شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
جئتُ إليكم من هُناك... من شجرة التين الأزيدية في

جئتُ إليكم من هُناك... من شجرة التين الأزيدية في "شِنگال"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الأحد 22 ديسمبر 202402:27 م

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.  

تُخلِّفُ سيارة الأجرة وراءها سحابة من الغبار، تحملُ بين ذراتها بقايا أرواحًا تحومُ حولَ أكثر من 80 مقبرة جماعية. لم يكُن لها -وهي المولودة كسيقان قمح تهزها أية ريح- نيةً في العيش إلى الأبد، بل أن تعيش كما زهرة عباد الشمس موسمها مولية وجهها لنور الرب وهو يخترق الغيوم، ولو ماتت بعد حين، فلا مانع، ولكن، أن تكمل موسم عيشها أولاً.

مقابر جماعية في جنوب شنگال، لم يكن لضحاياها لغة تفهمها السماء والأسلحة المُصوَّبة نحوهم. كانوا يتحدثون لغة الموتى، تعلموها من أجدادهم الذين قُتلوا في أكثر من 70 فرمانًا. ولكن: "Even amidst fierce flames the golden lotus can be planted"

ويُشغِّلُ السائق العجوز، أغنية فلكلورية لـ"خدر فقير"، يناجي فيها محبوبته الميتة. 

شِنگال

وكصقورٍ تهاجرُ كي تستعيد حدَة مخالبها ومناقيرها، تهاجرُ الأرواح من شنگال إلى الجبل، حيثُ جرحَت قمّته سفينة نوح، وتنشب مخالبها في لُبّ روح الكون. علّ أحد الصقور يعود يومًا إلى شنگال، قويًا كطفلٍ يحتملُ عطش أغسطس/آب 2014، وضعيفًا كحكامٍ باعوا روحهم وروح رعاياهم، حفاظًا على أجسادهم وأوهامهم.

رغم سير السيارة، لعشرِ سنواتٍ طوالٍ كليالي الشتاء في المخيم، ورغم قفر المدينة من أية دلالةٍ على الحياة ووجهها المتجعد المتصخر، ورغم الأسلحة والقضبان التي تحذفُ بيدٍ من الإيمان كرامةَ الرجلُ، وروح المرأة، ورغم تمحور العالم في شنگال حول رائحة الجثة، والأسئلة التي لا أجوبة لها، تسأل عن صاحب الجسد المرمي قرب حاوية النفايات، ورغم كل شيء، ولا شيء، لا ينتهي الطريق الخارجِ من المدينة، وكأن العالم، شنگال كبيرة، العالم امرأة من شِنگال، تُغتصب وتُباع، ولا يكترث الموكلون عليه لما تؤول إليه بعد خفوت حدة صرخاتها تعبًا وخيبةً.

جئت إليكم من هناك، من مدينة المرايا المكسورة، والأبواب المخلوعة، والبيوت الطينية، منها ما نجت من القصف الذي شنه التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد داعش، فأوقعتها السماء بأمطارها، وارتطمت، ككل واقفٍ في شنكال، بالأرض ناثرة أحلام ساكنيها في الأرجاء.

أزقة المدينة في الليل تنام على أنفاق تؤدي إلى "مدينة أين"، وأنفاس لعناتٍ وأسلحةٍ صدئة بأيدي مراهقين انضموا للجماعات المسلحة مقابل 300 دولار تملأ الهواء وتجرح الرئتين. 

قرية أزيدية

أزقة المدينة ليلة تشهد استيقاظ أكثر كوابيسي رعبًا. في شنكال تضيع الدعوات، كل عجوز رفعت يدها ناجية السماء، أُطفأت أضواء في صدرها بعد خيبة أمل مفجعة. كل رجل وثق بتراب أجداده، تخثر دمه على التراب بعد أن عصا عناصر داعش ولم ينطق الشهادة.

