شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
صدام

صدام "ثقافات"... حياة طالبات السكن الجامعي في تونس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 27 مارس 202304:55 م

بعد اجتيازها اختبار البكالوريا الوطني بنجاح سنة 2016، كان على سلمى (اسم مستعار)، الانتقال من محافظتها سيدي بوزيد (وسط غرب) إلى مدينة المكنين في محافظة المنستير الساحلية، وخوض تجربة السكن الجامعي للمرة الأولى للدراسة في تخصص الفرنسية التطبيقية.

قضت أربع سنوات مع عشرات الطالبات الأخريات من محافظات تونسية مختلفة، وحسب تعبيرها، اصطدمت خلالها بشخصيات مختلفة عن شخصيتها وبطريقةٍ في العيش لم تعتدها في السابق وهي القادمة من مجتمع محافظ نوعاً ما. حاولت جاهدةً أن تتأقلم مع هذا العالم الجديد لتحقيق أهدافها التي جاءت من أجلها.

خلال هذه الفترة شاركت سلمى (27 عاماً)، زميلات لها تارةً غرفاً ثنائيةً وطوراً ثلاثيةً، وتستحضر تقاسمها الغرفة ذاتها مع طالبات ينحدرن من أوساط اجتماعية مختلفة ويعشن بطريقة حداثية أحدثت صداماً معهن إذ اعتبرنها "رجعيّة" و"متحجّرة الأفكار".

"استفزاز"

أما النقطة التي "استفزتها" وعلقت في ذاكرتها، فهي مسألة "العنصرية والجهويات"، واستهزاء بعض الطالبات من لهجة سكان الوسط والجنوب التي تختلف عن لهجة الساحل والعاصمة حتى أن إحداهن وصمتها "بجماعة وراء البلايك (اللافتات) والقعر (الهمج)"، وهي ألفاظ عنصرية يتعرض لها أبناء المناطق الداخلية الفقيرة (الوسط والجنوب والشمال)، وبناتها.

"كنت متشوّقةً جدّاً إلى خوض غمار تجربة الجامعة والسكن الجامعي لأول مرة في حياتي بعد فرحة نجاحي في اختبار البكالوريا والتعرف على أماكن وأناس جدد وتكوين علاقات جديدة"، تقول الشابة مريم (اسم مستعار)، لرصيف22.

في أول سنة تبتعد فيها مريم (23 عاماً)، ابنة محافظة تطاوين (جنوب شرق)، عن أسرتها وتجرب السكن الجامعي في محافظة قابس المجاورة سنة 2021، مع مئات الطالبات من كافة محافظات تونس، شعرت بنفسها وحيدةً عليها تحمّل كافة مسؤولياتها بمفردها لا تنتظر من يطهو وينظف لها أو يوقظها من نومها.

تعرّفت إلى زميلات لها تصفهن بـ"الطيّبات" تشاركت معهن فترات حلوةً وتبادلن المساعدة في أوقات الشدة لكنها في المقابل اصطدمت بأخريات يختلفن معها في التصرفات وفي طريقة التربية، توضح.

بدورها، لم تعتد مريم على العيش مع فتيات "بذيئات ويثرن المشكلات والعراك ومنهن من تسرق حاجيات زميلات لها في السكن وأخريات غير نظيفات"، ولكنها "كانت مجبرةً على التعايش مع مختلف هذه الأنواع من الشخصيات"، حسب حديثها.

عرضة للاستغلال

تصف نفسها مريم بأنها هادئة الطبع وكتومة وخجولة، وبحسب حديثها، جعلتها هذه الصفات عرضةً للاستغلال من قبل زميلاتها في السكن الجامعي اللواتي عددن حياءها ضعفاً ونقصاً، فوجدت نفسها غير قادرة على العيش معهن فإما "أن أصبح مثلهن أو أنعزل للمحافظة على مبادئي"، كما تقول.

كما أنها فتاة انطوائية وغير قادرة على التأقلم السريع وانتقائيّة في اختيار علاقاتها وهي شخصيّة "اعتبرنها "للأسف معقّدةً" ما يزيد في تعقيدها وتنغلق أكثر على نفسها لأنها لم تجد من يحاول فهمها ويقترب منها بنيّة طيبة".

