تُعَرِّف استراتيجيةُ الأمم المتحدة خطابَ الكراهية بأنه "أيُّ نوع من التواصل الشفهي، أو الكتابي، أو السلوكي، الذي يهاجم أو يستخدم لغة ازدراء أو تمييز، إشارةً إلى شخص أو مجموعة على أساس الهوية، والتي يقصد بها الدين، أو الانتماء الاثني، أو الجنسية، أو العرق، أو اللون، أو النسب، أو النوع الاجتماعي، أو أحد العوامل الأخرى المحددة للهوية".
ولا يوجد تعريف شامل لخطاب الكراهية بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، فما يزال هذا المفهوم محلّ نزاع واسع، وخاصة فيما يتعلق بحرية الرأي والتعبير، وعدم التمييز، والمساواة. لكن الأمم المتحدة وضعت هذا التعريف لتوفير إطار عمل موحّد لمعالجة القضية على الصعيد العالمي.
"شكلو متل النازحين"
وبالحديث عن الحالة السورية، نجد أن تطور خطاب الكراهية وأسلوب التنميط بين أفراد المجتمع مرّ بثلاث مراحل؛ الأولى قبل اندلاع الثورة السورية، والثانية جاءت خلال سنوات العسكرة، والثالثة بعد سقوط نظام البعث. كل ذلك كان يجري على أعين فكر البعث وأيديولوجيته التي استفادت من هذا الخطاب في السيطرة على البلاد.
سنسأل أنفسنا سؤالًا هنا: من منا لم ينعت الآخر بصفات وعبارات تعزّز الانقسامات الداخلية حتى لو على سبيل الدعابة؟ ألم نسمع أحدهم يقول في وصف شخص، ربما يبدو مختلف الهيئة، "شكلو متل النازحين"، بالإشارة إلى أهل الجولان الذين نزحوا قسراً بعد نكسة حزيران 1967؟ أو من يقول "عزيمة شامية" (إشارة إلى أن أبناء الشام يتسمون بالبخل)؟
لقد قسمنا أنفسنا بتصوراتنا عن الآخر دون أن ندري، فالكل يعتقد، اعتقادًا غير منصف، بأن معظم الدمشقيين يحيون على مبدأ "اللي بيتجوز أمي بقلو عمي"، والحلبي "هواه تركي"، وأولاد الساحل "أزلام السلطة"، وأهل إدلب وريف دمشق "متعصّبون"، وغير ذلك من التنميط الذي لا ينسجم والواقع، ويطلق أحكاماً بشكل أحمق ومرفوض على مكونات وفئات اجتماعية عديدة.
من منا لم ينعت الآخر بصفات وعبارات تعزّز الانقسامات الداخلية حتى لو على سبيل الدعابة؟ ألم نسمع أحدهم يقول في وصف شخص، ربما يبدو مختلف الهيئة "شكلو متل النازحين"، بالإشارة إلى أهل الجولان الذين نزحوا قسراً بعد نكسة حزيران 1967؟ أو من يقول "عزيمة شامية"، في غمز إلى أن أبناء الشام يتسمون بالبخل؟
ومع انفجار الوضع السوري، أصبحت الخانة وقيد الهوية دليلاً على الانتماء السياسي أو الديني، فصارت الهوية التي كتب عليها طرطوس أو اللاذقية دلالة على أن صاحبها "شبيح" حكماً، ومن أفراد الطائفة العلوية بلا شك، وأصبح حاملو الهويات التي كتب عليها جوبر، أو داريا، أو حريتان، أو الزبداني، أو حارم، في ظن البعض، "متشدّدين - إرهابيين"، وإن كان صاحب الهوية من القامشلي فهو "انفصالي"، وأهل السويداء يرتبطون بالسياسي اللبناني وليد جنبلاط أكثر من ارتباطهم بوطنهم، ولديهم علاقات جيدة مع الاحتلال الإسرائيلي، وأفراد الطائفة الشيعية "أتباع إيران"، والمسيحيون "أتباع فرنسا".
"شبيحة" و"فلول النظام"
وفي المرحلة التي تلت سقوط نظام بشار الأسد، تغيرت صيغ خطاب الكراهية لكنها حافظت على وجودها العلني والمباشر، وأُضيف إليها فكرة التعميم، فعلى سبيل المثال، نُعت العلويون والشيعة بـ "الشبيحة" أو "فلول نظام" الذين يجب أن تتم محاسبتهم. تناسى أصحاب هذا الخطاب أن نظام الأسد كان متعدّداً في أركان فساده وإجرامه، غير أن هذه المكوّنات، كغيرها من النسيج المجتمعي السوري، تمتلك شريحة معارضة للنظام السابق، وتعرضت للإهمال والتنكيل.
وهنا نرى أننا من دون أن ندري، نخر خطاب الكراهية والتنميط حياتنا اليومية، فبتنا نسمعه في بيوتنا وشوارعنا وأماكن عملنا، وحتى في مدارسنا.
