بدَأنا في المقالات السابقة طرح حلول مقترحة مستدامة وإستراتيجيات متكاملة للتعامل مع مشكلة ندرة المياه في مصر على مجموعة من المحاور بدايةً بالمحور الأول الخاص بإيجاد بدائل أخرى لمصادر المياه غير نهر النيل. هذه البدائل كانت مصنّفة من الأقل تكلفة إلى الأكثر كالتالي: الأمطار والفيضانات، والمياه الجوفية، وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي، وتحلية مياه البحر، والمشاريع المقترحة لإنشاء شبكات مياه جديدة وربطها بالدول الأخرى أو إقامة مشاريع جديدة تهدف للحصول على المياه من دول أخرى. ناقشنا كل البدائل ولم ننتهِ من آخر بديل وهو الذي يتضمّن مجموعة من المشاريع الدولية وهي: ربط نهر النيل بنهر الكونغو، والتعاون مع إثيوبيا، واستكمال مشروع "قناة جونقلي"، ومشروع "بحر الغزال"، ومشروع "مستنقعات موشار"، ومشروع ربط بحيرة فيكتوريا بالبحر الأبيض المتوسط. ناقشنا في المقالات السابقة ربط نهري النيل بالكونغو، والتعاون مع إثيوبيا، واستكمال مشروع "قناة جونقلي"، وننتهي في هذا المقال من باقي المشاريع المقترحة لآخر بديل في هذا المحور.
تحسين إدارة المياه في مستنقعات موشار من شأنه أن يساهم في تعزيز تدفق المياه إلى مصر. كما أن المشروع يعكس جهود التعاون الإقليمي في مواجهة تحدّيات المياه، مما يساهم في تحقيق الأمن المائي في مصر ويعزّز من استدامة الموارد المائية في المنطقة. ما الذي يعطّل هذا المشروع؟
مشروع "بحر الغزال"
بحر الغزال أو نهر الغزال هو أحد الأنهار في جنوب السودان حيث يشكّل أهم الشرايين للنيل الأبيض، ويقع في منطقة أطلق عليها الاسم نفسه، "بحر الغزال". وهو ينشأ من التقاء بحر العرب ونهر الجور بالقرب من قرية وانك كاى جنوب غرب بنتيو، ويبلغ طوله نحو 716 كيلومتراً. ويجري عبر مستنقعات سود إلى بحيرة نو في المكان الذي يلتقي فيه بالنيل الأبيض.
هذا المشروع سيقام جزء منه في شمال "بحر الغزال" وجزء في جنوبه. تشكّل أرض حوض شمال "بحر الغزال" مستنقعاً ضخماً تجري فيه المياه ببطء مما يؤدي إلى فقد معظمها بالتبخّر. تبلغ مساحة "بحر الغزال" قرابة 521 كم مربع ويقوم المشروع في هذه المنطقة على أساس حفر قناة لتجميع هذه المياه في الجزء الشمالي من بحر الغزال وتوصيلها إلى النيل الأبيض. أما في جنوب "بحر الغزال"، فيهدف هذا المشروع أيضاً إلى حفر قناة لتجميع مياه الأنهار في جنوب
منطقة "بحر الغزال" ثم يتجه شرقاً إلى بحر الجبل عند قرية شامبي وتقدّر كمية المياه المتصرّفة في النقطتين الشمالية والجنوبية بنحو 12 مليار متر مكعب سنوياً.
الجدير بالذكر أن جمهورية جنوب السودان تضم عدداً من القبائل الأفريقية ومنها على سبيل المثال القبائل النيلية مثل الدينكا والنوير والشيرلوك والشلك والأشولي والجور، وقبائل نيلية حامية مثل الباريا واللاتوكا والمورلي، وقبائل سودانية بانتوية مثل الزاندى والفرتيت. ويقدّر سكان جنوب السودان بما يقارب 11 مليوناً ولا يوجد تعداد دقيق للجماعات العرقية هناك إلا أنه يُعتقد أن أكبر جماعة عرقية هي الدينكا تليها النوير، ثم الشلك والزاندي. ولذلك، فإيجاد توافق بين هذه القبائل سيكون عنصراً هاماً في العمل على هذا المشروع.