تقول مريم إنها دخلت في اكتئاب حادّ ولم تتأقلم مع وضع السكن الجامعي وكرهت الدراسة وانغلقت على نفسها ومات شغفها وضاع طموحها مع آخر ورقة اختبار سلّمتها.

خلافا لمريم وسلمى، لصفاء (اسم مستعار) تجربة مختلفة في السكن الجامعي بعد تخرجها سنة 2012 في تخصص الصحافة وقضائها ثلاثة أعوام في السكن الجامعي شاركت فيهم زميلات لها غرفاً ثنائية وثلاثية.

صعوبات كبيرة

"نشأتُ في أسرة متحررة في الجنوب التونسي وتعلمتُ منها حرية اختيار طريقة لباسي وتسريحة شعري المجعّد الكثيف وكنت مختلفة عن زميلاتي في الغرفة ذاتها في المظهر فواجهت صعوبات كبيرة معهن"، تقول لرصيف22.

تعرضت الشابة للتنمر على شكلها ولباسها القصير وكانت تعي بأنها في نظرات زميلاتها في السكن "الفتاة الخارجة عن قواعد المجتمع" لحدود تقديم شكوى ضدها لدى مديرة السكن الجامعي، وفق تعبيرها.

تضيف أنه بمرور الوقت وبتقرب شريكاتها في الغرفة منها واكتشاف طباعها، تقبّلْنها نوعا ما لأنهن تعرفن على "شخصيتها المرحة والطيبة"، وتأكدن "أنني لا أختلف عنهن شيئا وأنه ليس بالضرورة الحكم على مظهري وشكلي الخارجي".

"نشأتُ في أسرة متحررة في الجنوب التونسي وتعلمتُ منها حرية اختيار طريقة لباسي وتسريحة شعري المجعّد الكثيف وكنت مختلفة عن زميلاتي في الغرفة ذاتها في المظهر فواجهت صعوبات كبيرة معهن"

واجهت صفاء صعوبة أخرى حول مسألة تراها عادية بينما عرضتها للرفض والمشاكل وهي التدخين "فهو من جانب ممنوع في السكن الجامعي العمومي فكنت أخفي ذلك ومن جانب آخر ترفض زميلاتي تدخيني في الغرفة وهدّدنني بتقديم شكوى ضدي لدى الإدارة حتى أنهن رفضن التواصل والجلوس معي وكأنني ارتكبُ جرماً"، تؤكد.

وتشدد على أن الأحكام السلبية المسبقة تّجاهها تتجاوز زميلاتها في الغرفة إلى طالبات الغرف المجاورة "فأنا في نظرهن الفتاة 'الصايعة' الضائعة التي لا تتحلى بأخلاق المجتمع السائد" ما جعلني أختار أن أكون وحيدة، تختم.

شروط صارمة

ينقسم السكن الجامعي في تونس إلى قسمين اثنين، عامّ (تابع للدولة) وخاص، وللتمتع بالسكن العام، هناك شروط وجب توفّرها في الطالب والطالبة على خلاف الخاص المتاح للجميع.

من هذه الشروط، أن يكون الطالب/ ة مسجلاً/ ةً، في مؤسسة تعليم عالٍ عامة ويجب ألاّ تقل المسافة بين مقر إقامة الطالب/ة والمؤسسة الجامعية العامة المسجل/ة بها، عن ثلاثين كيلومتراً.

يُسنَد السكن الجامعي إلى الطالب سنةً واحدةً وإلى الطالبة سنتين اثنتين، ومن بين أبرز قوانين السكن الجامعي العام غلق الأبواب عند الساعة الثامنة ليلاً 

يُسنَد السكن الجامعي إلى الطالب سنةً واحدةً وإلى الطالبة سنتين اثنتين، ومن بين أبرز قوانين السكن الجامعي العام غلق الأبواب عند الساعة الثامنة ليلاً ومنع الخروج منه والدخول إليه.

