شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"فليعينك الله علينا"… كيف صار الدين أداة استغلال للسياسة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والخطاب الديني

الثلاثاء 28 يناير 202512:28 م

من هم الجماعة وكيف أمسكت بزمام الدولة سياسياً؟

الجماعة، مصطلح تاريخي يقصد به الأوائل الذين خاضوا الصراع السياسي على منصب الخلافة، وهم الصحابة ومن تبعهم في إطار ما اصطلح عليه الكتاب والسنة والذين يتبعون منهاج الرسول.

قد تبلور مصطلح الجماعة تاريخياً في أعقاب ما يسمى بالفتنة الكبرى، بعد مقتل عثمان بن عفان على أيدي الثائرين ضد حكمه وسياساته الجائرة، وانقسام المسلمين بين مؤيد لعلي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان الذي أراد الوثوب على منصب الخلافة، منادياً بدم عثمان والمطالبة بحق القصاص من قتلته، وبعد مقتل الخليفة الراشدي الأخير تسنم معاوية السلطة.

وباتت "الجماعة" تطلق على الذين يسيرون على النهج النبوي الإسلامي القويم الطائعين للخليفة تحت شعار اجتماع المؤمنين على كلمة الإسلام. هذه الأجواء التي اصطلح عليها تاريخياً جماعة عام 41هـ/661 م، أي اجتماع الناس على بيعة معاوية، تبعتها إرهاصات فكرة أهل السنة والجماعة، فظهر المصطلح قرب منتصف القرن الرابع الهجري، الأمر الذي سيستتبعه تاريخياً تطور المدارس الفقهية والفقهاء السياسيين الذين ساندوا وبايعوا وانحازوا إلى مبدأ الغلبة والشوكة وظهور مصطلح "الخليفة المتغلب".

بناءً عليه، كان الفقه السياسي هو فحوى ومضمون الانتقال من دولة الخلافة الراشدة إلى دولة بني أمية التي غيرت من أدوات وآليات اختيار الخليفة، فجعلته ملكاً عضوضاً ينتقل بالوراثة، وكانت البداية منذ أن قام معاوية بن أبي سفيان بأخذ البيعة لابنه يزيد قسراً من أهل الشام والبصرة والمدينة والأمصار، ومن أشهر حوادث تلك البيعة القسرية إرسال معاوية بن أبي سفيان واليه على المدينة مروان بن الحكم الذي شبه بيعة يزيد بعهد أبي بكر الصديق لعمر بن الخطاب، وقام بتهديد الثلاثي عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر وعبدالله بن الزبير. وتاريخياً، نحو منتصف القرن الرابع الهجري، جرى تسمية التيار السني بأهل السنة والجماعة، وقد التصق ذلك المصطلح بالأشاعرة والماتريدية، هذين التيارين اللذين يمثلان المذهب السني الرسمي.

كيف تطور فقه الدولة؟

لنأخذ نموذجاً من أوائل المذاهب السنية المؤيدة لأفكار الحاكم المتغلب وهو أحمد بن حنبل، الذي اعتمد على النص الشرعي دون إعمال العقل، وهو الإمام الذي نقل عنه التيار السلفي أقوالاً للدلالة على التسليم بولاية المتغلب؛ من ذلك ما رواه القاضي أبو يعلى الحنبلي عنه في كتابه "المعتمد من أصول الدين": "ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً براً كان أو فاجراً". فهذا النص يعتبر مقدساً عند المؤيدين لولاية المتغلب.

استلزم الوصول إلى فقه الدولة وتطوير آلياته من أجل الهيمنة الاجتماعية والثقافية استعداد أفراد ذلك المجتمع لتقبل تلك الهيمنة، بل والمساعدة أيضاً في فرض الانضباط والأخلاق والدين والخضوع والاستسلام على أنفسهم وبعضهم تجاه بعض 

موقف آخر لأحد فقهاء السنة الكبار، والذي يمثل علامة فارقة في تاريخ المذهب السني، ويطلق عليه "شيخ الإسلام"، من قِبل أتباعه، وهو تقي الدين أحمد ابن تيمية، الذي رأى في الخروج على الحاكم مفسدةً وأمراً غير جائز حتى لو كان حاكماً ظالماً، وذلك درءاً لمفسدة أعظم وهي تفرق كلمة الأمة المسلمة. مثلما أورد في مجموع فتاويه الكبرى فتوى بأن "ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان ".

وهنا قد أورد كثير من فقهاء السنة السلطويين أدلة على ثبوت منطق ولاية المتغلب، ومنها حادثة تنازل الحسن بن علي لمعاوية ومبايعته إياه بالخلافة بعد مقتل أبيه الإمام علي بن ابي طالب، بأن بيعة الحسن لمعاوية هي طاعة لولي الأمر الذي امتلك الشوكة والغلبة، في حين أن المؤرخ اليعقوبي الذي اتسم بتحليل الروايات التاريخية وإخضاعها للنقد، قال في تاريخه إن سبب تنازل الحسن لمعاوية عن الحكم كونه لا قِبل له بمعاوية وجنده، فعقد معه صلحاً نزل له فيه عن حقه في الخلافة على أن يكون الأمر بعد معاوية شورى بين المسلمين يولون من أحبوا.

