شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
السكن الرخيص في دبي... حل اقتصادي أم ضغط نفسي على المغتربين؟

السكن الرخيص في دبي... حل اقتصادي أم ضغط نفسي على المغتربين؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحريات الشخصية

الجمعة 14 فبراير 202511:50 ص

قبل ثلاث سنوات، سافر باسم محمد إلى الإمارات للبحث عن عمل أفضل براتب أعلى مما كان يحصل عليه في مصر، بهدف تحسين مستوى معيشته وتأمين مستقبل أفضل، استقراراً لنفسه وعائلته.

خلال رحلة البحث عن وظيفة، اضطر هذا الشاب المصري للسكن فيما يسمى بـ"بارتشن"، نظراً لتكلفته المنخفضة التي تناسب تلك المرحلة وحتى بعد العثور على عمل.

واختار "البارتشن" المخصّص لفرد واحد حتى يتمتع ببعض الخصوصية، ومع ذلك كان لهذا النوع من السكن تأثيرات نفسية سلبية عليه، حسبما يكشف لرصيف22.

"البارتشن" هو نوع من السكن المشترك، رائج في الإمارات وخاصة في مدينة دبي، وفيه يتم تقسيم الشقة أو الوحدة السكنية الكبيرة، إلى عدة أقسام صغيرة، باستخدام حواجز أو فواصل تكون عادة من الخشب أو "الجبسون بورد"، لتوفير مساحة سكنية بأسعار منخفضة نسبياً، ويلجأ كثير من المغتربين العاملين بدولة الإمارات إلى هذا النوع من السكن، نظراً لانخفاض سعره بشكل كبير مقارنة بإيجار الشقق الخاصة.

ينقسم "البارتشن" إلى قسمين؛ الأول يكون فيه الشخص بمفرده تماماً في غرفة مساحتها تتسع لسرير، أما الثاني فيكون مشتركاً مع فرد أو أكثر؛ ويتسع على حسب عدد الأَسِرَّة، فعلى سبيل المثال، تكون مساحة "البارتشن" المخصّص لشخصين بسرير دورين/ مزدوج نفس مساحة البارتشن المخصص لفرد واحد. وفي كل الأحوال، تكون المساحة الخالية للحركة محدودة للغاية.

ضغط نفسي وشعور بالوحدة

يصف باسم تجربته في "البارتشن" الفردي قائلاً: "في البداية يكون لديك شعور بالراحة والخصوصية، لكن مع مرور الوقت يكون ذلك سبباً في ضغط نفسي بشع، لأن هذه هي المساحة الوحيدة المتوفّرة لك بمفردك. مجرّد سرير، وثلاثة جدران جبسون بورد غير عازلة للصوت، أي أنك تستمع لكل ما يُقال/ يدور في البارتشن المجاور لك، والعكس صحيح".

"بدأ شعري يتساقط بشكل ملحوظ بسبب الضغط كما أنني لم أجد المساحة الكافية لكي أفكر أو أقوم بأي شيء بخلاف الاستلقاء على السرير، وكأن المدة التي من المفترض أن أحصل فيها على قسط من الراحة، بعد رحلة طويلة من البحث عن عمل خلال النهار، أشبه بحبس انفرادي، مع فارق بسيط هو أنني كنتُ أملك مفتاحاً لباب الحبس، أفتحه وأغلقه بنفسي"

ويوضّح: "المساحة الوحيدة المتوفّرة للشخص في هذا السكن هي المطبخ - عند إعداد الطعام - إذا كان متاحاً في ذلك الوقت"، لافتاً إلى أن هذا السكن "ليس كبيوتنا العادية، تستطيع التحرّك من غرفة النوم إلى الصالة أو الشرفة".

ويضيف باسم: "أكثر ما سبب لي ضغطاً نفسياً خلال هذه الفترة هو عدم عثوري على عمل. أتذكر أنه في الأسبوع الثالث لي في البارتشن، بدأ شعري يتساقط بشكل ملحوظ بسبب الضغط ،كما أنني لم أجد المساحة الكافية لكي أفكر أو أقوم بأي شيء بخلاف الاستلقاء على السرير، وكأن المدة التي من المفترض أن أحصل فيها على قسط من الراحة بعد رحلة طويلة من البحث عن عمل خلال النهار، أشبه بحبس انفرادي، مع فارق بسيط هو أنني كنتُ أملك مفتاحاً لباب الحبس، أفتحه وأغلقه بنفسي".

لكن مع الوقت بدأ باسم في التعرّف على من يشاركونه في السكن، وعثر على وظيفة، وهو ما خفّف عنه بعض التأثيرات السلبية، فقضى نحو عامين في "البارتشن" ثم انتقل إلى شقة أوسع، حيث يعيش اليوم في غرفة كبيرة مستقلة، لكنه يؤكد أن شعور الوحدة الذي أصابه في "البارتشن" ما زال ملازماً له إلى الآن.

