شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
هل يعرف

هل يعرف "كركشنجي" عدوية عمّي "الكرشكنّي"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 23 يناير 202511:33 ص

رحل الأب الروحي للفن الشعبي المصري! لم يرافقنا في العبور نحو الـ 2025. طوى آخر صفحات حياته مع انطواء آخر صفحة من الـ 2024، يوماً واحداً قبل نهايتها.

فاتني خبر وفاة المطرب الشعبي المصري أحمد عدوية، في خضم الانشغال بانصراف السنة الفائتة، مع كل ما حملته معها من ثقلٍ وأحزان على الصعيد العربي. لم أعرف برحيله إلا بعد أن أنهكت من الرقص على وقع مزيجٍ من أجمل أغانيه على موقع يوتيوب. جلست لألتقط أنفاسي، فقادتني حشريتي إلى البحث عن سنّه، لأعرف أنه توفي بعد فترة من المرض عن عمر يناهز التاسعة والسبعين، وقد أعلن نجله، الفنان محمد عدوية، الخبر عبر صفحته على موقع فيسبوك.

كنت أود لو رحل عدوية وهو يعرف كم كان البعض منا يحبه. كم انتشلتني أغانيه من طيف كآبةٍ مقبل. وددت لو رحل مدركاً حجم الأثر الذي تركه، ليس فقط في الموسيقى الشعبية إنما الأثر الذاتي فيّ وفي الكثيرين.

كان أحمد عدوية الصوت الشعبي الذي أسمعه وأنا أمشي في شوارع ألمانيا القاتمة شتاءً. كان حياةً كاملةً تتراقص في أذنيّ وأنا أمشي على طريقٍ لا أعرف فيه أحداً. كان حفلةً صاخبة لا يراها سواي، تعيش متخفية عن حياة بطيئة ومضجرة تحصل بالصدفة في الخارج.

ولد أحمد محمد مرسي العدوي، المعروف بعدوية، لعائلة صعيدية كبيرة سنة 1946. بدأ الغناء في المقاهي والحفلات، وسطع نجمه في السبعينيات في مصر والوطن العربي. وفي حين وجد ترحيباً من قبل نجوم آخرين في تلك الحقبة في مصر، إلا أن الإذاعة الرسمية المصرية منعت بثّ أغانيه تحت حجّة "إفساد الذوق العام"، في وقت كانت تطغى الأغنية الرصينة على الساحة الفنية المصرية. انطلق الفن الشعبي الذي قدمه عدوية من الأماكن الشعبية، من المقاهي ومحال العصير والتكاسي والأفراح، وفقاً لحديث الناقد الفني المصري طارق الشناوي لـ "بي بي سي عربي".

حتى وقت قريب، كان عدوية بالنسبة لي يُختصر في أغنية "بنت السلطان" التي لم تغب يوماً عن الأعراس اللبنانية، أحياناً بصوته وغالباً بصوت الفنان اللبناني راغب علامة الذي أعاد غناءها في الثمانينيات، ولاقت رواجاً كبيراً. تعمّقت صدفةً في "الفن العدوي" السنة الفائتة، حين حضرت عرض الفنانة مريم صالح على مسرح مترو المدينة في بيروت، غنّت فيه مروحة واسعة من أجمل أغانيه. وقد كانت أغنية "كركشنجي" مألوفة بالنسبة إليّ، إذ أعادت فرقة "الراحل الكبير" اللبنانية توزيعها وغناءها سنة 2019 تحت اسم "سبع لحاليح".

الكركشنجي وعمي الكرشكنّي

تجذّرت أغاني الفنان الشعبي في الموروث المصري. فهموم الناس وشؤونهم الحياتية، وطعامهم وأمثالهم الشعبية، والحيل اللفظية السائدة، كلها أحياها، بل يمكن القول "خلّدها" عدوية في أغانيه.

دهشتي الكبيرة كانت حين تعرّفت على أغنية "كركشنجي" للمرة الأولى، تلك الأغنية التي تثير كلماتها الاهتمام وتحثّ على البحث عن معانيها، والتي بدت مألوفة لي. وتقول الأغنية، وهي من كلمات الشاعر الشعبي حسن أبو عتمان، وتلحين الموسيقار محمد عصفور: "كركشنجي دبح كبشه. يا محلا مرقة لحم كبشه. عكشه فركش. نكشه طنش. ألشه ما تإلش". الأغنية أثارت ولا تزال تثير البلبلة حول معانيها. تقول الكثير من التفسيرات الرائجة إن الكركشنجي هو الرجل البسيط الذي يطوف على المحال صباحاً لتبخيرها، وأن الجملة تصف محاولاته المتكرّرة لذبح خروف امتلكه للمرة الأولى. في إحدى مقابلاته، يفسّر عدوية أن الكركشنجي هو الجزار الذي يذبح خروفه، وأن الأغنية تصف مراحل الذبح وتحضير الحساء.

