شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"لماذا اسمها فاطمة؟"... شهرزاد جديدة تبدّد رتابة الكتابة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحريات العامة

الخميس 6 فبراير 202510:14 ص

 بضعة نصوص، في المجموعة القصصية "لماذا اسمها فاطمة؟"، تعيد الأمل في استعادة القصة القصيرة العربية حيويتها. بهذه القصص، تتجدد أسئلة نقدية تثيرها هذه النصوص، وأسئلة أخرى خارج القصص لم تقصدها الكاتبة الجزائرية راضية تومي، إذ عنيت بإجادة كتابة قصص قصيرة تحتفظ بطزاجتها، وتؤكد جدارة حفيدات شهرزاد بابتكار صيغ جديدة، ليس بهدف إنقاذ الرأس من السيف، وإنما ضخّ دماء جديدة لتبديد رتابة الكتابة. القصص السريالية تربك جهاز الاستقبال الشهرياري، فيعيد الإنصات، حتى يؤمن بالتكافؤ، ثم يعي سطوة الخيال.

 سبق أن أسعدتني تجربة التحكيم في مسابقة يوسف إدريس للقصة القصيرة عام 2020، بقراءة مجموعات لكل من شيرين فتحي وسارة شحاتة وأميمة صبحي وأماني خليل. قلت في مقال "حروب الذائقة وصراع الأجيال... وصف الفيل في العمى الافتراضي"، في رصيف22 في 18 كانون الثاني/يناير 2022، إن إبداعهن القصصي ينأى عن الهوس بكتابة الرواية، بخلاف كثيرين يريدون نيل لقب"روائي".

لا تخطئ العين إغراق سوق النشر بمجلدات تحمل تصنيف "رواية". وإذا استعرنا لغة الدكتور شكري عياد، فهذا "طفح ثقافي" يدلّ على انسداد آفاق إبداع الحياة نفسها أمام الكثيرين. في شهادة شاركتُ بها في ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي، 2003، قلت إن الغزارة الروائية تحتاج إلى "تحليل نفسي لا نقدي، والفرز الحقيقي لا يبدأ بالنقد، وإنما بحلّ أزمة البطالة، وفتح طاقات جديدة من الخيال اليومي المعيش، وإعادة الثقة للناس بإمكانية التحقق، في أي مجال تحكمه الشفافية والكفاءة والحريات العامة... كما تشير أصابع الاتهام بإدانة واقع السياسي، يدفع بطوابير العاطلين، وغيرهم ممن أُجْبِروا على الخروج إلى المعاش المبكر، إلى وهم التحقق، فيَسُدّون ـ بالإلحاح على نشر كل هذا الركام، والمِنَح الثقافية الأشبه بإعانات البطالة ـ المنافذ الطبيعية أمام الموهوبين".

 بضعة نصوص، في المجموعة القصصية "لماذا اسمها فاطمة؟"، تعيد الأمل في استعادة القصة القصيرة العربية حيويتها. بهذه القصص، تتجدد أسئلة نقدية تثيرها هذه النصوص، وأسئلة أخرى خارج القصص لم تقصدها الكاتبة الجزائرية راضية تومي

 نشرت الشهادة في كتاب أبحاث الملتقى، وفي صحيفتي "القدس العربي" اللندنية و"الدستور" الأردنية في تشرين الأول/أكتوبر 2003، ثم مجلة "أدب ونقد" المصرية في شباط/فبراير 2004. أنظر إلى الوراء وأتساءل: هل كتبتُ هذا عام 2003؟ ما أسرع الوقت. هرمتُ حقاً. ومن علامات كبر السن ترْكُ الملك للمالك، وعدم التعليق على الكثير من "الروايات". ثم جاءت راضية تومي، بمجموعتها الصادرة عن دار "صفصافة" بالقاهرة، 2025، لتنضم إلى مبدعات القصة، هذا الفنّ العصيّ الأشبه بفوز ملاكم بالضربة القاضية. أما الرواية، ما يسميه البعض رواية وفقاً للتصنيف الشكلي، فهو أحياناً فوز رتيب بالنقاط من حصيلة مجموع الجولات.