أتذكر امرأة كانت في شاحنة ميتسوبيشي التي هربنا فيها من شنكال صباح 3 أغسطس/ آب 2014، كنا نحو 50 شخصًا أو يزيد. بدأتْ بالصراخ وحاولت أن تقفز من الشاحنة كي تعود راكضة لإحضار ابنها الذي بقي نائمًا على سطح البيت الطيني. احتاج تثبيتها لعشرات الأيدي وصرخات التحذير من السماح لها. كانت تغرس أظافرها في خديها والدم يسيل عليهما. أرى عينيها الهلعتين المليئتين بالدم والدم أينما وليتُ وجهي، أنّى نظرت في المرآة. 

رغم سير السيارة، لعشرِ سنواتٍ طوالٍ كليالي الشتاء في المخيم، ورغم قفر المدينة من أية دلالةٍ على الحياة ووجهها المتجعد المتصخر، ورغم الأسلحة والقضبان التي تحذفُ بيدٍ من الإيمان كرامةَ الرجلُ، وروح المرأة، ورغم كل شيء، ولا شيء، لا ينتهي الطريق الخارجِ من المدينة، وكأن العالم، شنگال كبيرة

ألتقيتُ بشهد، عرفتها طالبة مجتهدة في الابتدائية، كانت تكتب لكل منا، نسخة مميزة، ومختلفة عن إنشاء الوطن. كانت تكتب عن الوطن كما لو أنّه بيتها، وتصف فخرها بانتمائها إليه، كما لو أنّه ابنها، وعن حاجتها إلى احتوائه لها، كأنّه أبوها، وعن دفء ليالي صيفه وهي تأوي إلى فراشها على سطح البيت الطيني وتملأ السماء عينيها وتتعالى ضحكاتها وضحكات أصدقائها على سطوح البيوت المجاورة، وعن نسمات خريفه التي تحمل موت أوراق الأشجار وحياةً جديدة فيها لهفة التين والتوت والزيتون للربيع، كما لو أنّه أمّها.

كانت شهد تحمل دائمًا علمًا عِراقيًا استغرقت في رسمه أربعة شهور، وكتبت أسماء كل مَن تعرفهم في الجزء الأسود من العلم، وتاريخ العراق وحضاراته ونهريه في خانة الأحمر، ورسمت شجرة تين أفقية في الوسط، مستبدلة "الله أكبر" بأغصان ترتفع حتّى الأسماء، وتتدلى حتّى الحضارة والنهرين.

كان بيتها قريبًا من بيتنا، وحين تلمحني كانت تتوارى وراء الباب خجلى، لم أستغرق كثيرًا في محاولة تكهن ما أصابها، بل تركتها على راحتها، ودخلتُ بيتي. لستُ أدري بأحقيتي في تسميته بيتي، ولستُ موقنًا ما إذا كان مقبولاً تسميته بيتًت، فما تبقى من مأوى كان يستع لأكثر من ثلاثين شخصًا، هو الآن خربة، تبقى منه غرفتين تسكنهما عائلة لا أعرف اسم أي من أفرادها، ولا أعرف، لو أن الأطفال حلموا أحلامي في الحديقة ذاتها، الحديقة التي أهداني فيها جدي قطعة حلوى أخيرة قبل سقوطه ميتًا. الحديقة ذاتها التي حلمت بإعطاء أطفالي وأحفادي قطعة حلوى أخيرة فيها قبل سقوطي ميتًا.

كانتِ الحديقة ميتة، ولسببٍ ما، لم أٌفاجأ، بل خطوتُ أسلِّم على أهل البيت، بيتي، وأتعرف عليهم. كانوا أربعة أشخاص، أو أربعة نجوا. طفلة شقراء، وطفل بشعر فحمي، وامرأتان، لا يمكن وصفهما. 

أزيديون

سألنني هل كنتُ من منظمة إنسانية، فأجبت بـ"لا". "أنت لا تشبهنا، تشبههم" قالت أصغرهما. "هم؟" تساءلتُ. "تشبه العاملين في المنظمات الإنسانية، جلدك لم يحترق بشمسنا، ولحيتك شقراء، وجسدك ممتلئ". ابتسمت شاعرًا بالذنب وخرجتُ مطأطئ الرأس.