يقول الناشط المدني "حسين شبلي": "بعد الاستقلال، لم يكن هناك خطاب كراهية بالمفهوم المتداول اليوم، بل بعض التنميط الواضح والتعميم للتصرفات الفردية على المجموع، فاستغلت قراءة البعث الواقع السوري للاستفادة من التنميط وصراع الهويات لتأمين استمرار الوجود في السلطة".
واتصالاً بما سبق، يتابع "شبلي" أنه "مع انفجار الوضع السوري دخلنا بأزمة مصطلحات، كالحريات والأقليات والأكثريات، وبدأنا نتقاذفها وفق تصورات فردية، ما زاد من التنميط ورفع منسوب خطاب الكراهية من الأطراف جميعها، وهنا نجد أن معارضة الأسد سقطت في فخّ فكر البعث الهوياتي الذي يعتمد على شيطنة المناوئ له ووسمه بالانفصال والطائفية والإرهاب، فأصبحت المعارضة تُغذي خطابًا مشابهًا ضد من يخالفها بالرأي ولو بمفردات ومصطلحات مختلفة، ولم تتجه لخطاب مواطنة جامع يعالج المشكلات السياسية والاقتصادية والثقافية".
صارت الهوية التي كتب عليها طرطوس أو اللاذقية دلالة على أن صاحبها "شبيح" حكماً ومن أفراد الطائفة العلوية، وأصبح حاملو الهويات التي كتب عليها جوبر، أو داريا، في ظنّ البعض، "متشدّدين"
والدلالة على كل ذلك وفق "شبلي" هو استمرار التنميط وخطاب الكراهية بعد سقوط نظام الأسد بالتزامن مع غياب القانون الضابط والحراك السياسي الواعي وتعاظم الهمروجات الفيسبوكية التي ربما تأخذنا جميعاً، في حال استمرارها، لإعادة الاقتتال أو التقسيم.
وفي سبيل إنهاء الحلول، يعتبر "شبلي" أن "أول خطوة على طريق الحل تكون في تقييم ما جرى ومعرفة سبب وصولنا لهذه النقطة من تاريخ البلاد، وتهذيب المجتمع على فهم الآخر، والاقتناع بأن للآخر مُطلق الحرية بممارسة ما يريد بشكل لا يضر غيره، والبحث عن تعريف جديد للهوية السورية دون استقطاب أو محسوبية أو تعميم، وكل ذلك يقوم على مبدأ المواطنة المطلقة لا المقنعة بسرديات التعايش المشترك".
"إذا شفت الأعمى طبو"
بدورها، أرجعت المحامية والناشطة شروق أبو زيدان، خطاب الكراهية والتنميط ضمن المجتمع السوري لفترات قديمة: "ما نتحدث عنه موجود منذ وقت طويل، وكان يتجلى بالكثير من المظاهر، فمنها ما يتم تداوله على سبيل الدعابة أو المثل الشعبي (إذا شفت الأعمى طبو مانك أكرم من ربو)، (متل الشوايا)، (عقل كردي)... إلخ، وقد تم العمل على هذا الخطاب من مختلف الجهات لتعزيز الانقسامات حتى لو لم يكن بشكل مباشر، ولكن عدم العمل على خفض هذا الخطاب وإلغائه، والتوجّه لبعض الفئات أو المكونات بالدعم واستثناء الآخرين من ذلك عزّز فكرة الانقسام".
تقول: "في الحروب والثورات وفي غياب الرؤية الوطنية والهوية الجامعة (وهي أكثر ما لعب به النظام البائد واستثمر) يعود الناس للهويات البسيطة ما قبل الدولة، ما يعزّز الانقسامات وخطابات الكراهية المختلفة التي تبدأ بدعابة وتنتهي بانفصال أو حرب أهلية، فمجرّد تقسيم الشعب السوري لمذاهب وطوائف ومناطق يكفي لتعزيز الكراهية والانقسام، حيث بات الشمال انفصالياً، والجنوب حليفاً للأعداء، وطائفة ما كلها توسم بوسم متنفذيها، وأخرى تنسب لدولة لأنها أقلية أو لديها مظلومية ما، وهذا وسّع الشروخات، وجعل الأكثرية من السوريين/ات يحتمون وراء مذاهبهم خوفاً من الآخر الذي يتم وسمه بمختلف الوسوم".
وتضيف في حديثها لرصيف22، أن واقع التنميط وخطاب الكراهية أصبح أسوأ بعد سقوط النظام، "فمعاقبة طائفة كاملة لأن رؤوس النظام ينتمون لها يكفي ليثبت كم تجذّر هذا الخطاب ليصبح جزءاً من ذواتنا وتفكيرنا وتصنيفنا لبعضنا البعض، ومحاولة إثبات مجموعات من مناطق أخرى أو فئات أخرى أنهم وطنيون وسوريون، مؤشر على أنهم يخشون من نظرة الآخرين لهم والتي عزّزها هذا الخطاب طوال سنوات الحرب".
