يقف الباحث في السرديات العربية المعاصرة أمام واقع اختفاء قاموس المفردات الاشتراكية من اللسان العربي.
لا شك أن أزمات اليسار العالمية وتراجعه لها دور في هذا التواري، ولكن يصعب تصديق التنكر لعقود من التخندق إلى جانب الحليف السوفياتي بهذه البساطة. يبدو المثقف العربي في قطيعة مع الأيديولوجيا منذ سقوط جدار برلين، على الأقل نظرياً، ربما لأنه لم تتمكن أيديولوجيا جديدة من احتوائه أو ربما انتهى زمن الأيديولوجيات، اللهم إلا أفكار متسقة فيما بينها، موجهة للاستهلاك السريع، لا هي قادرة على الصمود. علب أفكار موجهة لجمهور معين بسعر معين ولها مدة صلاحية تنتهي بانتهاء الحاجة إليها.
الجزء الأكبر من ترسانة الأقلام الجزائرية في جزائر الاستقلال قد أنجزت نصوصها بما يرضي "الأخ الأكبر".
يصطدم المتابع للشأن الجزائري بندرة المراجع المكرّسة للحدث الأهم في تاريخ الجزائر المستقلة، عدا محاولات تسجيل قليلة، ورغم حضور أكتوبر/ تشرين الثاني 1988 في السردية الجزائرية اليومية باعتباره نقطة تحول جوهرية في تاريخ البلاد وهويتها إلا أنه يغيب في لعبة التأريخ، ولا مجال لمقارنته بثورة التحرير مثلاً، ولا حتى في لعبة التخييل، خصوصاً أن الجزء الأكبر من ترسانة الأقلام الجزائرية في جزائر الاستقلال قد أنجزت نصوصها بما يرضي "الأخ الأكبر" بالمعنى الأورويلي.
صدرت عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان في بيروت رواية "نهاية الصحراء" للروائي الجزائري سعيد خطيبي، ما يميز العمل الذي اختير في قائمة "جائزة الشيخ زايد" الطويلة هو أنه يحكي الشهر الأخير في حياة خيار أيديولوجي رسمي لم يعرف الجزائريون غيره منذ الاستقلال.
الرواية السوداء، تنقب في مقتل مغنية، تحاول توليفة من الشخصيات حل لغز مقتلها، كما يحاولون فهم تاريخهم الشّخصي المغيّب.
نهاية التاريخ
عن سؤال حول سبب اختياره لنهاية التاريخ كمادة لعمله، يجيب الروائي الشاب: " ولم لا نكتب عن تلك الحقبة؟ عقب الاستقلال تحوّلت الجزائر إلى ما يُشبه مختبراً، لا أحد كان يعرف ماذا يجري وإلى أين ستؤول الأمور. نسمع مرّة أنّهم اختاروا الاشتراكية نهجاً، ثم يصححون المصطلح ويقولون إنّها اشتراكية تحفظ العقيدة، في مرحلة أخرى نسمع من يتحدّث عن اشتراكية علمية، وهكذا كلّ بضع سنين تتغيّر المصطلحات، دون أن يتغيّر شيء في حياة النّاس، ودون أن نشركهم في الرّأي. لذلك فأنا كتبت عن أولئك الذي قبعوا في الهامش، تحمّلوا وزر التّاريخ من دون أن يتاح لهم الحقّ في إبداء رأيهم عما يجري".
كما يضيف: "برأيي أن عشرية الثّمانينيات هي المنعرج في تاريخ الجزائر المعاصر. نهاية الاشتراكية وصعود العنف، بداية الطّبقية الاجتماعية المتوحّشة، ونشأة التّطرف، كلّها ظواهر انطلقت من تلك المرحلة، وما حصل بعدها أو ما يحصل اليوم ليس سوى تحصيل حاصل عما جرى قبل أكثر من ثلاثين سنة من الآن. قبل الكتابة تردّد في ذهني سؤال: كيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم؟ كتبت هذه الرّواية في محاولة الإجابة عن ذلك السّؤال، ولست أدّعي أنني أجبتُ، بل حاولتُ الإجابة بما أستطيع. فأنا أشاطر شخصيات "نهاية الصحراء"، في عدم وجود يقين، بل الشكّ فقط".
