بدَأنا في المقالات السابقة طرح حلول مقترحة مستدامة وإستراتيجيات متكاملة للتعامل مع مشكلة ندرة المياه في مصر على مجموعة من المحاور التي بدأناها بالمحور الخاص بإيجاد مصادر مياه بديلة لمياه نهر النيل. إذ ناقشنا بالفعل بدائل مثل الأمطار والفيضانات والمياه الجوفية وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي وتحلية مياه البحر.
ونستكمل في هذا المقال مناقشة آخر بدائل الموارد المائية لمصر وهو الخاص بدراسة المشاريع المقترحة لإنشاء شبكات مياه جديدة وربطها بالدول الأخرى أو إقامة مشاريع جديدة تهدف إلى الحصول على المياه من دول أخرى.
سأطرح في مناقشة هذا البديل مجموعة من المشاريع وهي: ربط النيل بنهر الكونغو، والتعاون مع إثيوبيا، واستكمال مشروع "قناة جونقلي"، ومشروع "بحر الغزال"، ومشروع "مستنقعات مُشار"، ومشروع ربط بحيرة فيكتوريا بالبحر الأبيض المتوسط.
وهذه المشروعات مشروعات قومية، تستلزم التعاون مع دول حوض نهر النيل والدول الأفريقية لتنمية الموارد المائية المصرية من خلال تنفيذ مشاريع أعالي النيل والتي تهدف إلى خفض فواقد نهر النيل، وكذلك استغلال أنهار أخرى في القارة الأفريقية، وإقامة مشاريع تنمية، مما سيعود على القارة كلها بالرخاء والازدهار.
1- نهر الكونغو
كان نهر الكونغو يُعرف قديماً باسم نهر زائير، وهو ثاني أطول نهر في أفريقيا بعد نهر النيل، والأهم من ذلك أنه ثاني أكبر نهر في العالم من حيث حجم التدفق، بعد نهر الأمازون. يتدفق هذا النهر من منابعه في الكونغو إلى المحيط الأطلسي، دون أن يستخدمه أحد تقريباً. يمتد حوض نهر الكونغو عبر تسع دول هي أنغولا وبوروندي والكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية الكونغو ورواندا وتنزانيا وزامبيا. يحمل نهر الكونغو نحو 1450 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، وهو ما يزن ما يقارب من 17 ضعف الكمية السنوية من المياه التي تتدفق في نهر النيل. يستمر تدفق النهر بانتظام طوال العام بسبب امتداده إلى الشمال والجنوب من خط الاستواء. يجلب هذا الامتداد أمطارًا موسمية من كلا الجانبين. ويعتبر النهر صالحاً للملاحة في معظم الأماكن، مع بعض الاستثناءات القليلة.
ربط النيل بنهر الكونغو، والتعاون مع إثيوبيا، واستكمال مشروع "قناة جونقلي"، ومشروع "بحر الغزال"، ومشروع "مستنقعات مُشار"، ومشروع ربط بحيرة فيكتوريا بالبحر الأبيض المتوسط… جميعها مشروعات قومية توفر بدائل مهمة لموارد المياه في مصر. لكن إلى أي درجة قد تنجح؟
أول من طرح فكرة ربط نهري النيل والكونغو هو السير ويليام إدموند غارستين في تقريره المفصل المثير للإعجاب عن نهر النيل في عام 1904، تحت عنوان "تقرير عن حوض النيل الأعلى مع مقترحات لتحسين ذلك النهر". ولا يزال هذا التقرير مرجعاً مهماً لحوض النيل.
تم تقديم عدة مقترحات لخط الربط بين النهرين. ولكن اتفق معظم الخبراء على أن أفضلها من حيث إمكانية التنفيذ والتكلفة هو حفر قناة بطول 600 كم، تربط جنوب السودان بشماله ثم ببحيرة ناصر (خزان السد العالي). هذه القناة تمتد بارتفاع 200 متر مما يستلزم إنشاء أربع محطات لرفع المياه على طول مجرى هذه القناة. هناك فوائد عديدة لتنفيذ هذه القناة وربط نهري النيل والكونغو، وهي:
أولاً، حجم تصريف نهر الكونغو الضخم من شأنه أن يحافظ على الأمن المائي المصري ويحل أزمة ندرة المياه المصرية في السنوات المقبلة. وكذلك، يزيد إمدادات المياه العذبة إلى دول حوض النيل مثل السودان أيضاً.