أما السكن الجامعي الخاص فليست لديه أي شروط لقبول الطالبات، ولكنه أقلّ صرامةً بالنسبة إلى توقيت غلق الأبواب ليلاً، والذي يفوق توقيت السكن العام بساعة أو ساعتين.

"هي مرحلةٌ جديدةٌ بكل المقاييس وتعيش غالبية الطالبات لأول مرة تجربة البعد عن عائلاتهن، ومشاركة عدد كبير من الطالبات السكن نفسه مقارنةً بعدد أفراد أسرهنّ القليل"، يقول المختص في علم النفس عبد الباسط الفقيه، لرصيف22.

صدمات

يتحدث الفقيه عن جملة من الصدمات والضغوط التي تتعرض لها طالبات يعشن لأول مرة تجربة البعد عن عائلاتهن، أولها صدمة عدد الطالبات الكبير ومشكلة انعدام الخصوصية وتنوّع المرجعيات الثقافية والعناء اليومي لتدبّر وجبة شهية بعد اكتشافهن الفوارق بين وضع السكن الجامعي وبين الرفاهية الأسرية.

تتحدث أخصائية علم الاجتماع لطيفة التاجوري عن صدمة "إثبات الذات وعن كيفية اقتلاع الطالبة مكانها وسط المجموعة الجديدة المتشابهة"

ويصف السنتين الأولى والثانية في السكن الجامعي بالأصعب خاصةً للّواتي لم يعشن سابقاً الاستقلالية. ويعدّها فترة اختبار اجتماعي قويةً للطالبات "لا تنجح فيها إلا المستعدة لها ومن لم تكن كذلك فستخضع لضغوطها التي ليست هيّنةً".

من جهتها، تتحدث أخصائية علم الاجتماع لطيفة التاجوري عن صدمة "إثبات الذات وعن كيفية اقتلاع الطالبة مكانها وسط المجموعة الجديدة المتشابهة"، وعن صدمة "المسؤولية التي تتضمن التسيير المالي وتوفير السكن وإعداد الوثائق التي تتطلب منها مجموعة من المهارات الحياتية التي لم تعتدها سابقاً وكان والداها هما من يقومان بها وهي صدمة الروتين الإداري في محيط وأناس جدد".

كما أشارت إلى صدمة الفضاء الجامعي الأكبر والأوسع من الثانوي وعن شبكة العلاقات الكبيرة التي على الطالبة التأقلم معها حتى تشعر بالطمأنينة وليس بالغربة، توضح لرصيف22.

وتقول إن هناك فتيات تذوب شخصياتهن مع المجموعة وهي طريقة اندماج وهناك من تفرض نفسها وثقافتها وأحلامها وتنخرط في عمل المجتمع المدني، بينما تنعزل أخرى وهي التي تكون مصدومة من المحيط الجديد ولا تعرف كيف تتعامل معه أو كيف تثبت نفسها في هذا المكان.

 تعيش الطالبة في محيط ريفي مغلق ذي علاقات محدودة ومحميّ بعلاقات القربى والدم ثم تجد نفسها في العاصمة أو مدن الساحل مع أشخاص مجهولين فتعيد بناء علاقات جديدة

بدوره، يصف مختص علم الاجتماع فؤاد غربالي، تجربة السكن الجامعي بالمهمة للطالبة لأنها "عادةً ما تكون في مرحلة المعهد (الثانوي) تحت الرقابة العائلية وضغوطها ثم تنتقل إلى مرحلة مختلفة بابتعادها عن الأسرة فتواجه جملةً من التجارب الجديدة بدخولها في محيط جديد بمجموعة من القيم والتصورات الجديدة".

اكتشاف

ويوضح لرصيف22، أن الطالبة في هذه الحالة ستعيد بناء علاقاتها الاجتماعية كما ستتغير شبكة علاقاتها وتضم أشخاصاً من مناطق مختلفة، ما يجعلها تكتشف وجود ثقافات وعادات تونسية أخرى.