أما عن رأيه في أدب المرحلة تلك فيرد خطيبي: "لا بدّ من الإشارة إلى أن أشهر شخصية في الآداب والفنون، في حقبة الاشتراكية، هو: الرّقيب. الرّقابة من خصائص تلك المرحلة. كان شخصية جدّ حاضرة لكن لا أحد يعرف اسمها أو نسبها. الاشتراكية في جوهرها تقوم على فكرة الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج والتّسيير الجماعي، كذلك كان الأدب. أي صار مجالاً جماعياً، وعلى الكاتب أن يتخلّص من ذاتيته، من همّه الشّخصي، ويتلبّس هموم الآخرين، أن يحرص على إرضاء الجميع، مما أوجد أدباً متشابهًا فيما بينه، مع بعض الاستثناءات. أدب يحاول إرضاء الجميع مما أفقده خصوصيّته".
خاصرة رخوة
كتبت رواية "نهاية الصحراء" بشكل مسرحي، تتداول أصوات كثيرة على سرد وجهة نظرها في مقتل "زهية زغواني"، محامون، ومحققون، كبار تجار وباعة متجولون، ومن بين الشخصيات الكثيرة التي تؤثث "نهاية الصحراء" شخصية "إبراهيم دراس" مثقف الرواية الذي يبدو بطلا بلا بطولة، الأمر الذي يبرره "سعيد خطيبي" ب: "تاريخياً، كان المثقّف خاصرة رخوة في الجزائر. الأمر ليس جديداً. إذا عدنا إلى تاريخ حرب التّحرير، فإن من اللحظات الحاسمة التي عرفتها هي إضراب الطّلبة في 19 مايو 1956. أولئك الطّلبة الجامعيين صاروا نخبة، في وقت لاحق، لكن مع الاستقلال لم يجدوا موطئ قدم لهم. جرى استبعادهم. حقبة السّتينيات شهدت أكبر موجة من نفي أو إسكات المثقّفين. بحكم أن الرّواية تدور وقائعها في ثمانينيات القرن الماضي، فهي حقبة شهدت شيطنة للمثقّف، نُعت فيها بأسوأ النّعوت. وُصف زوراً بالتّخاذل وبعدم الإصغاء إلى ما يدور من حوله. ساد حينها مثل شعبي تداولته الألسنة يقول: «أعطيني شاطر والله لا قرا»، بمعنى أن تكون شاطراً في البيع والشّراء أفضل لك من القراءة (التي تعني التّعلّم في لغة العامّة). مع الوقت واصل المثقّف سقوطه، إلى أن تدنى إلى مرتبة لا يحسده عليها أحد. لا يظهر سوى في المناسبات، ولا يمكن أن نحمّل جهة بعينها المسؤولية وحدها، من دون مساءلة المثقّف نفسه، الذي رضي بمكانة في الظلّ لا في الشّمس".