من أبرز الأمثلة الدالة على التطور التاريخي لفقه الدولة في العصر المعاصر، هو ما فعله الرئيس المصري الأسبق أنور السادات من إدماج الجماعات الإسلامية في المجتمع المصري بشكل فاعل على الأرض.

أما إذا انتقلنا عبر العصور التاريخية المختلفة، فسنجد أن التمسك بمفهوم الخلافة أو الحكم الديني هو صياغة نظام سياسي على أساس ديني، يتطور بتطور التشكيلة الاقتصادية-الاجتماعية، لتتحول آليات الحكم والسياسة إلى آليات هيمنة وتنفذ وتمكن من ناصية المجتمع، ومن ثم تمرير تلك الأفكار عبر منافذ وأجهزة تصيغ مجتمعاً جديداً بنفس أفكار الجماعة الحاكمة.

لهذا نجد أنظمة حاكمة في العصر الحديث والمعاصر هي ذات واجهة مدنية أو عسكرية، لكنها تتبنى الدين في صياغة رسمية وغير رسمية، أي مدرج في دساتيرها أن الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع، أو في قوانين الأحوال الشخصية، أو نجد في تنظيم القانون الجنائي والقضاء مواد تحيل القضايا إلى الفقه الإسلامي والشريعة الاسلامية، والتنفذ هنا داخل المجتمع ليس بصيغة الدين كمفهوم عقائدي روحي مطلق، بل بمفهوم سياسي باعتباره دين الدولة، وإدخال المجتمع في فقه الدولة الذي يستهدف في غايته الاستبداد والهيمنة الكاملة، مما يمكن له السيطرة على مصادر الثروة وحيازة جميع الامتيازات. فالانتقال من فقه الجماعة إلى فقه الدولة كان هو التطور التاريخي المنطقي للهيمنة السياسية في منطقة الشرق الإسلامي. ولعل ما نشهده في تلك الآونة من استصدار الدولة في مصر من قوانين ازدراء الأديان هو دليل  واضح ملموس على الدولة الدينية الملتحفة بالمدنية والتمدين.

ومن أبرز الأمثلة الدالة على التطور التاريخي لفقه الدولة في العصر المعاصر هو ما فعله الرئيس المصري الأسبق أنور السادات (1970-1981) من إدماج الجماعات الإسلامية في المجتمع المصري بشكل فاعل على الأرض، حيث التغلغل داخل بنية المجتمع وعقله و وعيه داخل الأسر و المدارس والجامعات والإعلام.

ومن ناحية أخرى نظام سياسي فاشي عسكري مصطبغ بصبغة دينية تمثلت في كوميديا تلقيب السادات نفسه بالرئيس المؤمن على جبهته زبيبة صلاة، وكوميديا أخرى اسمها "دولة العلم و الإيمان". فقد أطلق السادات إشارة البدء للتحول الكامل إلى دولة دينية ذات أساس طبقي، حيث أصبح هو رجل دين برتبة عسكرية، فأفسحت الدولة المجال لشيوخها على رأسهم الشعراوي وعبد الحليم محمود ومحمد الغزالي، ليبرروا جرائم و استبداد الدولة في حق الشعب، مثلما قال الشعراوي نفسه في إحدى جلسات مجلس الشعب إن رئيس الجمهورية لا يُسأل عما يفعل.

المثال الآخر هو دولة "الملالي" في إيران التي رسخت منذ العصر الصفوي مبدأ إطاعة الحاكم وولاية الفقيه، الذي مرّ بعدة أطوار، وتطور خلالها دور رجال الدين الشيعة، وترسخ بشكل أساسي ورسمي في العهد القاجاري، إلى أن حدثت الثورة الاسلامية بقيادة آية الله الخميني الذي جعلها ثورة إسلامية تهدف إلى إعادة الدولة إلى المحور الديني الشيعي بمرجعية فقهائها، خاصة الفقيه الذي ينوب عن الإمام الثاني عشر الغائب، والذي لُقب بالمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويحدث كل قمع واستبداد، حفاظاً على سلطة المرشد الأعلى.

وبالرغم من أن الأساس هو الصراع الطبقي الذي نشأت عنه علاقات قوة ونفوذ، هي الحاكمة والفاعلة في مجتمعات المنطقة العربية ذات الأغلبية المسلمة، وليس هذا فحسب، بل إنها أعادت إنتاج نمط القبيلة وأعرافها و سلوكياتها الحاكمة لها، إلا أن هذا الصراع أفرز بنيته الفكرية المتعددة ومن ضمنها الأساس الفقهي الديني التبريري الذي يضمن أكبر قدر ممكن من السيطرة على عقول الشعوب، لما للدين من قداسة و تعظيم كبير في نفوس شعوب المنطقة العربية والإسلامية؛ الأمر الذي هيأ للسلطويات العربية والإسلامية الفاشية قدراً كبيراً من الأريحية في ارتكاب الجرائم، لأن المبرر الديني الذي سيملأ عقول الشعب موجود.