نوبة من الهلع واكتئاب

سافر أشرف سامي (اسم مستعار)، إلى دبي في أواخر العام 2024، بحثاً عن عمل وحياة مهنية أفضل، غير أن المشاعر التي انتابته داخل "البارتشن" كانت صعبة للغاية في البداية، وفق ما يكشف لرصيف22: "وضع جديد وطريقة سكن جديدة وغريبة بالنسبة لي"، لافتاً إلى أن أول ليلة له "كانت أصعب ليلة".

يصف أشرف "البارتشن" الذي استأجره، ويُقيم فيه إلى الآن، بأن عرضه حواله متر و35 سنتيمتراً وطوله 2 متر ونصف المتر، وبلا نافذة: "لا يوجد مساحة كافية للحركة، ولكي تتحرّك لا بد أن تتحرّك بشكل جانبي".

ويضيف: "المشكلة الأكبر كانت في الليلة الأولى، حينما دخلت للنوم شعرت برعب وحالة مشابهة لنوبة الهلع، وتخيلت بأن الغرفة قد لا يدخلها الأوكسجين بعد غلق الباب، فشعرت بأنني غير قادر على التنفّس من مجرّد التفكير في هذا الأمر، لذا خرجت لمدة ساعتين تقريباً، وعدت بعد أن شعرت بتحسّن. ومع مرور الوقت بدأت التأقلم مع هذا الوضع، لكن الأمر لم يكن سهلاً".

ويشير أشرف إلى أنه استأجر "البارتشن" الذي يعيش فيه حالياً بـ1200 درهم، وهو "مبلغ كبير" بالنسبة له، حتى يحصل على بعض الخصوصية، لكنه اكتشف بأنه لا يوجد أي خصوصية: "على سبيل المثال، لو كنت تتناول الطعام سيعرف الشخص الموجود في البارتشن المجاور لك أنك تأكل، ولا تستطيع الحديث على الهاتف بحرية لأنك تعلم بأن من بجوارك يسمع كل ما تقول".

"حينما دخلت للنوم شعرت برعب وحالة مشابهة لنوبة الهلع، وتخيلت بأن الغرفة قد لا يدخلها الأوكسجين بعد غلق الباب، فشعرت بأنني غير قادر على التنفس من مجرد التفكير في هذا الأمر"

ويتابع: "من المواقف الصعبة التي أواجهها، أصوات العلاقة الحميمة التي تصدر عن زوجين هنديين في البارتشن المجاور لي. أسمع أصواتهما دائماً وهما يمارسان العلاقة الحميمية، وأشعر بالإحراج الشديد، إلى جانب ذلك هناك أصوات الشخير المزعجة التي تصدر".

ويضيف: "يعيش 11 شخصاً في الشقة التي أسكن بها، جميعهم يتشاركون حماماً واحداً، ولهذا يستلزم دخول الحمام في كثير من الأوقات الانتظار كثيراً، وبالطبع ينطبق الأمر نفسه على المطبخ أو استخدام الغسّالة، وغيرها من المساحات المشتركة".

يؤكد أشرف أنه يشعر دائماً بالوحدة والاكتئاب، غير أن الحل غير متوفر حالياً: "للأسف هذا هو الوضع، ولا بد أن أقبل به لأنه لا يوجد حل آخر، على أمل أن تحسّن من حياتك".

وبسؤاله هل هناك أي تأثيرات إيجابية للحياة في "البارتشن"، يقول: "في الحقيقة، لا أرى أي شيء مفيد للصحة النفسية من السكن في البارتشن. ربما تكون الفائدة الوحيدة بشكل عام من السكن المشترك هو التعرّف على ناس جديدة وثقافات مختلفة، وتفهّم كيف يفكر الآخر".

انخفاض مستويات هرمونات السعادة

من جانبه، يؤكد الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، أن السكن في مساحة صغيرة للغاية مثل "البارتشن" يمكن أن يسبب مشاكل عصبية ونفسية للفرد، موضحاً أن ضيق المكان مرتبط بانخفاض مستويات هرمونات السعادة (الدوبامين، السيروتونين والأوكسيتوسين) وبالتالي لا يشعر هذا الشخص بالسعادة والرضا، ويكون كئيباً وعصبياً حتى لو كان هذا السكن يوفّر له المال.

ولهذا، وفق فرويز، لا يذهب الشخص إلى مثل هذا النوع من السكن إلا للنوم فقط، لأنه لا يشعر بالسعادة فيه، كما أن البعض قد يشعر بالاختناق أو أنه في سجن انفرادي: "كل هذا مَرَدُّه إلى الانخفاض الكبير في مستويات هرمونات الدوبامين، السيروتونين والأوكسيتوسين لدى هؤلاء".