كانت شهد تنتظر هناك، ونادتني بعدما اكتسبت شجاعة تكفي لذلك. "فؤاد، أنت فؤاد، أعرفك، أعرف عينيك، فيهما شيء لم يتغير." سعدت بأنها تذكرتني، كانت شهد كل ما بقي من شنكال كما هو. دعتني للدخول، وقدمت لي ماءً. وسألتني كيف انتهى بي الأمر، أخبرتها أنني أصبحتُ كاتبًا! سألتني عمّا أكتب عنه، وعن مشاريعي المستقبلية، وعن إمكانية حصولها على كتاب لي. "أنا أكتب عني، عنا، عنك، عن شنكال. للأسف، لم أنشر كتابًا بعد." وسألتها عمّا حصل في حياتها، وعن كتاباتها عن الوطن. "أنا أكتب، ولكنني لا أنشر، أكتب عن شجرة التين." ولاحظت بعدها جذع شجرة تين محروق يتوسط باحة بيتهم. "ولماذا لا تنشرين؟ هل أدلكِ على صحيفة؟". ندت عنها ضحكة وملأت عينيّ بنظرةٍ تلومني على جهلي، كما فعلت النسوة قبلها في بيتي. "ليس للكلمة قوة، وهي أكثر عبثية من حمل سيزيف للحجر، ثم مَن سيقرأ عن امرأة تحنُّ إلى شجرة تين في مدينة مهجورة؟". 

العالم امرأة من شِنگال، تُغتصب وتُباع، ولا يكترث الموكلون عليه لما تؤول إليه بعد خفوت حدة صرخاتها تعبًا وخيبةً. 

سألتها عن الوطن في كتابتها، هل ما زالت تعيد تركيب خارطته وعلمه وهيئته وكينونته كما يحلو لها؟ "ماذا فعلوا بعينيك؟

قالت(ت)، لا تسألني أرجوك.

قال(ت)، إنه الدمار.

قال(ت)، جئتُ إليكَ من هناك.

وما من زقاقٍ في شنكال، إلا وآثار الموت فيه، وليس لاسمٍ فيها نغم، ولا وقع موسيقي. كل الأسماء في شنكال مكتوبة على الصور المعلقة. والأفواه التي فتحها أصحابها على آخرها مناجيين فيها السماء، امتلأت بترابٍ نثرته عليها جرافات داعش، وهي تدفنهم في المقابر الجماعية.

قالت شهد إنّها نجت من الموت بإعجوبة، إذ إن حجمها الصغير، وهدوءها الذي يماثل هدوء الجثث، أوهما عناصر داعش حين اقتربوا منها. وفي مرة أخرى، قال لها أبوها في صباح احتلال داعش للمدينة، أن أفضل ما يقومون به، بغياب سيارة، هو التخفي في الحفرة. -كانت هذه الحفرة قد وُجِدَت من الأساس لتصب فيها المياه الثقيلة، ومجاري البيت- وغطّاهم بباب من التنك، مقتنعًا أن عناصر داعش سيدخلوا المدينة لساعات، وحين يكتشفون قفرها من غنائم الحرب، يرحلون. ولكن عناصر داعش أرادوا تطهير نساء المدينة بأعضاء ذكرية تنتهك كرامتهن وتمهد لهم طريقًا إلى الجنة. أرادوا أن يغيروا المنكرات بليلة لونها الدم واللهاث والتكبيل والجوع. أرادوا كسب الجنة بقاصراتٍ يبعونهن في أسواق النخاسة في رقة. وتحليل الأرض بتكبيراتٍ وتكفيرٍ لسكانها. مع أنّها لم تكن أول مرة يتعرض فيها الإيزيديون لمحاولة أسلمة أو تعريب، إلّا أنّها كانت المرة التي شهدناها.

"شعرت أننا كنا في قبر من الخراء، وخفت أن يكون الموت عبارة عن التخفي في حفرة مجاري." ولكن عناصر التنظيم رحلوا بعد تفتيش البيت، ولم يكترثوا لعائلة تفوح منها رائحة الخراء تأمل العيش يومًا مرة أخرى، كما هي، بكُفرها وشُركها، على أرضها.