يرى المتحدث أنه وبقدر ما تثري هذه المسألةُ الشخصيةَ والتجربةَ وتوسع أفقَ علاقات الطالبة، بقدر ما تمثل مشكلةً خاصةً لبعض الطالبات اللواتي يجدن صعوبةً في الاندماج في الحياة الجامعية ويشعرن بالوحدة والغربة والحنين إلى المعهد والعائلة. فهل أن كل هذه الصدمات طبيعيّة أم لا؟

يصف غربالي هذه الصدمات بالطبيعية ويفسر ذلك بأن الطالبة "تكون في محيط ريفي مغلق ذي علاقات محدودة ومحميّ بعلاقات القربى والدم ثم تجد نفسها في مدينة أخرى،  سواء العاصمة أو الساحل،  مع أشخاص مجهولين فتعيد بناء علاقات جديدة وتصطدم بقيم جديدة قائمة على الفردانية".

يضيف أن هناك طالبات يعددن هذه القيم الجديدة فرصةً للتخلص من القديمة والانفتاح على الجديد، وأحياناً على حساب مسار الدراسة والنجاح، وهناك من تصبح محافظةً أكثر وتتمسك بهويتها الريفية ما يخلق نوعاً من الانغلاق لدى بعضهن.

"رفض الاختلاف"

بالنسبة للتاجوري، لا يتعلق الأمر بصراع بين شخصيات طالبات مختلفات، بل بظاهرة عدم قبول الاختلاف بينهن وتصادم الثقافات المتنوعة، "إذ أن الطالبة تأتي محملة بثقافة البيئة التي نشأت وتربت فيها وأخذت منها مبادئ وقيماً معينة".

وتضيف أنهن يتشابهن في الفئة العمرية أو الاهتمام العلمي، "ولكن هناك اختلافات بينهن تُصعِّب عملية الاتصال والتواصل بينهن وتعقد نظام عيشهن، فالمشكل هو التواصل ورفض قبول الاختلاف إضافة إلى الظرف والتجربة الجديدين اللذيْن يعشنهما لأول مرة في حياتهن والمسؤوليات الجديدة على عاتقهن، أبرزها تحقيق انتظارات أسرهن منهن".

وتؤكد أخصائية علم الاجتماع أن الاختلاف وأنماط العيش الجديدة والمختلفة وما تتطلبه من "بريستيج وحب الظهور والاعتناء الفائق بالنفس في إطار رغبة الطالبة في إظهار أنه لديها مكانة في المجتمع الجديد، سيولد ضغطاً عليها".

لتفادي مثل هذه الصدمات وتداعياتها، ترى لطيفة التاجوري بضرورة وجود إعداد مسبق للتأقلم بين الطالبات، "لأن الطالبة تحمل موقفاً معيناً من سلوك معين فتجد نفسها وسط هذا السلوك، والسؤال المطروح هنا كيف ستتأقلم معه؟ ستصده تضطر للانعزال ما يترتب عنه آثار اجتماعية ونفسية سلبية أم ستحاول التأقلم وتحل مشكلات التواصل؟".

وتبين أن الخدمات الجامعية هي المسؤولة عن ذلك "ويجب عليها توفير خدمات إرشاد وتوجيه وبرنامج خاص في كيفية التأقلم والتعايش السلمي بين الطالبات حتى يتأثر سلباً مسار دراستهن".

مسؤولية جماعية

من جهته، يرى فؤاد غربالي، أن الحياة الجامعية فرصة للإنسان لبناء شخصيته وتنويع علاقاته وتوسيع رؤيته للحياة، ولكن في المقابل "على المؤسسة الجامعية أن توفر للطالبات مرافَقةً وأنشطةً ثقافيةً وتستمع إليهن وتوفّر مختصين لمساعدتهنّ على تجاوز صدماتهنّ الأولى".

ويعدّ أنها مسؤوليةٌ جماعيةٌ تبدأ من الأسرة والمعهد وصولاً إلى المؤسسة الجامعية التي يحمّلها برأيه كافة المسؤولية، "فعليها عدم الاكتفاء بالتدريس وإنما توفير المناخ الملائم لعيش حياة جامعية إبداعية من خلال النوادي الثقافية".

ويشدد على ضرورة اعتماد الدولة سياسةً عامّةً لجعل الفضاء الجامعي فضاءً لصقل الشخصيات وبناء مُواطن الغد. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image