كنت أود لو رحل عدوية وهو يعرف كم كان البعض منا يحبه. كم انتشلتني أغانيه من طيف كآبةٍ مقبل. وددت لو رحل مدركاً حجم الأثر الذي تركه، ليس فقط في الموسيقى الشعبية إنما الأثر الذاتي فيّ وفي الكثيرين

يطرح محمد الخازندار في مقاله على موقع "المنصة" رواية مختلفة، تقول إن الكاراكشان هم رعاة رحّل سكنوا جبال البلقان تحت حكم السيطرة العثمانية، وسميت أغنامهم بالاسم نفسه، ويرجّح الكاتب أن الكلمة دخلت الموروث الشعبي ومعها لفظت الـ "جي" التركية في آخر الكلمة، فاشتقت منها كلمة كركشنجي والحيلة اللفظية التي تلتها.

أما أكثر ما أثار دهشتي في الأغنية فهو شبهها بحيلة لفظية متوارثة في قريتي الشمالية في لبنان، تعلّمتها جدتي من والدتها وكانت تتحدانا لنكررها: "عمي الكرشكَنّي، دبح كبشه، وحطّ عكرش كبشه كشك. تط مط، ما أطيب كرش كبش عمي الكرشكَنّي"، والكرش هو أكلة شعبية في المطبخ اللبناني، وهي عبارة عن معدة كبش محشية، أما الكشك فهو لبن مجفّف، يصنع منه حساء شتوي، ويشتهر خصوصاً في المناطق الجبلية في لبنان ودول الجوار. بعد جولة على أصدقاء لبنانيين من مناطق مختلفة، لم يتعرّف أحد منهم على هذه العبارة، بحيث تختلف أحياناً الموروثات الشعبية اللبنانية بشكل جذري بين منطقة وأخرى. بدا واضحاً أنها تُردّد فقط في قرى من قضاء بشرّي في شمال لبنان، حيث يتنافس الأطفال فيما بينهم على تكرارها بسرعة من دون خطأ.

من الجلي أن العبارة المصرية الشهيرة، لها توأم لبناني، أما السؤال الذي يبقى من غير جواب فهو: لماذا يُتناقل هذا الموروث في قرى قضاء بشرّي شمال لبنان حصراً، في حين يتواجد في الوقت عينه في التراث الشعبي المصري؟ تختلف التفسيرات حول معاني أغنية عدوية وأصلها، إلا أن الاتفاق يسود على استنادها إلى حيلة لفظية في الموروث المصري، وأظنها تتعداه إلى موروث عربي، أو أقله لبناني شمالي، لأن جدتي وكثيرين آخرين في قريتي توارثوا النسخة اللبنانية منها قبل إنتاج الأغنية.

نار يا حبيبي نار

لم يقتصر الموروث في أغاني عدوية على أغنية "كركشنجي"، فتقول أغنية "ستو"، من كلمات الموسيقار فاروق سلامة وألحان أبو عتمان: "ستو بسبستلوه بسبوسة بالسمن والسكر والعسل. عسل وكسل يحوسة. عاطل ونايم فى العسل"، وهي تستند أيضاً إلى حيلة لفظية شعبية. علقت كلماتها في ذهني حتى زرت مصر، ودفعتني إلى تذوّق حلوى البسبوسة، وهي توأم "النمّورة" اللبنانية.

تفردت كلمات أغاني عدوية بغرابتها ومزيجها الصادم، على الرغم من أن من كتب كلمات أغانيه كتب أيضاً أغاني "مهذبة" لمطربي مصر، مثل الشاعر محمود الشناوي الذي كتب لفريد الأطرش ولأم كلثوم والموسيقار بليغ حمدي الذي تعاون مع نجوم مثل وردة الجزائرية وميادة الحناوي.

تستند أغنية "اتعلموها"، من كلمات أبو عتمان وألحان حسن أبو السعود، على وتر الأهازيج الشعبية أيضاً، فتقول كلماتها: "دا هواكم سرجي مرجي، لا حكيم ولا تمرجي"، مستوحاةً من الأهزوجة: "واحد اتنين سرجي مرجي، أنت حكيم والّلا تمرجي"، وتقول مصادر إن الأهزوجة الفولوكلورية تعود إلى أيام المماليك في مصر، وسرجي هو مختصر كنيسة سرجيوس، ومرجي مختصر لمار جرجس، حيث كانت كنيسة الشهيدين سرجيوس ومارجرجس في مصر القديمة مقصداً للفقراء للطعام والطبابة، والتمرجي كان مساعداً للطبيب، أي بمثابة الممرض.

أما أغنية "السح الدح امبو"، فقد شكلت بكلماتها الساذجة والطريفة، علامة فارقة في مسيرة عدوية، ساهمت بشكل كبير في سطوع نجمه. فقد لاقت رواجاً كبيراً في الساحة المصرية بالرغم من أنها أغنية لطفلٍ جالس على الأرض يبكي ويصرخ. وقد غنى الأغنية، من كلمات الريس بيره وألحان الشيخ طه، في فيلم "البنات عايزه ايه"، مثل الكثير من أغانيه التي قدمها في الأفلام.

