بدَأنا في المقالات السابقة طرح حلول مقترحة مستدامة واستراتيجيات متكاملة للتعامل مع مشكلة ندرة المياه في مصر على مجموعة من المحاور والتي بدأناها بالمحور الخاص بإيجاد مصادر مياه بديلة لمياه نهر النيل. وناقشنا بدائل مثل مياه الأمطار والفيضانات، المياه الجوفية، وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي، وتحلية مياه البحر، والمشاريع المقترحة لإنشاء شبكات مياه جديدة وربطها بالدول الأخرى أو إقامة مشاريع جديدة تهدف للحصول على المياه من دول أخرى.
والبديل الأخير يتضمّن مجموعة من المشاريع وهي: ربط نهر النيل بنهر الكونغو، والتعاون مع إثيوبيا، واستكمال مشروع "قناة جونقلي"، ومشروع "بحر الغزال"، مشروع "مستنقعات موشار"، ومشروع ربط بحيرة فيكتوريا بالبحر الأبيض المتوسط. ناقشنا في المقال السابق ربط نهري النيل بالكونغو، والتعاون مع إثيوبيا. وسنستكمل اليوم من حيث توقّفنا.
استكمال مشروع قناة جونقلي
النيل الأبيض، أحد الروافد الرئيسية لنهر النيل، يتدفّق من بحيرة فيكتوريا في شرق أفريقيا ويستقبل المياه عند التقاء نهر السوباط وبحر الغزال في منطقة السُد التي هي منطقة مستنقعات شاسعة في منطقة بحر الجبل، جنوب السودان. وتُعد المياه المفقودة من نهر النيل، من النيل الأبيض، في هذه المنطقة هي الأكبر في الكمية، حيث تقدّر بنحو 14 مليار متر مكعب/سنة، بسبب النتح والتبخّر في المستنقعات وتياراتها البطيئة. تقدّر مساحة هذه المنطقة بنحو 5 إلى 8 آلاف كيلومتر مربع.
يهدف مشروع قناة جونقلي إلى تحويل مجرى مياه النيل الأبيض من خلال شق قناة تربط بين مدينتي بور وملكال في المنطقة الجنوبية من السودان، وبذلك تتجاوز منطقة المستنقعات إلى شرق السُد. لكن الكثير من المزايا وأيضاً التحدّيات تنتظر هذا المشروع. إليكم/ن أهمها
يهدف مشروع قناة جونقلي إلى تحويل مجرى مياه النيل الأبيض من خلال شق قناة تربط بين مدينتي بور وملكال في المنطقة الجنوبية من السودان، وبذلك تتجاوز منطقة المستنقعات إلى شرق السُد، وهو ما يترتّب عليه تقليل فقدان المياه عن طريق النتح والتبخّر في منطقة المستنقعات والأراضي الرطبة بسبب الطبقة السميكة من النباتات العائمة التي تغطي المنطقة وتعوق حتّى حركة الملاحة. تُحول هذه القناة مياه النهر من مستنقعات بحر الجبل، وتتصل بتقاطع نهر السوباط والنيل الأبيض في بلدة صغيرة جنوب ملكال.
وفقاً لاتفاقية عام 1959 بين مصر والسودان، يجب تقسيم هذه المياه الإضافية بالتساوي بين كلتي البلدين في حال اكتمال إنشاء قناة جونقلي. ولكن بعد إعلان جمهورية جنوب السودان استقلالها من السودان في عام 2011، فيجب الآن أن يتم التنسيق للعمل في هذه القناة بين الثلاث دول مع مصر، وجمهورية السودان، وجمهورية جنوب السودان.
يتميّز نوع التربة المحيطة بمنطقة قناة جونقلي بأنها طينية، وطمييّة/بحيريّة، وهي تأتي من الرواسب في مجرى نهر النيل. هذه منطقة عالية الخصوبة للغاية. ومع ذلك، فهي أيضاً ذات صفات تصريف رديئة ويصعب العمل بها يدوياً. تؤدي هذه الصفات الرديئة إلى تربة مُشبّعة ومليئة بالمياه، ما يؤدي بدوره إلى ذوبان المعادن ويتسبّب في تلوث التربة.
ويمكن أن يؤثّر هذا أيضاً على نمو المحاصيل المنخفضة الاستهلاك للمياه بسبب غرق جذورها. ومع ذلك، يمكن التغلّب على هذه التحدّيات الزراعية من خلال تنفيذ أنظمة الصرف السطحي أو من خلال تقنيات زراعية معروفة تعمل بأسلوب معين على التربة وحرثها. ويزيد موسم الأمطار الأمر سوءاً، بين أيار/ مايو وأيلول/ سبتمبر. ويتسبب في حدوث فيضانات في المنطقة بما يعوق الزراعة والتجارة خلال هذا الموسم.