انتهى زمن الأيديولوجيات، وباتت الأفكار معلبة، وموجهة للاستهلاك السريع، ولها مدة صلاحية بانتهاء الحاجة إليها... حوار مع الروائي الجزائري سعيد خطيبي عن تحولات الثقافة والمثقف في الجزائر
رغم حالة النشاط الفني التي عرفتها حقبة الثمانينات والتي سيحيل إليها "خطيبي" في عمله من خلال حضور الشعر والرواية والسينما والكثير من الموسيقى، مؤكداً: "هذا أمر طبيعي، فنحن نتحدّث عن حقبة الثّمانينيات، في حقبة كانت فيها أشهر فرق الرّوك والبوب الغربية تحجّ إلى قاعات العروض في العاصمة، وهران، قسنطينة، عنابة وغيرها. في وقت كان فيه الاستثمار الأمثل هو إنشاء شركات تسجيلات صوتية. في وقت كانت فيها محلات الأشرطة في كلّ ركن، بل نعثر عليها في قرى نائية. في زمن كان فيه من يفوز بمسابقة «ألحان وشباب» يصير نجماً لا يقلّ شعبية عن لاعبي الكرة. حين نتحدّث عن ذلك الجوّ الثّقافي الذي ساد في البلاد، يخيّل للبعض أننا نتحدّث عن أزمنة غابرة. يصعب أن نصدق أننا، في بضع سنين، انقلبنا إلى النّقيض".
قتيلة في أرض الحب المؤجّل
ينتبه المطالع ل"نهاية الصحراء" لغياب صوت البطلة (التي تنطلق الرواية من مشهدها موتها) رغم كثرة الأصوات وهو الأمر الذي يبرره "سعيد خطيبي" بـ: "في الغالب، نحن لا ندرك أهمية شخص سوى لحظة غيّابه. على رأي مالك الحداد فإن الأحزان تجمع الجزائريين أكثر مما تجمعهم الأفراح. موتها المباغت كان سبباً في عودتها. في ترسيخ صورتها في أذهان من عرفوها. لكن حضورها لم يكن جسدياً، بل رمزياً. هو حضور الموسيقى، الفنّ، بقعة الجمال الصّغيرة التي لم ننتبه إليها سوى عندما انطفأت. حين تحتدم الصّراعات، في مجتمع بشري، فإن الضّحية الأولى، في الغالب، إما مثقّف أو فنّان. دفعت زكية زغواني ثمن الصّراعات التي حامت من حولها، لكنها كانت سبباً في كشف المستور الذي لا تراه العين".
سيتوقف القارئ عند تعرض كل الشخصيات النسائية للعنف في فلك "نهاية الصحراء" ما سيجيب عنه الكاتب بـ: "رأيي أن المرأة هي ترمومتر الحياة الجزائرية. كلّما كانت في أحسن حالاتها انعكس ذلك إيجابياً على حال البلد، والعكس صحيح. لكن بدءاً من الثّمانينيات وقعت انتكاسة. صارت المرأة شمّاعة يعلّق عليها الآخرون فشلهم. ينتظرون منها الطّاعة ولا حقّ لها في إبداء الرّأي أو الخروج عن التّقاليد المتوارثة. انتشر خطاب متطرّف. حقبة الثّمانينيات كرّست تلك الهجمة الاجتماعية على المرأة، بسجن جسدها، أو إرهاقها بالأمثال الشّعبية التي تُحاكم تصرفاتها. في نظر البعض لا حقّ لها في الخروج من الحدود الضّيقة التي رسموها لها في عقولهم. وجدت المرأة نفسها معزولة، على الرّغم من محاولات المقاومة التي لم يكتب لها الاستمرار. تراكمت الظّروف، وحاول البعض حصر وظيفتها في نطاق بيولوجي لا أكثر. نسينا أن النّساء كنّ عنصراً محورياً في حرب التّحرير. مع ذلك لا تزال مقاومتهن مشتعلة، لكنها تواجه طوفاناً من الذّكورية المعتدّة بنفسها".
إضافة إلى ذلك، قصص الحبّ في سماء الرواية تنتهي بخواتم تراجيدية، وهو الأمر الذي يبرره الروائي، قائلاً: " الجميع يسعى إلى الحبّ، هذا الشّعور الأسمى، بوصفه اكتمال العقل ومفتاح الانتساب إلى معشر الخالدين. لكن الحبّ ليس هبة ربانية، بل له شروط. والشّرط الأهمّ أن يكون المحبّ من تنشئة اجتماعية سوية. فمن خرج من بيئة ساد فيها التّعنيف والتّزييف وقلة الثّقة في الآخرين، يوهم نفسه بالحبّ، بينما في الحقيقة هو يبحث عن ضحية، تحت ذريعة الحبّ، يسلط عليها كبته. غالبية شخصيات الرّواية خرجت من أوساط اجتماعية مهمّشة، من فقر ومصائب عائلية، لم تداو نفسها ولم تتجاوز علاّتها، بل أصرت عليها، مما حتم عليها فشلاً في علاقاتها العاشقة".