ثانياً، سيؤدي هذا المشروع إلى إنتاج كميات هائلة من الطاقة الكهرومائية، مما سيساعد الدول الثلاث (مصر والسودان والكونغو) على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة. كما سيحوّل الكونغو إلى واحدة من أكبر مصدري الطاقة في العالم.
ثالثاً، سيحسن بشكل كبير ظروف القطاع الزراعي المصري ويسمح بالتوسع الزراعي، مما سيؤدي بدوره إلى زيادة الإنتاج الغذائي المصري والحفاظ وتعزيز الأمن الغذائي.
رابعاً، سيسهم هذا الربط في توفير فرص جديدة للاستثمار والتنمية الاقتصادية، مما يعزز من قدرة دول حوض النيل والكونغو على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
الجدير بالذكر أن القوانين الدولية واتفاقيات دول حوض النيل لا تمنع الربط بين النهرين، إلا في حالة رفض الكونغو. على العكس تماماً، هناك بند في القانون الدولي يُتيح للدول الفقيرة مائياً، مثل مصر، أن تُعلن فقرها المائي من خلال إعلان عالمي ويحق لمصر حينها سحب المياه من أي دولة حدودية أو متشاطئة معها غنية بالمياه، مثل الكونغو، بعد الاتفاق معها. وقد أعلنت الكونغو في سنين سابقة موافقتها المبدئية على فكرة المشروع.
هناك بند في القانون الدولي يُتيح للدول الفقيرة مائياً، مثل مصر، أن تُعلن فقرها المائي من خلال إعلان عالمي ويحق لمصر حينها سحب المياه من أي دولة حدودية أو متشاطئة معها غنية بالمياه، مثل الكونغو، بعد الاتفاق معها. وقد أعلنت الكونغو في سنين سابقة موافقتها المبدئية على فكرة مشروع ربط نهري النيل والكونغو
والجدير بالذكر أيضاً أن هناك بعض الاعتبارات والمخاوف الأخرى التي يجب أخذها في الاعتبار عند تنفيذ هذا المشروع، وهي:
أولاً، اتجاه مياه نهر الكونغو هو الإتجاه المعاكس لنهر النيل. يتدفق نهر الكونغو إلى الغرب بعيداً عن النيل. هناك حاجة لإنشاء قناة جديدة لإعادة توجيه جزء من هذه المياه للالتفاف والتوجه إلى الشمال الشرقي للقاء نهر النيل. وما زالت هناك حاجة لمزيد من الدراسات لإيجاد أفضل طريقة لإعادة توجيه هذه المياه.
ثانياً، سيمر هذا المشروع عبر العديد من البلدان، بعضها يعاني من اضطرابات سياسية واجتماعية. قد يجعل ذلك من الصعب تأمين وحماية المنشآت والعمال. للتغلب على هذا التحدي، يجب على مصر تقديم الدعم لهذه الدول في إنشاء مجتمعات جديدة في هذه المناطق، وإعادة توجيه الاستثمارات المصرية لتمهيد الطريق لتحقيق مكاسب كبيرة وطويلة الأمد قد تكون مفيدة للغاية. إن إنشاء هذه المجتمعات الحضرية الجديدة من شأنه أن يعزز حماية المشروع، خاصة إذا كان العمال من السكان المحليين. إذ إن مشاريع التنمية التي تحظى بقبول المجتمع المحلي يمكن أن تسفر عن نتائج هائلة.
ثالثاً، تقديرات دراسات هذا المشروع تُظهر أن هذا الربط قد يزيد من تدفق مياه النيل بمقدار 100 إلى 120 مليار متر مكعب/ سنة. وهذا أكثر من ضعف كمية المياه التي تستقبلها مصر سنوياً. وحجم مجاري الأنهار في السودان لا يستطيع أن يحمل كل هذه الزيادة في كمية المياه. وفي رأيي أن هذه هي العقبة الكبرى في طريق تنفيذ هذا المشروع. وهناك طريقتان مختلفتان للتعامل معها. الأولى هي توسيع مجاري الأنهار في السودان بزيادة عرضها أو عمقها، وهذا يحتاج إلى بعض الوقت والتكلفة للتخطيط والتنفيذ. أما الطريقة الثانية فهي إنشاء بعض السدود في السودان لتخزين المياه، والتي يمكن لمصر استخدامها مؤقتاً لحين الانتهاء من أعمال التوسعة، من خلال استئجار بعض الأراضي السودانية لزراعة المحاصيل.
