من الطبيعي والسائد عموماً، في الثقافات البشرية وسياق الحياة العامة، سواء منذ بدأ الإنسان بالميل نحو الآخر لغاية المشاركة، أو وصولاً بشكل عام إلى أحدث مظاهر التعاطي المجتمعي المشترك، أن تتعدّد الطرق والأساليب المتبعة لتمكين آلية التعبير عن الرأي دون قيود، والتعدّدية هنا، ضمن هذا السياق تحديداً، جاءت نتيجة حتمية للقلق من الآخر نفسه، وأقصد بالضبط تعدّدية الأساليب التي ينتهجها الفرد، أو الجماعة، لطرح وجهة نظر خاصة أمام وجهات نظر أخرى، قد تحمل في أهدافها، واستناداتها، اختلافات جذرية كاملة، ربّما تكون محرّكاً خطيراً لخلق الخلافات بين تلك الجماعات، أو بين الأفراد على صعيد نقاش ثنائي حول قضايا مشتركة.
ومن خلال تتبّع بسيط لبداية تلك التعدّديات وبعض الاستنتاجات على مرّ الحقب الزمنية، نجد أن جميعها تشترك أصلاً في مضمونها بنقطة واحدة على الأقل، قد لا تخدم الغاية من التشاركية في شرح وجهات النظر، لكنّها بكل تأكيد تحافظ -من منظور كل طرف على حدة- على فكرة التّمسك بالرأي.
هذه الفكرة التي تمرّر نفسها دائماً بعباءات كثيرة، يصعب بسببها التمييز بين "التمسّك بالرأي على اساس الاقتناع التام بالحجج المرافقة له"، و"التمسك بالرأي من باب التعنّت فقط لا أكثر "، وبالتالي إلغاء أي رأي مخالف.
من هنا تماماً تطوّرت فكرة الإلغاء وأخذت مفهوماً حديثاً، بل تحولت إلى ظاهرة اجتماعية انتشرت بشكل هائل، خاصة عبر منصات التواصل الاجتماعي، تحت مسمّى "ثقافة الإلغاء"، إذ صار من السهل جداً دعوة شريحة واسعة من الناس لمقاطعة شخص ما، أو مؤسسة، أو حركة اجتماعية، بسبب تصرفات معينة تعتبر، بالعرف العام، غير مقبولة أخلاقياً أو اجتماعياً، أو فقط لمجرد التعبير عن رأي مخالف للرأي العام.
تعتبر "ثقافة الإلغاء" شكلاً من أشكال المساءلة الاجتماعية، والتي، بطبيعة الحال، تخلق جدلاً واسعاً حول مفهومها، من حيث الإيجابيات التي تحملها والسلبيات المثيرة للقلق المجتمعي التي من الممكن بشكل كبير أن تنتج عنها.
تعتبر "ثقافة الإلغاء" شكلاً من أشكال المساءلة الاجتماعية، والتي، بطبيعة الحال، تخلق جدلاً واسعاً حول مفهومها، من حيث الإيجابيات التي تحملها والسلبيات المثيرة للقلق المجتمعي التي من الممكن بشكل كبير أن تنتج عنها
فهي من جهة أولى، تعتبر أداة فعّالة لمحاسبة الأفراد والمؤسسات، خاصة في ظل غياب القوانين، إضافة إلى أنها وسيلة مهمة لتمكين الفئات المهمّشة من التعبير عن رفضها للظلم أو التمييز، بينما من جهة أخرى قد تؤدي إلى تدمير حياة أشخاص بناء على اتهامات غير مؤكدة، أو سوء فهم، كما قد تتحوّل، بحالاتها المتطرّفة، إلى نوع خطير من أنواع "التنمّر الاجتماعي"، والذي يجبر البعض في حالات كثيرة على التراجع عن التعبير عن آرائهم بحرية، خوفاً من إلغائهم التام.
تعزيز الخوف بدلاً من الحوار
عندما تتحول ثقافة الإلغاء إلى أداة للانتقام أو التشهير بدلاً من الإصلاح، وتنتهج نهج الإلغاء العشوائي، فمن الطبيعي جداً أن تؤدي إلى إسكات الآراء المختلفة، حتى وإن كانت بنّاءة.
قد لا يكون هذا الإلغاء حاملاً للصفة القمعية بالقدر الّذي يكون فيه بسبب "الخوف المسبق من الإلغاء"، فنجد الناس يتجنّبون الخوض في النقاشات والحوارات الجماعية العامّة، تحت ضغط ما يمكن أن أسميه "الرقابة الذاتيّة" الّتي تجبر الأفراد بشكل خاص على عدم التعبير عن آرائهم بصدق تام، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن غياب الحوار بسبب هذا الخوف سيؤدي، بشكل حتمي، إلى انقطاع التواصل بين الأطراف المختلفة.