لماذا تفتتح بعض الروايات أحداثها بقتل أو انتحار؟ سعيد الخطيبي يقول عن روايته: "من خرج من بيئة ساد فيها التّعنيف والتّزييف وقلة الثّقة في الآخرين، يوهم نفسه بالحبّ، بينما في الحقيقة هو يبحث عن ضحية، تحت ذريعة الحبّ، يسلط عليها كبته"
في التاريخ بنيت "نهاية الصحراء" انطلاقا من رواية "الشيخ"، التي صدرت مطلع القرن العشرين، كتبتها مستشرقة بريطانية، إديث مود هل، وليست بمحاولة استنطاق إرث المستشرقين الأولى للكاتب الشاب الذي يدافع عن خياره هذا، قائلاً: "منذ سنين وأنا منشغل بإرث المستشرقين في الجزائر. إديث مود هول خلّفت أعمالا مهمّة: روايتان عن الجزائر مع كتاب رحلات في الصّحراء. روايتها الأشهر «الشّيخ» تدور في المكان نفسه الذي تدور فيه وقائع «نهاية الصّحراء»، لقد نقلت تلك الكاتبة صورة قاتمة عن الجزائري، أو العربي كما أسمته، بوصفه قاطع طرقات أو خادم للأجنبي. تلك الرّواية تحوّلت فيلماً في هوليوود، من بطولة ألمع ممثل في بدايات القرن الماضي: رودولف فالنتينو، لكن الرّواية مثل الفيلم حملا نظرة قاسية عن الجزائريين، فوددت تصحيح النّظر، وتفادي التّعميم الذي وقعت فيه إديث مود، على الرّغم من أهمية كتاباتها التي لا تزال من المراجع الأساسية في التأريخ لمدن الصّحراء الجزائرية مطلع القرن العشرين".
الأخطاء الكبرى من شأنها أن تصنع ثورات كبرى.
استلهام الزمن بتجاربه لم يتوقف عند إرث المستشرقة البريطانية، بل سيلاحظ القارئ حركة ذهاب وعودة في الرواية بين ما حدث زمن الاستقلال وما عاشته الجزائر سنة 1988 وهو ما يقول عنه "خطيبي": " في هذه الرّواية، وددت أن أكتب عن حرب التّحرير من وجهة نظر أكثر إنسانية. بعيداً عن المغالاة أو المدح أو تأنيب الذّات. فالإنسان ليس منزهاً من الأخطاء. برأيي أن الأخطاء الكبرى من شأنها أن تصنع ثورات كبرى وليس تلبّس الطّهرانية كما لو أننا ملائكة منزّلون من السّماء. لا أظنّ أننا سنشفى من تبعات حرب التّحرير، على الأقل في المدى القصير، بحكم أن جزءً من تاريخنا الحاضر، ومن المزالق التي نقابلها كلّها خرجت من رحم تلك الحرب ومن تبعاتها المباشرة".
يعد سعيد الخطيبي من الروائيين البارزين في الجزائر، صُدرت له رواية “كتب الخطايا”، و “أربعون عاماً في انتظار إيزابيل”، حازت على جائزة “كتارا” للرواية عام، 2017، و”حطب ساراييفو”، دخلت القائمة القصيرة لجائزة البوكر النسخة العربية عام 2020، وتأهلت "نهاية الصحراء" للقائمة الطويلة في جائزة الشيخ زايد نهايات عام 2022.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...