أشعر برغبة كبيرة في البكاء، لا أقصد رغبةً أنيةً مرتبطةً باللحظة فقط، بل أقصد حاجةً دائمة لأتمكن من التوازن يومياً، ومع كلّ صباح أبدأه بالمشاحنات والصراخ وقائمة الطلبات التي تبدأ ما إن أفتح عيني، وأنا التي لم أر الصباح يوماً أكثر من مناورة جديدة مع الحياة.
باختصار شديد ودون تلميع لرغبتي ودون اختراع عبارات مؤثرة لأكسب تعاطفكم، أشعر أني عاجزة عن الاستمرار بالمهمة، عاجزة عن الاستمرار بكوني أمّاً، وكل ما أحتاجه في هذه اللحظة جرعة كبيرة من النوم.
أريد الاحتجاج على كل ما يحدث، على نفسي التي لم أجدها بعد، على أحلامي، على أكوام الغبار، على روائح الزيت، على البطاطا المقلية والملوخية، على الخذلان، على أكوام الصحون المتسخة، على المطبخ والغسالة والحمام وغرفة النوم وملاءات الأسرّة المثقوبة والقمصان بلا أزرار والاكتئاب، على الجدران والنوافذ، على الحكومات، وعلى الظلم والاستبداد والقسوة والبحث عن معنى للحياة على الموسيقا والأفلام والشعر... أريد الاحتجاج على كل شيء، على كل هذا الضجيج والصخب بالانسحاب وحذائي من السباق.
لم يعد صنع الحلوى يجدي
لا أعرف حقاً كيف من الممكن التعامل مع الحليب، وتقطيع البصل، وتنظيف الصحون، وتحضير الفطور والغداء والعشاء، وصنع البهجة، واختراع القصص، وكلمة ماما القاسية جداً، بينما أشعر أن العالم كله يعيش داخل رأسي، وأن مئات الأفكار تتمدّد وتتمدّد، وتستلذ بالاستيلاء على عقلي. كم أبدو غبية وأنا أواجه العالم في الخارج بردّات فعل غير منطقية، وكم أبدو بلهاء وأنا أجيب الإجابة نفسها مهما كان السؤال، لأنني فقط لا أريد التورّط بحديث مع أحد.
أخدع الجميع فأبدو أكثر عرياً في مرآتي، أخدع حتى أطفالي وأنا أشاركهم ألعابهم المفضّلة وأحكي لهم قصص الأميرات بعد تحريفها لتبدو أكثر انسجاماً مع المستنقع الذي نعيش فيه، وبينما أدندن لهم: "يلا تنام يلا تنام"، أدندن في سري قصيدة لسليم بركات، وأبكي، أبكي كل ليلة حتى أغفو
تحتلّني المدن والجسور والشوارع والوجوه الغارقة في حزنها، تحتلّني القلوب المكسورة والمقاعد الفارغة والأمنيات المتشبثة بالوسائد والأحلام المعلقة في سقف السماء. تحتلّني النظرات المحدقة بالفراغ، وجملة قالها يعرب العيسى عن امرأة تشبهني، امرأة واجهت حزنها بأن ظلت تبكي كل ليلة حتى ماتت، فكيف لي أن أكون أمّاً وأنا لم أكن يوماً حرّة، لم أكن يوماً ما أريد. فرغم خيالي الجامح وعنادي الكبير، لم تكن حصتي من العالم كله في النهاية أكثر من طريق مئة متر أقطعه كل يوم جيئة وذهاباً.
قلّدت سيلفيا زمناً طويلاً بصنع الفطائر، فصرت أواجه كل لحظات الضعف والرغبة بالانهيار بصنع قالب كيك، أصوّره من كل الزوايا، وأختار الصورة التي يبدو فيها منفوخاً أكثر، وقبل أن أطعمهم أرسلها إلى أمي، صديقتي المفضلة، زوجي... وكل من يهمني أن أظهر أمامه كأم مثالية، تصنع الفطائر، وتغسل الأطباق، وتثير ضحك أطفالها بالطحين العالق على وجهها.