«اللاجئونَ على الطُرُقات

الأطفال في التوابيت

النساءُ يَندُبنَ في الساحات

أهْلُكَ بخير؟

يُسَلّمونَ عليكَ من المقابر

(شنكالُ) سُنبُلةٌ تشبّثَ بها الجراد

جئتُ إليكَ من هُناك

إنّهُ الدَمار»

شِنگال القرية العراقية الأزيدية

تركتها آخذًا منها وسيلة للتواصل، وكي تبعث لي كتاباتها، ففعلت بعد يوم واحد، وطلبت مني نشرها، فها هي:

"خطوتُ نحو الجبل ألحق بجمعٍ يهرول كقطيعٍ تلاحقه ذئاب تعوي باسم الله، والشمس جلاد سماويٌ يحثنا على زرع الأمل كي تزهر الإنسانية. كي يتفاخر الغرب الإنساني بإنقاذنا. بعد ساعاتٍ أبدية، وجلودٍ تداخل العرق الناضح منها والدم في تجاعيدها، شَهدتُ أمًا تدفن صغيرها الميت عطشًا، وشُبانًا يحملون كِبارهم المعوقين على ظهورهم، والهلع بادٍ على حركاتهم.

سألتني أمي هل كُنت أشعر أنني سأموت، وناولتني ماءً ملوثًا لم أدرِ له اسمًا، فشربت قليله، وشعرتُ بمحتوياته في صدري. كانتِ الحياة نسمة هواءٍ باردة عندئذٍ، عززت نار أغسطس التي التهمتنا.

لم يكُ يعنيني ما صار، بل أشتقت لأرجوحتي المعلقة بشجرة التين في باحة بيتنا في خانصور، وددت لو أن الحرب تتوقف قليلاً، كي استظل الشجرة الوارفة، وأترك للغصن يلاعبني على حبله".

"في جبل شنكال، كان الموت سلعة يتداول الناس أخبارها، وغذاء يقتلون به جوعهم. ترى امرأة تغذي طفلها بأخبار موت أطفالٍ آخرين كي يكف عن الصراخ، وعجوزًا تهوّن على عطش أحفادها بموت أحفادٍ آخرين. غذاني أبي بدمعه على موت أخيه، وروت أمي عطشي بصرختها الشجية على قتل كل أفراد عائلتها من الرجال، واختطاف النساء.

سألتني هل كُنتُ سأحيا، في حَجَريّة الهواء، على حجارة الجبل، حيث أجسادنا التصقت، حيث الهواء سكينيٌّ، النجومُ مُطفَأةٌ، وسين -إلهة القمر- علَّقت قلبها على رمحٍ ونشبت النيران فيه كي نرى، بعد موت القمر، طريقًا يستدل الموتى منّا طريقهم إلى السماء. 

سألتُ أمي هل كان في السماء جبل سنلجأ إليه هربًا من كائنات الله الذين حجزوا الجنة، فكَّرتُ بنسخة من جبل شنكال في السماء، لا أنهار خمر فيه ولا حور عين، بل جبلاً، فيه أشجار تين، أقتعد ظل واحدة منها، ويعلّق أبي بغصنها أرجوحة لي

وسألتُ أمي هل كان في السماء جبل سنلجأ إليه هربًا من كائنات الله الذين حجزوا الجنة، فكَّرتُ بنسخة من جبل شنكال في السماء، لا أنهار خمر فيه ولا حور عين، ولا أبدية ولا جنة، بل جبلاً، فيه أشجار تين، أقتعد ظل واحدة منها، ويعلّق أبي بغصنها أرجوحة لي، أبي، بطلي، طفلي الصغير الذي لم يكف عن البكاء يوم هربنا، وقبّل كف يدي، ومسح وجهه بها، تنشق رائحة شعري، وصار يرتعش وينتحب، ملقيًا برأسه بين يديّ.

«هو الذي بدأ بالتيه في العشرين

لم يجد مكانًا يستقر فيه حتّى النهاية

حيثما كان، كانت الحرب وأوزارها....»

"نزل أبي من الجبل يوم أمس، ورجوته النزول معه كي اطمئن على شجرة التين في باحة بيتنا، فوعدني بالعناية بها وسقيها، إلى أن تزول سُحب الشر هذه.

لم يعد، ولم أعرف شيئًا عن شجرة التين."