وطرحت فكرة هذا المشروع لأول مرة عام 1901. ومع ذلك، لم يتم وضع الخطط الرسمية للتنفيذ والإعلان عنها إلا في نيسان/ أبريل 1974. وفقاً للخطّط، يبلغ طول القناة 360 كم، ويتراوح العرض بين 28 إلى 50 متراً، ويتراوح المنحدر من 7.0 إلى 12.5 سم/ كم، ويتراوح العمق من 4 إلى 7 أمتار. تضمّنت الخطط أربع نقاط عبور وكذلك عَبَّارات بمحركات (العَبَّارة هي قارب صغير ينقل الركاب، وأحياناً المركبات والبضائع، عبر مسطح مائي).
طرحت فكرة هذا المشروع لأول مرة عام 1901. ومع ذلك، لم يتم وضع الخطط الرسمية للتنفيذ والإعلان عنها إلا في نيسان/ أبريل 1974. وبدأ بالفعل العمل عليه عام 1980 واضطر إلى التوقّف في عام 1983 بسبب اندلاع الحرب الأهلية السودانية، بعد أن تمّ حفر 260 كيلومتراً من إجمالي 360 كيلومتراً
القناة صالحة للملاحة أيضاً بواسطة السفن النهرية. تقلّل هذه القناة الطريق من جوبا إلى ملكال بمقدار 300 كم. بدأ بالفعل العمل في هذه القناة في عام 1980 واضطر إلى التوقّف في عام 1983 بسبب اندلاع الحرب الأهلية السودانية، بعد أن تمّ حفر 260 كيلومتراً من إجمالي 360 كيلومتراً. واستهدفت الحركة المُسلحة الحفارة التابعة للشركة الفرنسية المنفذة للمشروع وقتها.
وهناك الكثير من الجوانب الإيجابية لهذا المشروع، وخصوصاً المتعلِّقة بالتنمية الاقتصادية والصناعة، وهي على النحو التالي:
-
أظهرت دراسات أن هناك خسارة ضخمة للمياه في منطقة السُد، تقدّر بنحو 50% من إجمالي تدفّق النيل الذي يمر بهذه المنطقة. وبالتالي، فإن إنشاء هذه القناة سيمكّن من إنقاذ كم مياه كبيرة من خلال تقليل الفاقد، وهو ما يقارب من 7 مليارات متر مكعب.
-
ستعمل هذه القناة على تحسين الحركة والتنقل والتجارة في المنطقة من خلال السماح بالملاحة عبر القناة في جميع المواسم، وخاصة في مواسم الأمطار حيث يكون استخدام وسائل النقل الأخرى أكثر صعوبة.
-
سوف تعزّز فرص التطور والتنمية في المنطقة، حيث يمكن معها استيراد وتصدير سلع أقل في التكلفة وبوفرة أكثر إلى مناطق أعالي النيل ومنطقة جونقلي.
-
سوف توفّر للمنطقة استيراد وتصدير سلع غذائية أقل تكلفة، وخاصة في موسم الأمطار، عندما يكون الغذاء محدوداً ومكلِّفاً للغاية، بما سيحافظ على الأمن الغذائي.
-
لا ينبغي أيضاً إغفال الفوائد التي ستعود على قطاع الزراعة. حيث تعاني المنطقة الآن من محدودية توفر المياه في حين أن التوفّر المستمر للمياه العذبة سوف يسمح بإقامة مشاريع زراعية واسعة النطاق، والتي عندما تتم مع إمكانية إستخدام الميكنة الزراعية وجود التربة الخصبة سوف تؤدي إلى إنتاج كميات كبيرة من المحاصيل.
وعلى صعيد آخر، كانت هناك بعض المخاوف والتحدّيات التي تتعلّق بالثقافة والبيئة والأوضاع في هذه المنطقة على النحو التالي:
-
هناك تصوّر سائد بأن القناة ستؤثّر على الظروف الاجتماعية والبيئية في المنطقة، حيث ستغير هذه القناة نمط الحياة التقليدي والمناظر الطبيعية للمنطقة بأكملها.
-
استولت الحكومة السودانية في سبعينيات القرن الماضي على مساحات كبيرة من الأراضي من القبائل السودانية، والتي كانت مطلوبة لتنفيذ القناة. لا تزال الحكومة تمتلك الأراضي. ومع ذلك، حتّى الآن، لم يتم تعويض هذه القبائل مادياً، ما أدى إلى تأجيج الغضب من المشروع على مر السنين. مثل هذا الوضع لا يخدم إلا المزيد من التوترات وعدم الثقة والدعاية السيئة للمشروع.