أعتقد أن الله قد احتاج خدعة كبيرةً حتى لا يقتل البشر أنفسهم. احتاج خدعة عظيمة كالأطفال والأمهات، لنستمرّ بالحياة
أخدع الجميع فأبدو أكثر عرياً في مرآتي، أخدع حتى أطفالي وأنا أشاركهم ألعابهم المفضّلة وأضحك معهم بصوت عال على خدع جيري، وأحكي لهم قصص الأميرات بعد تحريفها لتبدو أكثر انسجاماً مع المستنقع الذي نعيش فيه، وبينما أدندن لهم بصوت عالٍ: "يلا تنام يلا تنام"، أدندن في سري قصيدة لسليم بركات، وأبكي، أبكي كل ليلة حتى أغفو.
أي أم أنا
يلح علي السؤال ذاته يومياً، وأنا أحسّ بتلك المرأة الفاجرة ترقص بكعبها العالي في رأسي، وأنا أواجه الندم وحيدة في سريري، وأنا أحاول صنع قبر لرغبتي الشديدة بأن أرحل، لأجد شيئاً واحداً يربطني بتلك الفتاة التي كانت تريد فقط من العالم كله، غرفة صغيرة في الشام القديمة ومئات من الكتب. هل سيسامحني أطفالي عندما يكبرون؟
أمومتي تشعرني بالانفصام، فأنا عاجزة عن أن أكون شيئاً يشبهني أمام أطفالي، عاجزة عن مشاركتهم أفكاري وتربيتهم بالطريقة التي أرغب بها حقاً، وكل ما يحيط بي يثير خوفي وهلعي، كل ما يحيط بي يؤكّد حقيقة عجزي وانعدام قدرتي على إحداث ولو ثقب واحد حتى في تلك الجدران التي تحاصرنا من كل جهة.
أصعب جزء في الأمومة أننا نصنع جزءاً من ذكريات أطفالنا، وأننا نبني لهم عالماً سيعودون له دائماً مهما كبروا، وهذا أكثر ما يخيفني. أن تصبح نوبات البكاء المفاجئة التي تصيبني في عز لحظات الفرح جزءاً من ذاكرتهم، وأن يبقى مشهد تحديقي في السقف صامتة لساعات بعد مشاهدتي لفيلم ما عالقاً في أذهانهم، أخاف ألّا يسامحوني لأنني لم أكن كالأم التي تظهر في التلفاز، مهذبة، وسعيدة،
أو لأنني في الوقت الذي ينبغي فيه أن أبدأ بالتحدث عن أحلامهم، ما زلت ألتهي بتقطيع أحلامي لأرقع بها ثقوب جسدي.
أخاف أن يبق حزني عالقاً في قلوبهم وإحساسهم بألمي حاضراً داخلهم، فأيديهم الصغيرة هي التي تمتد كل مرة لتنتشلني من الفراغ الذي أسقط فيه.
لست متأكدة من أي شيء ولم أؤمن يوماً أن هناك ما يستحق أن نعيش من أجله، حتى رغبتي التي حدثتكم عنها بغرفة صغيرة في دمشق القديمة ليست أكثر من واجهة لشكّي بمعنى الوجود مع آخرين، ومحاولة لتجريب أن أكون وحيدة لأكتب عن رغبتي في أن أكون أمّاً
الحب
لست متأكدة من أي شيء ولم أؤمن يوماً أن هناك ما يستحق أن نعيش من أجله، حتى رغبتي التي حدثتكم عنها بغرفة صغيرة في دمشق القديمة ليست أكثر من واجهة لشكّي بمعنى الوجود مع آخرين، ومحاولة لتجريب أن أكون وحيدة لأكتب عن رغبتي في أن أكون أمّاً.
الشيء الوحيد الذي أؤمن به قطعاً هو حبي الشديد لأطفالي، لضحكاتهم، لتساؤلاتهم، لعيونهم التي تستكشف العالم بدهشة، ولقلوبهم التي لا تعرف بعد شيئاً عن التعقيد والارتباك أمام الوجود. فهل سيشفع لي يوماً هذا الحب وهل سيكون كافياً للتكفير عن أخطائي معهم، وهل سأبقى ذلك الحضن الذي يختاروه دائماً للنوم بعمق في نهاية كل يوم، والعيون التي يبحثون عنها لتومئ لهم قبل كل خطوة جديدة، أم سأكون اليد الخفية التي ترمي بهم إلى الفراغ ذاته الذي أقاوم السقوط به بهم.
أعتقد أن الله قد احتاج خدعة كبيرةً حتى لا يقتل البشر أنفسهم. احتاج خدعة عظيمة كالأطفال والأمهات، لنستمرّ بالحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.