يجب إجراء دراسات كافية لمعرفة كيفية تأثير التغيرات في تدفق المياه على البيئة المحلية والتنوع البيولوجي، مع مراعاة احتياجات المجتمعات المحلية وتطلعاتها.
يُعتبر مشروع ربط نهر النيل بنهر الكونغو واحداً من أكبر المشاريع المائية الطموحة في أفريقيا، حيث يهدف إلى تحقيق تكامل مائي واقتصادي بين دول حوض النيل ودول حوض الكونغو. من خلال هذا المشروع، يمكن تحسين إدارة الموارد المائية وتعزيز التنمية المستدامة في المنطقة، مما يسهم في تلبية احتياجات المياه المتزايدة والنمو السكاني. بشكل عام، قد يكون هذا مشروعاً واعداً للغاية. ومع ذلك، لا يزال هناك الكثير من الدراسات التي يتعين إجراؤها حتى يمكن تبنيه وتنفيذه بالكامل في المستقبل.
2-التعاون مع إثيوبيا
علي العكس من مصر، تمتلك إثيوبيا العديد من مصادر الموارد المائية. ويمكن وصف هذه الموارد بأنها سخيّة للغاية، مع وجود العديد من الأنهار الرئيسية والبحيرات والمياه الجوفية، وهطول الأمطار السنوي المرتفع. ويوفر اثنا عشر حوضاً رئيسياً 124.4 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، وتساهم 12 بحيرة كبيرة، أكبرها بحيرة تانا بمساحة 3600 متر مربع، بنحو 70 مليار متر مكعب من المياه، في حين تشكل موارد المياه الجوفية 30 مليار متر مكعب.
في حين يبلغ متوسط هطول الأمطار السنوي في إثيوبيا نحو 848 ملم سنوياً وينتج 936 مليار متر مكعب سنوياً. وتنقسم الأحواض الرئيسية إلى 8 أحواض أنهار، و3 أحواض جافة بدون تدفق كبير، وحوض بحيرة واحد. توجد منطقة المرتفعات الواسعة في قلب أراضي إثيوبيا، وتخدم شبكة الأنهار الثلاثة الرئيسية، النيل وأواش وأومو. علاوة على ذلك، تعتبر إثيوبيا من منابع المياه العليا لثلاثة أنهار هي النيل والقاش وجوبا شبيلي.
يمكن لمصر وإثيوبيا تعزيز التعاون في مجال إدارة الموارد المائية، بما يتيح تبادل المعرفة والتقنيات اللازمة لتطوير مشاريع مشتركة. يمكن أن تشمل هذه المشاريع بناء السدود أو محطات المياه التي تستفيد من الموارد في إثيوبيا. ولكن مع توتر العلاقات بين البلدين يصبح هذا الحل صعب المنال، إلا لو قرر البلدان العمل معاً
فكما نرى هذا الفائض الكبير من المياه يمكن استغلاله من خلال إنشاء شبكة ربط لنقل المياه الإثيوبية إلى مصر. إذ يمكن تنفيذ مشاريع ضخمة لنقل المياه عبر أنابيب أو قنوات. تتطلب هذه المشاريع دراسة دقيقة لتحديد المسارات المناسبة والتقنيات المطلوبة لضمان نقل المياه بكفاءة.
المشكلة الكبرى في هذا الطرح أنه يستلزم تعاوناً ثنائياً وثيقاً. يمكن لمصر وإثيوبيا تعزيز التعاون في مجال إدارة الموارد المائية، مما يتيح تبادل المعرفة والتقنيات اللازمة لتطوير مشاريع مشتركة. يمكن أن تشمل هذه المشاريع بناء السدود أو محطات المياه التي تستفيد من الموارد في إثيوبيا. ولكن مع توتر العلاقات بين البلدين يصبح هذا الحل صعب المنال، إلا إدا قررت مصر وإثيوبيا العمل معاً على تطوير إستراتيجيات متكاملة ومستدامة لإدارة مصادرهم الطبيعية.
نستكمل في المقال المقبل باقي المشاريع المقترحة لإنشاء شبكات مياه جديدة وربطها بالدول الأخرى أو إقامة مشاريع جديدة تهدف للحصول على المياه من دول أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...