الخضوع الاجتماعي بين الخطاب الديني والأورغازم الوطني

كما أن الوصول إلى فقه الدولة وتطوير آلياته من أجل الهيمنة الاجتماعية والثقافية استلزم استعداد أفراد ذلك المجتمع لتقبل تلك الهيمنة، بل والمساعدة أيضاً في فرض الانضباط والأخلاق والدين والخضوع والاستسلام على أنفسهم وبعضهم تجاه بعض، وهو ما أسماه الفيلسوف ميشيل فوكو "السلطة الانضباطية"، وهي السلطة التي تمرر أفكارها الخاصة بالانضباط والوطنية والأخلاق عن طريق الدين، لأن المجتمع اعتاد على تقديس الدين والتدين حتى لو كان ضد مصلحتهم العامة.

الانتقال من فقه الجماعة إلى فقه الدولة كان هو التطور التاريخي المنطقي للهيمنة السياسية في منطقة الشرق الإسلامي، ولعل ما نشهده في تلك الآونة من استصدار الدولة في مصر من قوانين ازدراء الأديان، هو دليل واضح على الدولة الدينية الملتحفة بالمدنية

فالدولة كرست جهودها لتنمية هذا الانضباط والشعور بأن هذا الوطن ليس فوضى، والمجتمع ليس منحلاً، بل هناك سلطة دينية تمثل رادعاً لكل من يخرج على الأعراف؛ فتطلق الدولة يد رجال الدين الرسميين التابعين لأجهزتها، كما تطلق يد المؤسسات الأيديولوجية، مثل المدارس والجامعات والمساجد والكنائس (مثل الأزهر والكنيسة)، لتمرير أفكارها الاستبدادية مؤيدة بنصوص دينية وبصيغ قومية معبرة عن حب الوطن والافتداء له وللدين؛ كما فعل الرئيس المصري محمد أنور السادات، الذي أطلق على نظامه "دولة العلم والإيمان" وهو رئيس عسكري. والرئيس محمد حسني مبارك (1981-2011) عندما وقف أمامه رمز الإسلام الشعبوي عند المصريين والعرب، محمد متولي الشعراوي، في مشهد تمثيلي عبثي قائلاً له: "إن كنا نحن قدرك فليعينك الله علينا، وإن كنت أنت قدرنا فليعيننا الله عليك".

فالخطابات السائدة هي خطابات دينية أو قومية متطرفة، والمجتمع قابل للتشكل والانصياع التام لكلا الخطابين، إلا أن الخطاب الديني كان له أبلغ الأثر على أفكارهم وصياغة سلوكياتهم وبلورة شخصياتهم.

كذلك أصبح فقه الدولة ودينها منسحبَين على الخطاب الوطني الذي يتسم بفاعلية الحشد والاستقطاب، بل والوصول بالمواطن الخاضع اجتماعياً إلى مرحلة الأورغازم الوطني والقومي، حيث تم الدمج بين فكرة أن الوطن وطاعة حكّامه هي واجب ديني وفكرة القومية وحب الوطن والموت في سبيله ومن أجله، على اعتبار أن حكامه هم الوطن، إلى حد القول بأن نصرة الوطن المسلم واجب لأنها نصرة للإسلام.

وقد تجسد هذا الخطاب تاريخياً في سبعينيات القرن الماضي أثناء اندلاع الحرب السوفياتية–الأفغانية، واحتلال الاتحاد السوفياتي للأراضي الأفغانية. حينها أعلن الرئيس المصري أنور السادات أنه رئيس مسلم لدولة مسلمة ويجب نصرة الاسلام، انطلاقاً من أن أفغانستان دولة مسلمة والاتحاد السوفياتي دولة شيوعية ملحدة كافرة. وكان هذا وثيق الصلة عالمياً بالرأسمالية الأمريكية التي أعلنت بشكل رسمي دعمها للمجاهدين الأفغان وغير الأفغان. وليس هذا فحسب بل وجهت أيضاً دعماً مالياً وعسكرياً لكلٍّ من السعودية، راعية التيار الوهابي آنذاك، ومصر المُستقِبلة للوهابية وتيارها. كذلك ما يحدث في السعودية الآن من تحديث وتنوير ومواسم وفعاليات غنائية، لم تكن موجودة من قبل، فكان يحرمها شيوخ ومفتون وفقهاء سعوديون، والآن أنه لا بأس منها، وهي تعبير عن حرية العقل.

كذلك عمل المرأة وقيادتها للسيارة كان من المحرمات، أما الآن نفس الشيوخ لا يرون فيها تحريماً، لأنها تمثل رغبة النظام السياسي؛ ما يعبر عن المصلحة المشتركة بين النظام السياسي وشيوخ الدين، مما يدخلها في إطار فقه الدولة، والذي يمثل الاستقطاب أحد آلياته، التي تمكن الدولة من إخضاع غالبية أفراد المجتمع لأفكارها وهيمنتها.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image