في شهر مايو/ أيار من العالم 2018، قامت الولايات المتحدة تحت حكم دونالد ترامب، بنقل سفارتها في إسرائيل، من مقرّها في تل أبيب إلى مقرّها الجديد في موقع القنصلية في القدس. جاء هذا النقل بعد نصف سنة من اتخاذ القرار في البيت الأبيض، ونصف سنة من الاحتجاجات اللفظية العربية. في ذلك اليوم، أي يوم تنفيذ القرار، قامت الأحزاب والفصائل، والاتحادات الشعبية الفلسطينية والعربية، بإصدار العديد من البيانات والتصريحات الرافضة و المستنكرة.
أذكر جيداً أنه وقع بين يديّ بيان جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، وبيان أحد الأحزاب اليسارية الأردنية كذلك، فقمت، على سبيل التسلية، بمقارنة مفاهيمية بين البيانين، محاولاً إيجاد نقاط التقاطع ونقاط الخلاف. لا أنكر بالطبع أن النتيجة كانت معروفة لي سلفاً، وذلك بحكم مراقبتي الطويلة للتحوّلات التي طرأت على لغة وخطاب اليسار العربي في العقود الأخيرة، هذه التحوّلات التي أعترف، واعترفت سابقاً، بأنها كانت سبباً مباشراً في مغادرتي لهذا اليسار الفصائلي دون أسف كبير.
المهم أن المقارنة بين البيانين قد كشفت لي حينها عن تشابه كبير في اللغة والمضمون، التشابه الذي يجعل من أي قارئ ليس منخرطاً في اللعبة السياسية والأيديولوجية العربية، أن يعتقد أن من كتب البيانين هو شخص واحد، يغرف من ذات المنهل الفكري والأيديولوجي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تم وصف مدينة القدس في البيانين بوصف "القدس الشريف"، وهذا مفهوم تماماً لتيار أو فصيل إسلام سياسي كالإخوان المسلمين أو غيرهم، لكنه ليس مفهوماً في أي حال من الأحوال أن يصدر عن فصيل أو حزب يتبنّى الأيديولوجية الماركسية التي لا تتعامل مع المقدّس، بل تحاربه أو ترفضه على أقل تقدير.
ما الذي يجعل لغة الماركسي ولغة الإخواني متشابهة في بلادنا؟ وما الذي يجعل الاتفاق، أو حتى التحالف، بينهما سهلاً إلى هذه الدرجة التي نشهدها في آخر عقدين أو ثلاثة من عمر قضيتنا؟
المنطق السليم هو أن يستخدم هذا الحزب الماركسي مصطلح "القدس الشرقية"، كتسمية سياسية تشير إلى مدلول جغرافي سياسي، بعيداً عن التسمية التي تشير إلى اعتبارات دينية تاريخية. ثم أن البيانين استخدما مصطلح "الجهاد" من أجل التعبير عما سيقوم به الشعب الفلسطيني من أفعال لا بد أن تحبط خطوة ترامب والإسرائيليين، وكما هو معلوم فإن هذا المصطلح ديني بحت، يقابله في لغة السياسة مصطلح النضال، ولا يخفى على أي ماركسي أو متحزّب قديم أن مصطلح الكفاح كان متصدراً لغة البيانات والخطابات الإعلامية لفترات طويلة من عمر ثورة الفلسطينيين الحديثة.
ما الذي يجعل لغة الماركسي ولغة الإخواني متشابهة في بلادنا؟ وما الذي يجعل الاتفاق، أو حتى التحالف، بينهما سهلاً إلى هذه الدرجة التي نشهدها في آخر عقدين أو ثلاثة من عمر قضيتنا؟
.هل يكفي وجود عدو مشترك ومجرم كالعدو الصهيوني ليفسّر لنا هذه الظاهرة، أم أن الموضوع بحاجة إلى بحث أكثر جدية وأكثر تعقيداً.
كتب أحد مفكري اليسار الأردنيين، قبل مدة، يشرح لجمهوره من الماركسيين سرّ وقوف اليسار مع حركات الإسلام السياسي، ولكنه اختار الوقوف مع حماس كمثال لتسهيل هذا الشرح وضمان نتائجه، بحيث أجاب عن هذا السؤال الكبير بفكرة بسيطة وهي "الظلم الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني". فهل هذا الظلم يكفي وحده لاختصار كل التشابه الذي يتمتع به الخطابان؛ الإسلامي واليساري. هل يكفي وجود عدو مشترك ومجرم كالعدو الصهيوني ليفسّر لنا هذه الظاهرة، أم أن الموضوع بحاجة إلى بحث أكثر جدية وأكثر تعقيداً.
قبل الإجابة عن سؤال البحث هذا لا بد من التأكيد أنه ليس اليسار فقط هو من يتبنى جانباً من خطاب الإسلاميين ومصطلحاتهم، بل العكس أيضاً يمكن ملاحظته دون عناء كبير؛ فمصطلحات من قبيل الحرية، وأحرار العالم، والحتمية التاريخية، والعدالة، وغيرها الكثير، بدأت تغزو الخطاب الإسلامي بشكل مكثّف، دون أن نتأكد إن كانت هذه المصطلحات تحمل المدلولات والمعاني ذاتها التي تعوّدنا عليها في خطاب اليسار، أم هي مجرد ديكور لفظي وظيفته دغدغة أذن المستمع، ومحاولة استمالته أو طمأنته، أم أن أسباب هذه الظاهرة أعمق من ذلك، وتتعلّق بالاستيلاء القصدي على المصطلح ومحاولة إفراغه من مضمونه، ثم ضخّ مضمون آخر مختلف. بمعنى استعارة المصطلح والعمل عليه ليحمل مع الزمن مضموناً مختلفاً ومعنىً غير الذي كان يعنيه.