ويؤكد فرويز لرصيف22، أن تأثيرات "البارتشن" تختلف من شخص لآخر حسب طبيعة الشخصية: "الشخص العصبي والقلق سيتأثر سلباً بشكل كبير، فيما يستطيع الشخص الأكثر نضجاً التأقلم مع هذا الوضع".

"من المواقف الصعبة التي أواجهها أصوات العلاقة الحميمة التي تصدر عن زوجين هنديين في البارتشن المجاور لي. أسمع أصواتهما دائماً وهما يمارسان العلاقة الحميمية، وأشعر بالإحراج الشديد، إلى جانب ذلك هناك أصوات الشخير المزعجة"

وينوّه استشاري الطب النفسي إلى أن السكن في مساحة صغيرة للغاية يزيد من تركيز الشخص على مشاكله، ما يؤدي إلى تفاقمها؛ فإذا كان الشخص يعاني من ضغوط خارجية مثل البطالة، قد يدفعه ذلك إلى التفكير في الانتحار أو إيذاء الآخرين، طبقاً للجينات الوراثية التي تلعب دوراً في ذلك الأمر.

هذا وينصح فرويز من يضطرّون للسكن في "البارتشن" بتقليل مدة البقاء فيه قدر الإمكان، والتركيز على التأقلم النفسي، وتذكير النفس بأن هذا الوضع مؤقت، فضلاً عن تجنّب التفكير السلبي الذي يزيد من الضغط النفسي.

في السياق نفسه، تقول باربرا فيلد، كاتبة ومتحدثة مهتمة بالصحة العقلية، في مقال لها عبر "verywellmind"، إن العيش في أماكن ضيقة قد يشكل مخاطر صحية، إذ إنه قد يثير لدى الفرد مشاعر الاحتجاز أو الشعور بأنه محاصر.

وتشير باربرا إلى أن الأمر قد يتفاقم إذا انعزل الشخص عن الآخرين كردّ فعل، موضحة أن ذلك قد يؤدي إلى الشعور بالوحدة.

حيلة الألوان

تقول سالي أوغستين، وهي عالمة نفس متخصّصة في البيئة والتصميم في شيكاغو، إن الحكمة الشائعة القائلة بأن المساحة الصغيرة تبدو أكبر عندما يتم طلاؤها بألوان فاتحة صحيحة بشكل عام.

وتوضح سالي أن الجدران الفاتحة تعكس المزيد من الضوء وتجعل الغرف تبدو أكثر انفتاحاً، لكن هذا لا يعني أنك بحاجة إلى الالتزام بجميع الجدران البيضاء، حيث تشير إلى أنه على الرغم من أن الأبيض لون فاتح ويعكس الضوء، إلا أنه ليس الخيار الوحيد، ويمكنك استخدام ألوان فاتحة أخرى، كالألوان الباردة التي تجعل المرء يشعر بالاسترخاء.

ويقول جايمي كورتز، أستاذ علم النفس في جامعة جيمس ماديسون، إن الشيء الجميل في المساحات الصغيرة هو أن إضافة شيء واحد بسيط يمكن أن يصنع فرقاً كبيراً، ولهذا يُنصح باختيار بعض الأشياء ذات الألوان الزاهية مثل الوسائد، لتجعل المساحة تبدو أكثر بهجة.

بحسب دراسة أجريت عام 2021 في جامعة كونكوك في كوريا، حصل الناس على درجات أعلى بكثير في مقاييس الراحة والاسترخاء والحالات المزاجية الإيجابية عند النظر إلى النباتات الحقيقية، وبالتالي، إذا لم يكن لديكم نافذة مطلة على مساحة خضراء، يُمكنكم جلب بعض الطبيعة إلى الداخل باستخدام النباتات المنزلية، التي، وفق جايمي كورتز، تعمل على إمداد الهواء بالأكسجين وتجعل الغرفة أقل انسداداً.

أخيراً، من المؤكد أن "البارتشن" حل اقتصادي مثالي للكثير من المغتربين في بداية حياتهم العملية، لكن لا شك أنه خيار يحمل في طياته بعض المخاطر على الصحة النفسية، ولهذا ينبغي محاولة تجنّب هذه الآثار السلبية لهذا النوع من السكن الرخيص باتباع النصائح التي يشير إليها الخبراء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

خُلقنا لنعيش أحراراً

هل تحوّلت حياتنا من مساحةٍ نعيش فيها براحتنا، بعيداً عن أعين المتطفلين والمُنَصّبين أوصياء علينا، إلى قالبٍ اجتماعي يزجّ بنا في مسرحية العيش المُفبرك؟

يبدو أنّنا بحاجةٍ ماسّة إلى انقلاب عاطفي وفكري في مجتمعنا! حان الوقت ليعيش الناس بحريّةٍ أكبر، فكيف يمكننا مساعدتهم في رصيف22، في استكشاف طرائق جديدة للحياة تعكس حقيقتهم من دون قيود المجتمع؟

Website by WhiteBeard
Popup Image