"إنهم يستخدمون أسلوب الترهيب لفرض سيطرتهم على السكن. الحياة تتحول هنا إلى جحيم. ثمة من يقتحم خصوصيتك في أي لحظة"؛ تقول أمل، التي تنتظر انتهاء امتحاناتها لـ"الخروج من الإقامة الجبرية في السكن الجامعي".
تتذكر أمل وقفتها متسمرةً في ممر مظلم ابتلعه الدخان، حينما نشب حريق داخل مطبخ السكن: "كان موقفاً مرعباً. طالبة منّا أخمدت مصدر النيران داخل المطبخ عبر مطفأة حريق، لكن النيران انتقلت إلى النفايات بالقرب من نوافذ المطبخ، والدخان ظل يستحوذ على المكان. دخلنا خوفاً على الطالبات النائمات داخل غرفهن".
كان من المثير للسخرية يومها، بالنسبة لأمل أن المشرفات اللواتي لذن بالفرار، يحاسبن الطالبات على ملابسهن حينما نقلوهن إلى منازل مجاورة للسكن الجامعي. وتلفت إلى أن "الدخان ما كان له أن يهيمن على الممرات بهذه الصورة المرعبة، لو كانت الشبابيك مفتوحةً: لكنها موصدة، لا نستطيع فتحها بأنفسنا، والحال ذاته ينطبق على باب السطح".
حملات التفتيش
تتذكر أمل التي اكتفت بذكر اسمها الأول خوفاً من ملاحقة إدارات السكن الجامعي للفتيات، وقسمها بالأخص، مجمع ابن سينا التابع لجامعة المستنصرية في بغداد، وتشخص "انتهاكات" عديدةً تشاركت بعضها طالبات من مختلف المحافظات العراقية.
إنهم يستخدمون أسلوب الترهيب لفرض سيطرتهم على السكن. الحياة تتحول هنا إلى جحيم. ثمة من يقتحم خصوصيتك في أي لحظة
تقول أمل لرصيف22، إن "أبرز مشكلة تواجه الطالبات في السكن الجامعي، هي منع الأجهزة الذكية، وهذا الأمر مفروض على سكن الطالبات فقط، أما الطلاب فمستثنون منه. إن هذه المشكلة تنبثق منها غالبية المشكلات الأخرى التي نواجهها في السكن"، مبيّنةً أن "حملات التفتيش عن الهواتف، والمداهمات المفاجئة على الغرف، وعمليات التفتيش التي نتعرض لها يومياً عند العودة إلى السكن تنتهك كل خصوصياتنا. أحياناً يفتحون حتى أكياس الشيبس التي نحملها معنا، ويصل الأمر إلى تفتيشنا عند الخروج إلى الجامعة. الأمر يخضع لمزاج المفتشات".
تضيف: "القرارات تتغير فجأةً، ففي ذروة التعليم المدمج (نصف الأيام حضورياً ونصفها أونلاين)، أيام جائحة كوفيد، صدر قرار بالسماح بالهواتف الجامعية (هاتف مُصنّع من دون كاميرا)، على الرغم من أن دروس الأونلاين تتطلب فتح الكاميرا لتسجيل الدخول، وتصوير الواجبات وغيرها. ثم صدر قرار بالسماح بالهواتف في حال رفع الكاميرات لدى محال الصيانة، وهذا يعني إتلاف الأجهزة. وهذا العام منعوا الأجهزة اللوحية والذكية كافة منعاً باتاً، وسمحوا بالأجهزة الغبية على غرار جهاز نوكيا 1100، الذي يُستخدم لغرض الاتصال فقط".
القمع "لتجنّب الفضائح"!