"في طريقنا سيرًا إلى سوريا، من جبل شنكال، كنا كنملٍ يحمل ما تسنى له من الذكريات، للعيش بفضلها ولها ومنها وبها، وتفننت بتعليب الذكريات في صناديق وخزنها في دماغي. لكل ميتٍ من شنكال، أولئك الذين دُفنوا في مقابر جماعية وصاروا أرقامًا، حفرت قبرًا في رأسي، ودفنتهم تحت ظل شجرة التين."

"يقولون إن العالم قرية صغيرة، فأين قريتي من هذه القرية؟ وأين بيتي الذي دُمِرَ وصار رمادًا له هيئة شبحٍ منسي تسقط أبدًا خارج زجاج الساعة الزمنية؟ هذا المخيم، ببياض خيامه الكفنية، وطين شوارعه الجحيمية، وبرد شتاءاته المُفزِعةِ لأحلام المشردين، مرايا تجرح وجه الأيام. هذا المخيم يطفئ أنوار الروح، ويمحي كلام الرب المكتوب على جدران قلوبنا. رائحة القمامة التي تُحرق حول المخيم في وادٍ للغيوم الميتة، تلوث شجرة التين في صدري."

"سمعتُ عن امرأة إيزيدية دفنوها إلى جانب أختها في قبر الأمهات، حيث دفن عناصر داعش النساء اللواتي "لا يصلحن للبيع والإنجاب". لم تمت تماماً، بل توارت خلف ظلال الموتى حولها، وخرجت بعدئذٍ لتسير نحو الجبل. لم تكن روحها مقدسة، ولا حملت في كفها معجزات الزمن، بل كانت امرأة من شنكال، أُرغِمَت على الانمساخ إلى ميتةٍ كي تنجو من الموت. وأحسستُ أنّ الوطن قد قتِل في قبر الأمهات. العراق ذُبِحَ في شنكال، كرجلٍ رفض نطق الشهادة والإسلام. العراق امرأة أغتُصِبَت في شنكال، وانتحبت في دمها تحت لهاث الإرهابي. العراق فتاة بيعت في سوق النخاسة وحُلل دمها. العراق شجرة تين في باحة بيتي في خانصور، أُحرِقت بالكامل، وبقي جذعها ليحرقني".

"هذا الوطن يشبهني، وكلانا غريب عن الآخر، كلانا مرمي ومُهمل كبضاعة منتهية الصلاحية. كلانا عاش في مخيمات النزوح لسنوات، وخَبِر شتاءات تهب عواصفها من أعمق جحيم، كلانا فتَّش عن بيتٍ دمَّرته كائنات السماء والأرض، كلانا بلا وطن." 

العراق ذُبِحَ في شنكال، كرجلٍ رفض نطق الشهادة والإسلام. العراق امرأة أغتُصِبَت في شنكال، وانتحبت في دمها تحت لهاث الإرهابي. العراق فتاة بيعت في سوق النخاسة وحُلل دمها.

آخر رسالة بعثتها شهد، كانت قبل أسبوعين، حيث بدأت رسائلنا تتبدل من طابعها الأدبي، والسؤال عن أي جديد، إلى كلمات لا تعبر عن مشاعر تنشب مخالبها في رقبة ليالي الوحدة.

"ربما وحدك لم تستطع مشاهدة هذا الفراغ، هذه الهوّة السحيقة، هذا الانغماس الدائم في الخوف، لمرةٍ فقط كان يجب أن أتلو عليك أسطورة المرايا من جديد، عيناي فقط زجاجتان تعكسان فراغ العالم ولا شيء غير هذا يا فؤاد، وإن كنت مثلك قَبلاً أصوغ من فراغهما نافذة إلى الحرية، لكنني الآن مدركة تمام الإدراك أنهما السجن والسّجان بوقت واحد.

وكأم بعيدة لا تستطيع أن تغدق عليك وصاياها كل ما يمكنني فعله أن أنقذك من هذا البناء الذي يتهاوى، أنقذك مني، وانقذ نفسي من نفسي."

جئتُ إليكُم من هناك، من أرضٍ تشرأب من أرضها كالسراب صيفًا، أرواح مَن لم يتغيروا حتّى بعد ذبحهم، وآخوا رائحة الأرض، لئلا تنشب مخالبها في هويتهم.  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image