 يجد فن القصة في العالم العربي حياة بإبداعات الكبار: محمد خضير وأحمد الخميسي وإبراهيم صموئيل ونبيل نعوم وإنعام كجه جي وعاطف سليمان ويوسف فاخوري. ومن الأجيال التالية في مصر محمد عبد النبي ومنال السيد وحسن عبد الموجود وثناء حسن ونجلاء علام. ومن سلطنة عمان جوخة الحارثي وعبد العزيز الفارسي وبشاير حبراس. كما ينشط محمد اشويكة في تقديم وجوه من الكتاب المغاربة. لا تحضرني الآن أسماء مبدعين آخرين، أوفياء لفن رهيف يتوسل بالجمل القصيرة ليغزل المَشاهد على مهل، وفي إيجاز يراكم المعنى ويصنعه بإشارات تلمّح ولا تفصح. القراء الذين لا يتسامحون مع قصة متواضعة المستوى يمكن خداعهم برواية ضعيفة يخرجون منها بمشهد واحد؛ فيتسامحون.

راضية تومي، في قصص "لماذا اسمها فاطمة؟" لا يسعها العالم. لا تطمئن إلى هذا العالم وقوانينه القاهرة، تسائله وترسم عوالم أخرى باتساع الخيال. في قصة "غرفة التجاعيد" قانون يقضي بوصول علبة تجاعيد سنوياً إلى كل الذين يبلغون سن الخامسة والعشرين. تصل العلب إلى البيوت، ويتسلمونها بإذعان، ويضعون الخطوط على الوجوه. إنه سيف الزمن، "ولن يمنى الإنسان بعدو أشد فتكاً من الزمن" كما قال نجيب محفوظ، وهو يتأمل مصير أحمد عبد الجواد في الثلاثية. وهنا تتلقى بطلة القصة الدفعة الأولى من التجاعيد، "ولم يكن مسموحا لأحد بخرق هذا الناموس"، القانون جائر الذي لا تتحداه، وإنما تقرر أن تتفاداه، للهروب من كابوس الخطوط المضافة إلى وجهها، فتضع علبة التجاعيد في غرفة وتغلقها بإحكام. ويتوالى وضع العلب سنوياً، مع إحكام إغلاق الباب.

 أخفت البطلة علب التجاعيد؛ فتجمّد الزمن عند سن الخامسة والعشرين. مضت العقود، واستمرت فتنة الناس بوجه لا تمسّه تجاعيد. معجزة أثارت انتباه النساء، وجذبت وسائل الإعلام التي تساءلت عن أسرار الاحتفاظ بالشباب، وهي تكذب وتدّعي أن السرّ هو شرب كميات من المياه وممارسة الرياضة واتباع نظام غذائي صحي. وصارت المرأة المتمتعة بالشباب الدائم خبيرة ومحاضرة في هذا الشأن، يزداد كثرة معجبيها مع زيادة علب تتسلمها، وتغلق عليها باب الغرفة بإحكام، حتى بلغت التسعين، "وكانت الغرفة الشاهدة على كذبتها قد امتلأت عن آخرها". وتسلمت علبة كبيرة، وفتحت باب "غرفة التجاعيد" فتدافعت العلب، وقذفت أغطيتها، واندفعت التجاعيد والتشققات، "وأخذت تدور حول المرأة بسرعة جنونية"، فاستسلمت وقعدت، والتجاعيد تطاردها وتتحول إلى حبال تواصل الالتفاف حولها، توثّق جسدها، حتى أخفت عينيها.

 في القصة يتجلى الصراع بين قوة القانون الطبيعي وإرادة العصيان. الجميع يستسلمون لقدر يوقنون بطغيانه، وعدم القدرة على صدّه. مهزومون من البداية، لم يفكروا في الهروب ولو فشلت المحاولة، لو حاولوا لنجوا من الوقوع تحت سيف الزمن كما فعلت امرأة نالت عمراً طويلاً من الاستمتاع بالشباب، حتى بلوغها التسعين. الآخرون ماتوا قبل بلوغ هذه السن، ماتوا مبكراً في سن الخامسة والعشرين، وهم يتسلّمون أقداراً داخل علب فيها أنصبة من التجاعيد. هكذا فازت المرأة مرتين، بالثورة على القانون، وبصحبة شباب ضاعف عمرها الذي صار أعماراً بالسن وبالشباب معاً. فماذا يضرّ لو دهمتها علب التجاعيد في الجولة الأخيرة؟

هذه قصةٌ في مديح التمرد. ويخبرنا تراث التراجيديا بمصائر المتمردين الأفراد، ما لم ينجحوا في تحويل التمرد الفردي إلى ثورة شعبية. هنا كان الصراع بين قوتين غير متكافئتين، والمرأة انتزعت شباباً أطال عمرها. وقد تمنيت لو أن الكاتبة منحت البطلة، في المواجهة الأخيرة، شيئاً من الأمل، بأن تحاول الفرار، أو تمزيق خطوط التجاعيد، بدلا من الاستسلام. لكننا نناقش ما سجلته القصة. ليس لأحد حق إملاء، أو اقتراح، على المبدع إلا ما استقر عليه.