"يبدو أمر منع الهواتف في السكن أزلياً. أنا في مرحلتي الرابعة ويتبيّن لي أنه أقدم مني بسنوات"، تقول أمل وتكمل وهي على مشارف خوض امتحاناتها النهائية هذه الأيام: "يقولون إن قرارهم هذا لتجنّب الفضائح. أمضيت وقتاً طويلاً في السكن، ولم أسمع بحادثة مماثلة. نعم، هناك قصة قديمة واحدة عن فتاة صورت زميلاتها وانتهكت خصوصياتهن من دون إذن".
تعتقد أمل أن "هذا القرار سببه الحقيقي أزمة أثارتها فتيات بتصوير رداءة أحد الأقسام، وتوثيق حالة الحمامات وغيرها من مرافق السكن، الأمر الذي بثته قناة فضائية وصار حديث الشارع. إنهم يخافون من الفضيحة. الأقسام وضعها مزرٍ، وهم لا يلتفتون إلى المشكلات الحقيقية في الأقسام الداخلية".
التعامل مع الطالبات يخلو من الاحترام، والمبنى متهالك ولا يخضع لاهتمام الإدارة. محاضراتنا تأتي أحياناً بصيغة (pdf)، وتبليغات إلغاء الامتحانات أو تأجيلها تأتي عبر تيليغرام!
برأيها، "قرار مثل هذا يفتح الباب للمشرفات لانتهاك خصوصياتنا. ماذا يعني أن تدخل مديرة السكن وتحاسبنا على ملابسنا، وتسألنا مستنكرةً لماذا نرتدي البيجاما؟ يصل بها الأمر إلى محاسبتنا على الجلوس على مقربة من صديقاتنا، إنه فعل نقوم به حتى في منازلنا"، وتضيف: "أبواب غرفنا منزوعة الأقفال لتسهيل عمليات المداهمة، إنهم مسكونون بالريبة حقاً".
أساليب الهروب
في المعهد الطبي لكلية التمريض في محافظة ديالى، الأبواب يمكن إقفالها، والشبابيك مفتوحة. ستظهر اختلافات في إدارة القسم: "لدينا طرقنا في تهريب الهواتف، ونهرّب معها الإنترنت (مودم)، ونخبّئه جيداً. كل الهواتف ممنوعة، حتى تلك التي لا تحتوي كاميرات. إذا تم اكتشاف واحد فقط، ستتبعه حملة تفتيش ولجنة انضباط واحتمال الفصل وارد"، تقول نبأ.
نبأ هرّبت هاتفاً ذكياً إلى داخل سكنها، وامتنعت عن ذكر طريقة إدخاله. تقول: "التعامل مع الطالبات يخلو من الاحترام، والمبنى متهالك ولا يخضع لاهتمام الإدارة، وهمهم الأكبر الهواتف. محاضراتنا تأتي أحياناً بصيغة (pdf)، وتبليغات إلغاء الامتحانات أو تأجيلها تأتي عبر مجموعات على تيليغرام".
تفرض إدارة القسم على الطالبات بحسب نبأ، منع الخروج تحت أي ظرف في غير وقت الدوام الرسمي، ولا يمكن لهن طلب الطعام أو غيره من الاحتياجات عبر خدمة التوصيل، وتفرض الإدارة قائمةً يمكن الاستعانة بحرّاس القسم لتوفيرها، تتضمن "خضروات وفواكه وخبزاً وماء"، وحتى الحلويات ممنوع طلبها منه.
السبب الوحيد لدى الطالبات للخروج من القسم الداخلي لغير الذهاب إلى المحاضرات، هو المستشفى فقط.
بعض الأوامر المفروضة داخل السكن الجامعي تخضع لمزاجية إدارته، إذ إن أفنان، وهي طالبة هندسة النفط والتعدين في جامعة الموصل، تشارك زميلاتها السابقات في أزمة منع الهواتف فقط، لكنها تنفرد في الإشارة إلى أن "الخروج من القسم لغير الذهاب إلى الجامعة ممنوع، ولأن بعض الطالبات يستغللن عطلة الجمعة والسبت للذهاب إلى منازلهن، قررت إدارة الأقسام رفض منح إذن الخروج للطالبات من المحافظات البعيدة لا سيما الجنوبية، لأنهم يقولون إن من غير المعقول أن تصل الفتيات إلى منازلهن والعودة إلى الجامعة خلال يومين فقط".