مشروع "مستنقعات موشار"
تسمى هذه المنطقة بـ"مستنقعات موشار" أو "مشار". وتقع في ولاية الوحدة في جنوب السودان، بالقرب من الحدود مع إثيوبيا. تشكّل هذه المستنقعات جزءاً من نظام بيئي معقد يضم العديد من الأنهار والقنوات المائية، ويعتبر حوض نهر السوباط أحد الروافد الرئيسية لنهر النيل. تغطي المستنقعات مساحة واسعة وتلعب دوراً حيويّاً في التنوع البيولوجي للمنطقة، بالإضافة إلى كونها مصدراً هاماً للمياه والزراعة للمجتمعات المحلية.
يعد "ربط بحيرة فيكتوريا بالبحر الأبيض المتوسط" من المشاريع الهامة الأخرى على صعيد القارة الأفريقية كلها إذ يمكن أن يساعد دول حوض النيل على استخدام النقل النهري كطريقة نقل آمنة بدلاً من الطرق، ما يوفر كثيراً في استخدام الوقود، ويقلّل من تكلفة صيانة الطرق، ويقلّل أيضاً من الاختناقات المرورية والتلوث البيئي
يهدف هذا المشروع إلى إدارة وتطوير المستنقعات وحوض نهر السوباط في جنوب السودان. يركز المشروع على جمع الفاقد من المياه بهذه المنطقة، حيث يفقد نهر السوباط ما يعادل نحو 4 مليارات متر مكعب من المياه. وذلك من خلال تطوير نظم لجمع وتخزين المياه المتبخّرة أو المتسرّبة. يسعى المشروع إلى تحسين إدارة الموارد المائية، وهو ما يعد خطوة حيوية لمواجهة تحديات الأمن الغذائي والتغير المناخي. وكذلك فإن العمل على إنشاء قنوات ومرافق لجمع المياه وتوزيعها، سيعزّز الإنتاج الزراعي، وبالأخص الزراعة المستدامة، ويساعد المجتمعات المحلية على تحقيق اكتفائها الذاتي ويسهم في تحسين سبل العيش فيها. ومن المتوقع أن يؤدي هذا المشروع إلى زيادة الإنتاجية الزراعية وتحسين مستوى المعيشة، مما يعزّز الأمن الغذائي ويخلق فرص عمل جديدة لسكان المنطقة.
وكذلك، فإن تحسين إدارة المياه في مستنقعات موشار من شأنه أن يساهم في تعزيز تدفق المياه إلى مصر. كما أن المشروع يعكس جهود التعاون الإقليمي في مواجهة تحدّيات المياه، مما يساهم في تحقيق الأمن المائي في مصر ويعزّز من استدامة الموارد المائية في المنطقة.
ولإتمام هذا المشروع يجب على دول المصب الإنتهاء من الدراسات التي تشمل الأنشطة المنفّذة في إطار المشروع، وتحليل البيئة المحلية لتقييم تأثير المشروع على التنوع البيولوجي، بالإضافة إلى تقديم برامج تدريبية للمزارعين حول أساليب الزراعة المستدامة.
مشروع ربط بحيرة فيكتوريا بالبحر الأبيض المتوسط
يعد هذا المشروع من المشاريع الهامة الأخرى على صعيد القارة الأفريقية كلها، وهو مشروع ربط بحيرة فيكتوريا بالبحر المتوسط، وهو المشروع الذي يربط شمال القارة الأفريقية بجنوبها، ويبدأ من بحيرة فيكتوريا، ومنها يمر ببقية البحيرات الاستوائية في أوغندا، ويصل إلى حدود السودان، ثم السد، والنيل الأبيض، ويستمر ليلتقي بنهر السوباط ثم النيل الأزرق، ونهر عطبرة، ووادي حلفا، وسد مروة في السودان، ثم يصل إلى بحيرة ناصر في أسوان، ومنها يتحرك شمالاً حتى يصل إلى البحر الأبيض المتوسط، وميناء الإسكندرية عبر فرع رشيد، أو ميناء دمياط عبر فرع دمياط في مصر.