-
انخرط العديد من الأطراف المشاركة في هذا المشروع في تقديم معلومات مضلّلة لأهداف سياسيّة مختلفة. كانت هناك نسختان من خطط ورسومات هذه القناة. كانت الأولى لسعة قناة تبلغ 55 مليون متر مكعب/ يوم مع تأثيرات بيئيّة واجتماعيّة شديدة، بينما كانت الثانية لسعة قناة تبلغ 25 مليون متر مكعب/ يوم مع تأثيرات بيئيّة مخفّفة. لا تزال هذه التفاصيل غير واضحة للسودانيين. واستندت مزاعم أخرى إلى أن مليوني مُزارع مصري سوف يعاد توطينهم في منطقة قناة جونقلي للعمل في الزراعة، وهو ما أثّر على قبول القبائل السودانية للمشروع.
-
سيؤدي تنفيذ القناة إلى تجفيف نهر السُد إلى حد ما، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى تجفيف الأراضي المغمورة بالمياه بشكل دائم أو موسمي. وتشمل بعض التأثيرات البيئية السلبيّة الأخرى التغيّرات في توافر الأسماك، والتغيّر في عادات الرعي للماشية.
ويُعتقدُ على نطاق واسع في الدوائر الأكاديمية المرتبطة بالملف، أن مشروع القناة لم يعدْ يحظى بأولويةٍ ضمن المشروعات المائية للبلدان الثلاث بسبب المعوّقات أمام إتمام مشروع قناة جونقلي، لكن الحاجة الملحة لتوفير المياه قد تُعيدُ إحياء قناة جونقلي. بل على العكس، استكمال هذا المشروع لا بد وأن يتم على وجه السرعة، بعد هدوء الأوضاع في السودان. وقد يكون من المفيد في مثل هذا الموقف أن نأخذ في الاعتبار النقاط التالية إذا كنا نريد المضي قدماً:
-
أولاً، ينبغي من تقديم التعويضات المادية للقبائل السودانية المتضررة، والتي كانت تمتلك الأراضي التي تم الاستيلاء عليها من قبل الحكومة السودانية. ويجب أن تقوم مصر بالدفع في هذا الاتجاه.
-
ثانياً، يجب أن تُدشن الحكومة المصرية حملات إعلامية على نطاق واسع في جنوب السودان لتنقية الأجواء ونشر معلومات واضحة عن المشروع فضلاً عن إشراك الشعب السوداني في عملية صنع القرار، ومعالجة مقاومة التغيير.
استولت الحكومة السودانية في سبعينيات القرن الماضي على مساحات كبيرة من الأراضي من القبائل السودانية، والتي كانت مطلوبة لتنفيذ القناة. لا تزال الحكومة تمتلك الأراضي. ومع ذلك، حتّى الآن، لم يتم تعويض هذه القبائل مادياً، ما أدى إلى تأجيج الغضب من المشروع على مر السنين
-
ثالثاً، من المهم أن تقوم الحكومة المصرية بإنشاء مراكز ثقافية مصرية بالمنطقة، بالإضافة إلي مراكز خدمية ومستشفيات لتوطّد أواصر العلاقات بين المصريين والقبائل السودانية هناك. وبالتالي، إنشاء وتقوية الأواصر والعلاقات الأسرية والاجتماعية التي تذيب الفوارق وتُنشيء بيئة مُرحّبة بالمشروع.
-
رابعاً، من الضروري الاستفادة من الأراضي الصالحة للزراعة الجديدة، والتي ستنتج عن تجفيف بعض الأراضي المغمورة بالمياه، بما يتيح إمكانيات زراعية جديدة. وقد أظهرت الدراسات الأخيرة التي أجريت مع المشروع المنقح أن أي آثار سلبية متبقية يمكن التخفيف منها.
هذا المشروع يستلزم تعاوناً ثلاثياً وثيقاً بين مصر، والسودان، وجنوب السودان، وهو ما لا يمكن الزجّ به في الوضع الراهن بعد تجدّد الحرب الأهلية مرة أخرى في السودان وتأجّج الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منتصف نيسان/ أبريل 2023. ولكن يمكن العمل عليه لاحقاً بعد هدوء الأوضاع.
ونستكمل في المقال القادم باقي المشاريع المقترحة لإنشاء شبكات مياه جديدة وربطها بالدول الأخرى أو إقامة مشاريع جديدة تهدف للحصول على المياه من دول أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Nahidh Al-Rawi -
منذ 11 ساعةتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
Tester WhiteBeard -
منذ 13 ساعةkxtyqh
بلال -
منذ 23 ساعةحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ 5 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.