وتلفت إلى أن "السائق الذي يُستأجر لتوصيل الطالبات إلى منازلهن يجب عليه أن يقدّم نسخةً من هويته، وأن يوقّع على وثيقة يكون بموجبها مسؤولاً عنهن إذا حصل حادث خارج الجامعة".
ذريعة حفظ السلامة
عند التوجه من شمال العراق إلى جنوبه، في سكن الطالبات التابع لجامعتي باب الزبير والكرمة، تبدو الأمور أفضل بكثير. تشير الطالبات هنا إلى أن الهواتف مسموح بها، والصيانة مستدامة، وأي خلاف مع مشرفي الأقسام يمكن إحالته إلى مراجع عليا تحلّه بسهولة بطريقة مرضية، لكن التشديد على التأخير عن وقت العودة إلى السكن، والخروج إلى غير الجامعة، من الأمور التي لا يتساهلون فيها.
"هذه الإجراءات لا تعجب الطالبات، برغم أنها تحفظ سلامتهن"، يقول مشرف أحد أقسام الطلاب في بغداد، الذي تحدث إلى رصيف22، مشترطاً عدم الكشف عن اسمه، بعد تعذّر الحصول على مشرفة على سكن للطالبات.
الخروج من القسم لغير الذهاب إلى الجامعة ممنوع، ولأن بعض الطالبات يستغللن عطلة الجمعة والسبت للذهاب إلى منازلهن، قررت إدارة الأقسام رفض منح إذن الخروج للطالبات
"فقط اكتب الأقسام الداخلية للبنات على يوتيوب، وانظر إلى حجم خطورة الأمر"، يقول مشرف القسم، ويضيف: "هناك رغبة فضائحية في المجتمع. الناس تتحدث بلا دليل، فكيف إذا حصلت على صور ابتزاز أو تسربت صور خاصة للبنات... كم سيؤثر هذا على سلامتهن؟ وما أثره لدى العوائل المتحفظة؟ قد يصل الأمر إلى حرمان بناتهم من ارتياد الجامعة في غير محافظاتهم".
قرار منع الهواتف الذكية في أقسام الطالبات، يخضع لقرار صادر عن "جهاز الإشراف والتقويم" التابع لوزارة التعليم العالي، بحسب المشرف، الذي يشير في الوقت ذاته، إلى أن أفعالاً من قبيل إغلاق الشبابيك أو التدخل في خصوصيات الطلبة "اجتهادات شخصية".
ومع ذلك، يقول المشرف إن "الأمر خطير أكثر مما يمكن تصوّره. هذه القرارات لا تنبع من مصدر غير الخوف. إنهم يتشددون لحماية أنفسهم أكثر من حماية الطالبات. أي خطأ يقع على عاتق المشرفين. إنها ورطة حقيقية".
ويستذكر المشرف حدثاً ظل عالقاً في ذهنه: "قبل أعوام، خلال عمليات التحرير من تنظيم "داعش"، دخلت قوة أمنية خاصة لاعتقال طالب مشتبه به. اقتحمت المبنى من دون مذكرة اعتقال. في اليوم التالي، أبلغنا إدارة القسم. أتذكر الأمر جيداً. المراجع العليا تركتنا وحيدين. الكل تخلوا عنا، وصارت سلامة الطالب على عاتقنا فقط من دون تفهّم أننا كنا بلا حول ولا قوة. لم نسلم حتى تم الإفراج عن الطالب".
ملاحظة: حاولنا الاتصال بالمتحدث باسم وزارة التعليم، لكنه لم يُجِب بسبب تعرضه لحادث. أعدنا المحاولة أكثر من مرة خلال أسبوع ولم يُجِب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.