودان ليست طاغيةً أو متجذرةً بشكل فجّ كما في كل العالم. لم ينسَ السوداني ولن ينسى أهمية العلاقات الاجتماعية والسهر والصحبة والحكي والسمر. يضع صلاح الأسرة في حوش المنزل لاستقبال الضيوف من أسوان. نعم، أقاربه في أسوان اللذين كان خائفاً من زيارتهم لكيلا يظنوا أنه جاء ليطالب بالورث، مرّ عليهم في طريق عودته إلى السودان، وأخبرهم بأنه يحبّ الأهل والسمر، وأنه عائد إلى وطنه ويتمنى أن يزوروه. أن يتّصل المرء بجذوره لهو أهم من أيّ شيء آخر.

هل سأعود من الزيارة أو أحبّ السودان وأتمنى أن أقضي بقية حياتي فيه؟ لا أعرف...


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image