يمكن لهذا المشروع أن يساعد دول حوض النيل على استخدام النقل النهري كطريقة نقل آمنة بدلاً من الطرق، لنقل البضائع المختلفة أو الأفراد، مما يوفر كثيراً في استخدام الوقود، ويقلّل من تكلفة صيانة الطرق، ويقلّل من الاختناقات المرورية والتلوث البيئي، إلا أن هذا يتطلّب إجراءات تحسين على طول مجرى النيل وتأهيل للمجري لمسافة تزيد على 6600 كم. كما يستلزم إنشاء عدد من الأعمال الصناعية للتغلب على العوائق الطبيعية للممر الملاحي وتأهيل عدد من الموانئ النهرية القائمة وإنشاء عدد جديد منها ودعم النقل المتعدد الوسائط في بعض المناطق، وإنشاء عدد من مراكز التدريب المتخصصة في مجال النقل النهري، بالإضافة إلى تطوير أسطول الملاحة بالدول المشاركة.
يمكن أن يسهم هذا المشروع في تعزيز العلاقات بين مصر وبقية دول حوض النيل، بما ينعكس بشكّل إيجابي على الديناميكيات الإقليمية وتبادل الموارد المائية الوفيرة في العديد من الدول الأفريقية. كما يمثّل وسيلة فعّالة لربط دول حوض النيل بالبحر الأبيض المتوسط والدول الأوروبية، ويعزّز من فرص التعاون بين القارتين الأفريقية والأوروبية في المستقبل، ويدعم النشاط التجاري والسياحي، مما يؤدي إلى زيادة الإيرادات الوطنية لدول حوض النيل. علاوة على ذلك، يوفر هذا الممر إمكانية للبلدان الحبيسة للاستفادة من الموانئ الدولية للدول الساحلية. ويعتبر محوراً للتنمية في مجالات متعددة مثل الزراعة والصناعة والنقل والسياحة على طول الممر الملاحي، بما يتيح للدول الأعضاء الوصول بشكّل أفضل إلى الأسواق الإقليمية والدولية.
يمكن أن يسهم هذا المشروع في تعزيز العلاقات بين مصر وبقية دول حوض النيل، بما ينعكس بشكّل إيجابي على الديناميكيات الإقليمية وتبادل الموارد المائية الوفيرة في العديد من الدول الأفريقية. كما يمثّل وسيلة فعّالة لربط دول حوض النيل بالبحر الأبيض المتوسط والدول الأوروبية
الجدير بالذكر أن آخر بدائل هذا المحور يستلزم عملاً على الصعيد الدولي بين مختلف دول حوض النيل وكذلك بعض الدول الأفريقية الأخرى. ويجب أن تسود روح التعاون والاحترام المتبادل لإرساء الأمن والاستقرار والازدهار في المنطقة. كما يتطلّب تعزيز هذه الروح التفاعل الإيجابي بين دول حوض النيل والدول الأفريقية حيث يمكن للاجتماعات والمبادرات المشتركة أن تسهم في بناء الثقة وتبادل المعرفة والخبرات. من خلال التعاون في مجالات إدارة الموارد المائية، والتنمية الزراعية، ومواجهة التحديات البيئية، يمكن للدول أن تعمل معًا لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، بما يعود بالنفع على جميع الأطراف. تعزيز الحوار المفتوح وتطبيق المبادئ السليمة للتعاون الدولي يساعدان في تذليل العقبات ويعزّزان من فرص تحقيق تقدم شامل في المنطقة.
بذلك نكون انتهينا من مناقشة أول محور في التعامل مع قضية ندرة المياه في مصر. إذ ناقشنا كل بدائل المياه الممكن لمصر استخدامها. ويجب هنا أن ننوه بأن التعامل مع مصادر المياه غير المتجدّدة يجب أن يتم بحرص، حتى لا يقضي على فرصة الأجيال القادمة في الاستفادة من المياه. وكذلك تم مناقشة اختلاف تكلفة تلك البدائل حيث قمنا بتصنيفها من الأقل تكلفة إلى الأكثر. وسنبدأ في المقال المقبل مناقشة محور جديد من المحاور المطروحة لتقديم حلول أخرى مستدامة وإستراتيجيات متكاملة للتعامل مع مشكّلة ندرة المياه في مصر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...