على كل حال، ومن أجل تفسير كل ما سبق، يلزمنا الغوص في الحالة الفكرية الأولى، أو الأساسية، لكل تيار من التيارين، أي الصيغة المعرفية التنظيرية التي يستند إليها كل تيار، ودون أية شوائب أو استعارة مصطلحات ومفاهيم من التيار الآخر. كيف يمكن تعريف كل مرجعية فكرية وكيف يمكن وصفها، وما الذي يميز كل واحدة منهما، ما يقودنا إلى فهم هذه السهولة في الالتقاء، بل والتحالف بين ضدين، من المفترض أنهما لا يلتقيان.
الأيديولوجيا السلفية والأيديولوجيا الطوباوية... هذا هو الثنائي السحري الذي يمكننا، إن فهمناه، أن نفهم الكثير من التقارب والتشابه غير المنطقي، والذي لا يمكن الركون إلى اختصاره في وجود العدو المشترك، أو مناصرة الضحية التي تتعرّض إلى الظلم، أو غير ذلك من محاولات تفسير.
من المعروف أن معتنقي أية أيديولوجيا يستندون، أولاً وأخيراً، إلى نصوص وأقوال وأفعال، قد تكون إلهية وقد تكون بشرية، لكنها في الحالتين تكتسب صفة الكمال والقداسة. هي نصوص إما تمّ تجريبها في مراحل معينة من الماضي وأثبتت جدواها، كالأيديولوجيا السلفية، وإما تمّ الإتفاق على فاعليتها في المستقبل وقدرتها على التغيير، كالأيديولوجيا الطوباوية.
باختصار نحن أمام إسلام سياسي مادته الأساسية هي الماضي، ويسار طوباوي مكان تفاعلاته هو المستقبل، أما الحاضر فهو بلا شك ضائع بين الطرفين
أيديولوجيا الإسلام السياسي السلفية تقدم لأنصارها نموذجاً من الماضي المجيد، وأيديولوجيا اليسار الطوباوية تقدم لأنصارها نموذجاً من المستقبل الموعود. لا الأولى تملك الأدوات أو حتى البيئة المناسبة لاستعادة هذا الماضي، ولا الثانية تملك الدليل على أن مسارها يؤدي إلى المستقبل الذي تتخيله. الأولى تعيد جمهورها إلى مجد هانت من أجله الأرواح فيما مضى، ولا ضير أن تهون مجدّداً، والثانية تعد جمهورها بحلم يستحق التضحيات وإلا لن يتحقق.
باختصار نحن أمام إسلام سياسي مادته الأساسية هي الماضي، ويسار طوباوي مكان تفاعلاته هو المستقبل، أما الحاضر فهو بلا شك ضائع بين الطرفين. الحاضر نموذج سيء ولا يستحق الالتفات، لا هو ولا قضاياه ولا حتى أناسه، بل على العكس يمكن التضحية به وبعناصره كلها من أجل استعادة النموذج الأول أو الوصول إلى النموذج الثاني.
إذن الحاضر ليس أكثر من ثمن، بل إنه ثمن يمكن دفعه بكامل الرضى، ولا أسف عليه. وبما أنه كذلك فلا معنى لمحاولة إصلاحه أو العمل عليه وداخل معطياته أو انطلاقاً منها. ولأنه زائل وعناصره زائلة في كل الأحوال، فـ "بغض النظر عن خمسين ألف شهيد" تبدو جملة طبيعية وفي السياق، ولا يبدو قائلها قد ارتكب فضيحة لغوية على أقل تقدير.
هل الفضائح اللغوية في حاضر غير مرغوب تفسّر هذا التشابه في الخطاب؟ ليس تماماً. لكن إن أضفنا إليها هذا الفشل المدوي والمزمن في تحقيق كلا الهدفين من كلا الطرفين، فيمكننا العثور على أسباب تتعلق بتجريب كل طرف لخطاب الطرف الآخر كلما تعمّقت أزمته، أو بتبسيط شديد يمكننا القول، إن العاجز عن فهم الحاضر لن ينجح في استخدام مصطلحاته، وهذا سنؤجل البحث فيه إلى معالجة أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 15 ساعةالحبة الحمراء أيديولوجية يقتنع بها بعض من النساء والرجال على حد السواء، وبرافو على هذا الشرح الجميل
Hani El-Moustafa -
منذ يوممقال أكثر من رائع واحصائيات وتحليلات شديدة الأهمية والذكاء. من أجمل وأهم ما قرأت.
حوّا -
منذ 5 أيامشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل هذه العنجهية فقط لأن هنالك ٦٠ مليون إنسان يطالب بحقه الطبيعي أن يكون سيدا على أرضه كما باقي...
Ahmed Mohammed -
منذ أسبوعاي هبد من نسوية مافيش منطق رغم انه يبان تحليل منطقي الا ان الكاتبة منحازة لجنسها ولا يمكن تعترف...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعوحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً