شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"الحرية الحمراء"… ابنة أحمد شوقي التي ألهمت السنوار وغيّرت شعرَ النضال

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع نحن والحقيقة

الأربعاء 29 يناير 202512:06 م

في منتصف 1925 اشتعلت الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي. نبأٌ جليل أثار حفيظة الشاعر المصري الفذ أحمد شوقي، فكتب عنه مشجعاً: "قُم ناجِ جلَّقَ وَانشُد رَسمَ مَن بانوا/مَشَت عَلى الرَّسمِ أَحداثٌ وَأَزمانُ".

بعدها تابع شوقي بشغف تطورَ الثورة السورية وامتدادها في مدن شامية كثيرة ضد الفرنسيين؛ الأمر الذي دفعهم لضرب دمشق بالمدافع في تشرين الأول/أكتوبر 1925 لمنع الثوار من الاستيلاء عليها. بفعل ذلك القصف تهدّمت كثير من البيوت، بما فيها قصر العظم، مقرّ الحُكم آنذاك، وسقط المئات من الضحايا، أغلبهم من الدمشقيين.

أثارت هذه الوقائع موجة تعاطف كبيرة في مصر، فتعددت جهود إغاثة المنكوبين، منها احتفال أقيم في مسرح حديقة الأزبكية بالقاهرة في كانون الثاني/يناير 1926.

خلال هذا الاحتفال قرض شوقي قصيدته "نكبة دمشق"، والتي كانت حادة الخطاب قويةَ العبارات وكأنها قرعٌ لطبول الحرب، عبّر فيه بأصدق العبارات عن تعاطفه مع المسألة الشامية قائلاً: "سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ/وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ". بعدها قرض بيته الشهير الذي فاق القصيدة ذاتها سُمعةً، وقال فيه: "وللحرية الحمراء بابٌ/بكلّ يدٍ مضرّجة يدقُّ".

 بات مصطلح "الحرية الحمراء" على كل لسان في وقتٍ كانت المنطقة العربية تغلي من فرط نقمتها على الاستعمار الغربي. فلم يجد أبناء المشرق إلا وصفةَ شوقي طريقةً لهم لنيلِ الاستقلال

بشكلٍ سريع ذاع صيت ذلك البيت الشعري وبات مصطلح "الحرية الحمراء" على كل لسان في وقتٍ كانت المنطقة العربية تغلي من فرط نقمتها على الاستعمار الغربي. فلم يجد أبناء المشرق إلا وصفة شوقي طريقةً لهم لنيل الاستقلال: بالدماء التي لن تجلب لهم إلا حريةً مصبوغة باللون الأحمر.

وبحسب ما ذكره عادل جاسم في كتابه "التجديد في لغة الشعراء الإحيائيين"، فإن شوقي في شعره، سبق كثيرين إلى ابتكارات لغوية، أشهرها عبارة "الحرية الحمراء"، التي صارت مثلاً يجري على ألسنة الناس، وشعاراً يلهب حماس الجمهور في ساحات النضال والمجد وتقرير المصير.

مطاردة اللون الأحمر

بحسب كتاب "اللغة واللون" لدكتور أحمد مختار عُمر، فإن اللون الأحمر كثيراً ما ارتبط في اللغة العربية بالمشقة والشدة، وهو ما ظهر في عددٍ من التعبيرات القديمة التي عبّرت عن ذلك، مثل "أحمرّ البائس" للتعبير عن اشتداد القتال في المعركة، أو "حمراء الظهيرة" كناية عن شدّ الحر، أو "حمراء الشِّدقين" للتعبير عن المرأة التي سقطت أسنانها من الكِبر فلم يبق إلا حمرة لثاتها، أو "العين الحمراء" التي لا تزال تستخدم كمرادف للتهديد والوعيد حتى يومنا هذا.

عقب قصيدة شوقي أضيفت لهذه العبارات مصطلح "الحرية الحمراء" التي كان الشاعر المصري أكثر من موفق في ابتكاره ليُسجّل بِاسمه في التاريخ العربي كمرادف للتعبير عن النية لتوق الحرية ولو تطلب الثمن دفعَ الكثير من الدماء.

لم يستخدم شوقي مصطلح "الحرية الحمراء" في قصيدة النكبة السورية فقط، وإنما كرّر ذلك بعدها مرتين؛ فحسبما ورد في كتاب "ديوان شوقي" لأحمد الحوفي، ألقى شوقي قصيدة طويلة في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1927 في ذكرى الاحتفال بثورة 1919 منحها عنوان "الحرية الحمراء" جاء فيها: "لا بد للحرية الحمراء من/ سلوى ترقّد جرحَها كالبَلسَمِ".

لم يستخدم شوقي مصطلح "الحرية الحمراء" في قصيدة النكبة السورية فقط، وإنما كرّر ذلك بعدها مرتين؛ في ذكرى الاحتفال بثورة 1919، وحينما بلغه نبأ وفاة المناضل الليبي عُمر المختار.

بعدها استخدمه شوقي في شعره مجدداً حينما بلغه نبأ وفاة المناضل الليبي عُمر المختار بعد إعدام الإيطاليين له شنقاً في أيلول/سبتمبر 1931، فكتب قصيدةً، تأبيناً لذكراه، جاء فيها: "جرحٌ يصيح على المدى/وضحية تلتمس الحرية الحمراء".

بعيداً عن شوقي شاع استخدام مصطلح "الحرية الحمراء" على ألسنة الكتّاب؛ في آب/أغسطس 1945، نشر أحمد حسين مؤسس حزب مصر الفتاة مقالاً نارياً في جريدة حزبه عن كيفية نيل بلاده استقلالها كتب فيه: "الاستجداء من الإنجليز لا يُجدي؛ إنما يُؤخذ الاستقلال ولا يُعطى، وتُنتزع الحرية الحمراء انتزاعاً عندما يتهيأ الحرّ لدفع الثمن".

وكان لافتاً أن الصحافي اللبناني حبيب جاماتي حينما أراد الاحتفاء بذكرى الثورة السورية الكبرى 1925 في مقالٍ كتبه عام 1946 لم يجد له عنواناً أفضل من "الحرية الحمراء"، بل إنه في 1954 أصدر جاماني كتاباً كاملاً حمل نفس الاسم قدّم فيه "أقاصيص مستوحاة من وثبات الشعوب والأفراد وجهادهم في سبيل العزة القومية والاستقلال والسيادة"، حسبما أعلنت عنه مجلة "الكواكب" حينها.

خلال مقدمة الكتاب ربط المؤلّف بين عمله وبين قصيدة شوقي قائلاً: "إن أنشودة شوقي في الحرية لا تزال ترنُّ في الآذان. رحم الله السلف الذي بدأ الجهاد وأخذ بيد الخلف الذي يواصله". وفي رواية للشاعر المصري سمير عبدالباقي بعنوان "زمن الزنازين" حكى عن سجين تسرّبت له نسخة من هذا الكتاب فـ"انقلب حال الزنزانة وانقلب حالي".

رغم شيوع المصطلح في الكُتب، فإنه بقي "شوقياً" بامتياز؛ فحين قرض إبراهيم ناجي أبياتاً يخاطب فيها مصر قائلاً: "ما حلّ بالحرية الحمراء؟ هل سال الدّم القاني على قدميكِ؟"، علّق على ذلك دكتور محمد الخطراوي في كتابه "متابعات ومبادآت" بأنها دليل على تأثره بشعر معاصريه لأن "الحرية الحمراء هي بنت شوقي"، بل إنه في مقالٍ لطه وادي، الأستاذ بآداب القاهرة، وصف شوقي بأنه "شاعر الحرية الحمراء والعدالة السياسية".

ولم يقتصر تأثير حرية شوقي الحمراء على المصريين فقط، بل امتد كذلك إلى خارجها، فكتب الشاعر الأردني رفعت الصليبي: "لا تمهر الحرية الحمراء بالثمن اليسير/كلا ولا تُعطى جزافاً/دون قاصمةِ الظهور".

بعدها تكرر استعمال عبارة شوقي مرادفاً للأحداث الكبرى في مصر وبقية العالم العربي؛ فحينما أراد الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم رثاء ثورة تشرين الأول/أكتوبر 1964 كتب عنها: "بشموخ وثبتها إلى الحرية الحمراء تقطر بالنجيع/وتدفقوا متظاهرين محطّمين العار والذلّ الطويل".

ولم يكن المكي، الشاعرَ السوداني الوحيدَ، الذي استخدم "ابنة شوقي" في أبياته، وإنما لحق به محمد عبد الباري في ديوانه "مرثية النار الأولى" الذي ألّف فيه قصيدة "توقيعات على جدار الثورة"، جاء فيها:

"لجلالة الحرية الحمراء

قرّبنا الضحايا

منها أضأنا كالنّدى

وبها أنقذنا كالشظايا

فيها عرفنا الله

فانكسرت مخاوفنا العرايا".

ارتبطت القضية الفلسطينية بمصطلح "الحرية الحمراء"؛ في 1937 شكّل السياسي الأردني شفيق أرشيدات، جمعية "الحرية الحمراء"، لدعم الفلسطينيين في نضالهم ضد محاولات بعض اليهود المبكرة لطمس وجودهم في بلادهم

في 1985 أصدرت وزارة الإعلام المصرية كتيباً في ذكرى نصر تشرين الأول/أكتوبر جاء في مقدمته استشهاداً بقصيدة أحمد شوقي، ثم أضاف بعدها "بين الموت والحياة، ومن أجل الحرية الحمراء تقدمت القوات المسلحة المصرية فور تلقي الإشارة التي طال انتظارها لبدء عمليات حربية هائلة".

وفي 1993 ألّف الشاعر العراقي أنور غني الموسوي، دراما مسرحية عن واقعة كربلاء بعنوان "الحرية الحمراء"، كما أنه سبق وأن وصف الحسين في إحدى قصائده بأنه "سيد الحرية الحمراء".

فلسطين... حادي الحرية الحمراء

سريعاً ارتبطت القضية الفلسطينية بمصطلح "الحرية الحمراء"؛ في 1937 شكّل السياسي الأردني شفيق أرشيدات، جمعيةَ "الحرية الحمراء" لدعم الفلسطينيين في نضالهم ضد محاولات بعض اليهود المبكرة لطمس وجودهم في بلادهم.

وبحسب كتاب "دور هزاع المجالي في السياسة الأردنية"، فإن هزاع المجالي رئيس وزراء الأردن الأسبق، خلال فترة دراسته بالمدرسة، انضم إلى تلك الجمعية التي اهتمت بتعزيز جهود مناهضة الانتداب البريطاني عبر تأجيج المظاهرات وإثارة الفوضى، إلا أنها لم تستمر طويلاً.

في أشعاره سجّل الفلسطيني عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى، -1909)، الذي يُعدُّ أحد رموز شعر المقاومة الفلسطينية واحداً من أقدم استخدامات "ابنة شوقي" في أبياته بعدما قرض: "هذه الحرية الحمراء ما عرفت إلا فلسطين مراحا"، لم ينافسه في هذا السبق إلا مطلق عبد الخالق ( -1910) الذي كتب: "هي الحرية الحمراء تسقى/فتنبت بالدم الشرف الرفيعا".

بعدهما وصف الشاعر الفلسطيني لطفي زغلول (-1938) وطنه بأنه "حادي الحرية الحمراء". ومن بعدهم تعددت الإشارات إلى الحرية الحمراء في الأدب المناهض للاحتلال الإسرائيلي.

بعد نكسة حزيران/يونيو 1967 تحولت فدوى طوقان عن الشعر الرومانسي إلى شعر المقاومة، فكتبت قصيدة "لن أبكي"، التي أكدت فيها معاني المقاومة والتحرير وأنهما الوسيلة الوحيدة لإجلاء المستعمر. أنهت فدوى قصيدتها قائلة: "حتى أرى الحرية الحمراء تفتح كلَّ باب/والليل يهرب والضياء يدكُّ أعمدةَ الضباب".

وفي مسرحيته "وطني عكا" التي دارت أغلب أحداثها في فلسطين وتعرضت لأزمة اللاجئين، ونُشرت للمرة الأولى عام 1968، تخيّل مؤلِّفها عبد الرحمن الشرقاوي، نجاحَ مجموعة من المقاومة في غزة في نسف أحد الجسور ثم انسحابهم بعدما استُشهد منهما فردان. في بيتٍ قصيّ جلس الناجيان غسان وحازم يتبادلان حديثاً ذا دلالة فارقة لا تخلو من إسقاطات على وقائع هذه الأيام:

"قال غسان: مات الشهيدان، لكننا نسفنا الجسر كله.

فردَّ عليه حازم: هكذا تصبح آثار خطى الحرية الحمراء في الأرض قبوراً.

فسأله غسان: ومتى تثبت آثار خطى الحرية الحمراء في الأرض زهوراً؟

هنا أجابه حازم: عندما تنتصر الثورة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image