وبما أن ثقافة الإلغاء، كغيرها من الثقافات المجتمعية الأخرى، تحمل في جوانبها العديد من المناحي المختلفة (التي قد تكون متناقضة في توجّهاتها) فإن التركيز على أحدها، دون أخذ البقية بعين الاعتبار، سيخلق حالة من عدم التوازن في التعامل مع الغاية الأساسية من هذه الثقافة، فمثلاً، إن التركيز على "العقاب"، وهو أحد مناحي هذه الثقافة، بدلاً من "الإصلاح"، وهو المنحى الآخر، سيجعل من الصعب معالجة المشكلات بطرق بنّاءة، وبالتالي تعزيز حالة "الخوف من الإلغاء" الذي قد يحدّ من الجرأة في التعبير، سواء على الصعيد الفني أو على الصعيد الفكري، وهذا يقلّل من التنوع الثقافي في المجتمع، التنوع الّذي تحتاجه المجتمعات بشكل أساسي لبناء نفسها.
عندما تتحول ثقافة الإلغاء إلى أداة للانتقام أو التشهير بدلاً من الإصلاح، وتنتهج نهج الإلغاء العشوائي، فمن الطبيعي جداً أن تؤدي إلى إسكات الآراء المختلفة، حتى وإن كانت بنّاءة
التعامل مع ثقافة الإلغاء، بين الاعتذار والتعنّت
تتعزّز ثقافة الإلغاء وينتشر التعامل بها، كأداة مساءلة، في الظروف المجتمعية التي تسودها الفوضى وتعيش في صراعات مستمرة، كالمجتمعات الخارجة من حروب (المجتمع السوري بعد سقوط النظام نموذجاً) أو تلك التي تعيشها بشكل مستمر، وذلك لسبب واضح ومباشر إلى حد ما، وهو غياب القانون، وميل هذا النوع من المجتمعات نحو الانقسام الفكري الذي يخوّل لفئة نبذ فئة أخرى، أو بالمعنى الأدق إلغاءها، بسبب تصريحات أو أفعال مثيرة للجدل أو غير مقبولة من وجهة نظر أحاديّة.
وفي كثير من الأحيان، تستهدف هذه الثّقافة شخصيات عامة في المجتمع (ممثلين، رياضيين، سياسيين) بسبب مواقفهم، وقد تكون في أحيان أخرى على شكل "حملات مقاطعة" لشركات، عامة أو خاصة، وهنا تحديداً تختلف ردود الأفعال الناجمة، فنجد منهم من يعتذر ليعيد بناء الثقة مع الجمهور والمجتمع، ومنهم من يتمسّك برأيه وموقفه مواجهاً العواقب، الأمر الّذي يثير جدلاً كبيراً حول مفهوم حريّة التعبير بشكل عام.
لا بدّ من الاتفاق بشكل حتمي على أن حريّة التعبير هي حقّ أساسي، ثم السعي بعد ذلك نحو تمكين وجوب صيانة هذا الحق، باعتباره حجر أساس للديمقراطية، ووضع أسس حماية للأفراد الّذين قد يتعرّضون للإلغاء "غير العادل"، وهذا بشكل بديهي يتطلّب مسؤوليّة اجتماعية في التعبير عن الرأي بشكل واع من حيث تأثيره على الآخرين، خصوصاً في القضايا الحساسّة
التوازن، بين حرية التعبير والمسؤولية الاجتماعية
لا بدّ من الاتفاق بشكل حتمي على أن حريّة التعبير هي حقّ أساسي، ثم السعي بعد ذلك نحو تمكين وجوب صيانة هذا الحق، باعتباره حجر أساس للديمقراطية، ووضع أسس حماية للأفراد الّذين قد يتعرّضون للإلغاء "غير العادل"، وهذا بشكل بديهي يتطلّب مسؤوليّة اجتماعية في التعبير عن الرأي بشكل واع من حيث تأثيره على الآخرين، خصوصاً في القضايا الحساسّة، وهذا يحيل المجتمع إلى العمل على وضع سياسات واضحة (خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي) لمنع التحريض والتشهير، وذلك من خلال التشجيع على النقاشات الحرة والبنّاءة، بعيداً عن التصعيدات العاطفيّة.
لا يختلف اثنان على أن ثقافة الإلغاء في مفهومها العام، تعتبر ظاهرة معقّدة، تخلق تبايناً واضحاً في أدوات المحاسبة، لكنها تثير القلق حول آلية خلق التوازن بين العدالة الاجتماعية وحريّة التعبير، فهي من جهة ما تعتبر أداة فعالة للمحاسبة، بينما من جهة أخرى، تحمل في جوانبها خطر تقويض حرية التعبير إن تم استخدامها بعشوائية، لذلك، لا بدّ من التأكيد على أن التوازن يكمن في تعزيز الحوار المفتوح والمسؤولية الاجتماعية، مع احترام حق الجميع في التعبير عن آرائهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ يوممقال رائع..
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامالحبة الحمراء أيديولوجية يقتنع بها بعض من النساء والرجال على حد السواء، وبرافو على هذا الشرح الجميل
Hani El-Moustafa -
منذ 4 أياممقال أكثر من رائع واحصائيات وتحليلات شديدة الأهمية والذكاء. من أجمل وأهم ما قرأت.
حوّا -
منذ أسبوعشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل هذه العنجهية فقط لأن هنالك ٦٠ مليون إنسان يطالب بحقه الطبيعي أن يكون سيدا على أرضه كما باقي...
Ahmed Mohammed -
منذ أسبوعاي هبد من نسوية مافيش منطق رغم انه يبان تحليل منطقي الا ان الكاتبة منحازة لجنسها ولا يمكن تعترف...