وفي سياق متصل، توضح المحامية أنه "عندما تتعزّز فكرة الاختلاف السلبي والشعور بعدم الانتماء للكل، يصبح الأمر معتاداً، وننظر لهذا الآخر المختلف على أنه عدو لنا، أو على الأقل ليس صديقاً، ويصبح الخلاص الفردي غاية. وفي حالتنا؛ قد يكون هذا متجسّداً بشكل طوائف، ومناطق، ومكونات، ومجموعة مظلوميات، نحاول الحصول على تعويض لها من الآخرين الذين سببوها أو لم يمنعوها على الأقل".
وعن طرق التخلص من هذا الخطاب والنجاة من انفجاراته، ترى أبو زيدان أن "قبول الآخر وقبول الاختلاف، وعدم التمييز بالحقوق، والعمل بالقوانين المراعية لحقوق الإنسان، والعودة للحديث باسم سوريا، وتفعيل الحوار العابر للمناطق والمكونات على جميع المستويات، وعدم إقصاء أي طرف، وتطبيق العدالة الانتقالية، وتعزيز دور المجتمع المدني. كل هذا يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين ليصبح واقعاً ملموساً".
لا مفر من التعددية
وبعيداً عن القراءة الحقوقية والمدنية، تشرح الاختصاصية الاجتماعية غُدران نجم، في حديثها لرصيف22، أن "الأسرة والمجتمع المحلي الصغير يمكن أن يكونا عاملين رئيسيين في تعويم خطاب الكراهية والصور النمطية، فإذا كانت الأسرة تتبنى صوراً نمطية أو خطاب كراهية تجاه مكوّن معين، فمن المرجّح أن يتأثر الأفراد بذلك، والمجتمع القريب أيضاً، بما في ذلك المدرسة والجيران والأصدقاء، ما يؤدي إلى تكوين تصورات جمعية قد تكون مليئة بالتحيزات والصور النمطية".
في الحروب والثورات وفي غياب الرؤية الوطنية والهوية الجامعة -وهي أكثر ما لعب به النظام البائد واستثمر- يعود الناس للهويات البسيطة ما قبل الدولة، ما يعزز الانقسامات وخطابات الكراهية المختلفة التي تبدأ بدعابة وتنتهي بحرب أهلية، فمجرّد تقسيم الشعب السوري لمذاهب وطوائف ومناطق يكفي لتعزيز الكراهية والانقسام
وتضيف أن "في البيئات المشحونة بالكراهية هناك صعوبة للتحرّر من القوالب الجاهزة دون جهد ووعي ذاتي، خاصة إذا كان الشخص لا يملك تجارب واقعية حقيقية مع الآخر، بمعنى أنه كلما كانت التجربة قوية وعميقة كان من الممكن أن تؤثر وتكسر الصورة النمطية".
وعن أماكن الإصلاح، تقول: "الحلول تبدأ من المدرسة، وفيها يتم التركيز على غرس قيم التفكير النقدي، والتعددية، والاحترام المتبادل، وتقبل الآخر والقبول به منذ الطفولة الأولى، وللإعلام دور محوري في تقديم صورة عادلة ومتوازنة عن جميع فئات المجتمع، بعيداً عن التحيزات والأحكام المسبقة".
يذكر أن الحرب أثّرت بشكل كبير على شخصية السوري بسبب تداعياتها العسكرية والاقتصادية، لكن الأساس في إعادة بناء الشخصية السورية يقوم على إعادة إنتاج المجتمع وتخليصه من كل السلبيات التي ورثها على مدار عقود، حتى تحولت إلى مثل شعبي أو طرفة يتم تداولها بقصد المزاح، وما بين هذا وذاك، تترسّخ انقسامات تظهر عند الانفجار، أو تساهم في الوصول إليه دون قصد، ولا سبيل إلى الخلاص إلا بتشكيل هوية وطنية جامعة مانعة قائمة على الحوار والتسامح.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Toge Mahran -
منذ 3 أياماكتر مقال حبيته وأثر فيا جدا♥️
Tayma Shrit -
منذ 3 أيامكوميديا سوداء تليق بمكانة ذاك المجرم، شكرا على هذا الخيال!
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ 4 أيامالمقال بيلقى الضوء على ظاهرة موجوده فعلا فى مصر ولكن اختلط الامر عليك فى تعريف الفرق بين...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياماحمد الفخرناني من الناس المحترمة و اللي بتفهم و للاسف عرفته متاخر بسبب تضييق الدولة علي اي حد بيفهم
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ 6 أياممقال رائع..
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعالحبة الحمراء أيديولوجية يقتنع بها بعض من النساء والرجال على حد السواء، وبرافو على هذا الشرح الجميل