تفردت كلمات أغاني عدوية بغرابتها ومزيجها الصادم، على الرغم من أن من كتب كلمات أغانيه كتب أيضاً أغاني "مهذبة" لمطربي مصر، مثل الشاعر محمود الشناوي الذي كتب لفريد الأطرش ولأم كلثوم والموسيقار بليغ حمدي الذي تعاون مع نجوم مثل وردة الجزائرية وميادة الحناوي

لا شك أن انطلاقة الفنان الشعبي كانت من المقاهي ومحال العصير. فقد احتل الطعام المصري، الشعبي منه خاصةً، في كلام الشعراء الذين كتبوا لعدوية، تحديداً حسن أبو عتمان بالإضافة إلى السيد قشقوش وفاضل عبدالله، مكانةً خاصّة في أغانيه، وقد ظهرت هذه المكانة في عبارات مثل "فروته وأناناسه"، "فزدق يا مملح"، "عسل أبيض وحلاوته زيادة"، "حبيبي ياعسل يا بو دم عسل"، "مساها شربات شربات وصباحها قشطة"، "دمك السكري لاشويلك الجمبري"، "تيجي تيجي يافروته، يا لوز بالشوكلاته. ونشوف الحب دا عسلي، سكر ولا شطة"، وأطرفها "نار يا حبيبي نار، فول بالزيت الحار".

الفلسفة العدوية... خلي البساط أحمدي

ما يميّز عدوية بشكل خاص، والفن الشعبي بشكل عام، هي سمة البساطة وترك الأمور تسير وفق مجراها مع التسليم لله. كانت هذه السمة فريدة في عدوية، التي عكست أغانيه فلسفة "الفرفشة" الحياتية بعيداً عن الهم والغم. صاحَب هذه الفرفشة اطمئنان وثقة بالنفس، بدت جليّة حين غنى عدوية "ويقولوا شحاتين لا دا احنا احنا معلمين"، في فيلم "المتسولين" لعادل إمام.

ومن الأمثلة الشعبية، يصدح عدوية في أغنية "مية مسا" بالمثل المصري الشعبي "خلي البساط أحمدي، متشلش هم الكون"، في دعوة مباشرة إلى البساطة رغم كل الهموم التي لا نقوى عليها. وفي الأغنية نفسها يغنّي: "يا صباح الخير بالليل عالناس الطعمة يا ليل"، وهي جملة متناقضة، ولكنها تصبح منطقية فقط في حضوره ورفقة فنّه.

من حق "الكونت دي مونت كريستو" أن يغنّي بكبرياء لا يليق إلا به "لو انتو اللي رميتوا الشبكة، إحنا اللي طعمنا الصنارة. واحنا اللي غرّقنا السمكة، لبّسنا الشمس النضارة"، لأن عبارة "ويلوموني ما علي ملامة" في أغنية "يا ليل يا باشا" تنطبق عليه. توجّت فلسفة عدوية الحياتية في أغنيته المشتركة والمغني اللبناني رامي عياش "بحبّ الناس الرايقة" التي حققت رواجاً كبيراً في لبنان والعالم العربي سنة 2010 وبعد غياب له لأكثر من عقد عن الساحة الفنية.

وعلى الرغم من الفرفشة والطرافة في أغاني عدوية، إلا أن بعضها كان يحمل معاني سياسية مقدمة بأسلوب شعبي خفيف، مثل أغنية "سلامتها أم حسن"، من ألحان فاروق سلامة التي تقول: "سلامتها أم حسن من العين ومن الحسد، وسلامتك يا حسن من الرمش اللي حسد"، وقيل إن المقصود فيها هو كاتبها الشاعر حسن أبو عتمان نفسه، وإن المقصود بأم حسن هو مصر. وقد قال سلامة في إحدى مقابلاته إن أغنية "كله على كله"، من فيلم "الفاتنة والصعلوك"، التي لحنها لعدوية وكتبها أبو عتمان في السبعينيات، كتبت لنصر أكتوبر 1973.

في كانون الأول الماضي، ودّع المصريون، وودّعنا معهم، الأب الروحي للأغنية الشعبية المصرية، الذي شكّل مدرسة موسيقية فريدة، سار على خطاها العديد من الفنانين بعده. في أغنيته "جوز ولا فرد"، غنّى عدوية: "كل الأحبة اثنين اثنين وأنا لوحدي ما ليش حد"، وقد أبى أن يبقى وحيداً بعد أن وافت زوجته المنية منذ أقل من سنة. طوت الـ 2024 صفحاتها الأخيرة، وها هي الـ 2025 تستقبلنا. غاب عنها عدوية، ولكنه يبقى حياً أكثر من أي وقت مضى فينا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image