في هذه المجموعة، التي تبلغ ثمانين صفحة، عوالم مدهشة ومتنوعة، بعضها دالٌّ على أننا أمام كاتبة لها قضية، مهمومة بتناقضات وأوجاع إنسانية في الداخل الجزائري وخارجه، كما في قصص "أنا النازح (ة)... أنا النازف (ة)"، و"تصدّع" و"النفق"، و"اكتئاب" و"حِراك العيون الساهرة" عن رفض الشعب "لِعُهدة خامسة"، ويفهم القراء العرب أن المقصود هو ترشّح الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة. لكن الإبداع عابر لزمانه ومكانه، أسمى من مخاطبة قراء عن مشكلة آنية يتجاوزها الزمن. القصة أطول عمراً من بوتفليقة وغيره. وكلما ابتعدت الكاتبة عن الواقع بحمولاته وأعبائه، كانت المغامرات السريالية أصدق، وأكثر إخلاصاً لروح الفن، محمولا على جناحي المتعة والقلق الذهني الداعي إلى التفكير.

في هذه المجموعة، التي تبلغ ثمانين صفحة، عوالم مدهشة ومتنوعة، بعضها دالٌّ على أننا أمام كاتبة لها قضية، مهمومة بتناقضات وأوجاع إنسانية في الداخل الجزائري وخارجه

ففي قصة "قطيع الظلال" يقوم البطل بمحاولة غير ناجحة، غير مكتملة، للتمرد على حقيقة تحوّل الناس إلى ظلال. من الذي سحر الأجداد فجعلهم ظلالاً زاحفة؟ ليس لقطعان الظلال قامات منتصبة، وبمضيّ الوقت فقدوا الحماسة والإرادة، وتأكد لهم أن الأسلاف لم تكن لهم أجساد. القهر النفسي دعا اليائسين إلى الاستسلام التام. سرد ناعم في ذم القناعة والتخاذل، وإذعان الناس إلى سلطة أجادت إطفاء الأشواق، ومسخت الأرواح.

وفي قصة "السقوط" يلاحظ بطل القصة هبوطاً بشرياً من السماء. نساء، ورجال أنيقون يحملون حقائب، وأطفال يحملون لعبهم. يندهش الراوي لأنهم لا يشعرون به حين يصدمون جسده. يمضون ويختفون. لا يعرف من يكونون، ولا من أين جاءوا. بشر يشبهون ندف الثلج، يخافهم ولا يستطيع الصراخ، ثم يشعر بأنه ندفة ثلج، ويستسلم لهذه القوة الغامضة، وينضم إلى قطيع الساقطين.

 قصص تقول إن الإنسان، بجبروته، شيء ضئيل في كون لا نهائي. هناك قوى خفية طاغية، يصعب على الإنسان فهمها. ولهذا السبب لا يفكر أبطال قصتَي "السقوط" و"قطيع الظلال" في تمرد نجحت فيه بطلة "غرفة التجاعيد"، فاكتسبت حياة طويلة بشبابها الدائم.

في قصص المجموعة كلها دليل على ما يسميه النقاد "الراوي العليم". لست ناقداً، ولهذا أستخدم اصطلاح "استبداد المؤلف". من آثار هذا الاستبداد ندرة الحوار أو غيابه؛ فالراوي كليّ المعرفة، يحجب صوت أبطال القصص. هذا الصوت تجسده جملة حوارية توضح تفاوت الوعي، واختلاف منسوب الثقافة بمعنييها الاجتماعي والنخبوي. استبداد الرواة أخفى أسماء أبطال القصص كلها تقريباً. لا أعرف، مثلاً، من يكون أبطال قصص "السقوط" و"قطيع الظلال" و"غرفة التجاعيد". لا إشارة إلى علاقات اجتماعية، أو مواقف تجعلهم بشراً من لحم ودم، بدلاً من أن يكونوا أفكاراً ترتدي ثياب الحكاية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

شكل حياتنا اليومية سيتغيّر، وتفاصيل ما نعيشه كل يوم ستختلف، لو كنّا لا نساوم على قضايا الحريات. "ثقافة المساومة" هذه هي ما يساعد الحكام على حرماننا من حريات وحقوق كثيرة، ولذلك نرفضها، ونكرّس يومياً جهوداً للتعبير عن رفضنا لها، والدعوة إلى التكاتف لانتزاع ما لنا من قبضة المتسلّطين. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image