"شغفي بالموسيقى يكاد يفوق شغفي بالأدب"؛ هكذا قال أديب نوبل، نجيب محفوظ، حسب ما نقل عنه الناقد غالي شكري، في كتابه "نجيب محفوظ من الجمالية إلى نوبل".
اهتمام نجيب محفوظ بالموسيقى ليس فقط شغفاً بالسماع كمستمع متذوق، وإنما هو أيضاً شغف بممارستها، وربما مشهد عزفه على آلة القانون صعبة المراس، يكشف عن ذلك.
نجيب محفوظ نال قسطاً من الدراسة الموسيقية، فقد التحق بمعهد الموسيقى العربية وتعلّم النوتة الموسيقية على يد خبير أجنبي يدعى كوستاكي، وتعلّم العزف على آلة القانون على يد محمد العقاد (الصغير)، عازف القانون الشهير، حسب ما حكى محفوظ نفسه للإعلامي طارق حبيب، في حوار معه أذاعه التلفزيون المصري.
هذا العلم الموسيقي أثّر في كتابة نجيب محفوظ الأدبية، وصار مكوّناً من مكونات كتابته، سواءً في بناء السرد الدرامي أو عبر الاستلهام من الموسيقى في حبكاته أو في نقاش فلسفة معينة داخل الرواية من واقع الغناء. وعن ذلك يقول علي قطب، في دراسته عن أثر الموسيقى في أدب محفوظ، والتي حملت عنوان "الغناء والطرب في أدب نجيب محفوظ": "إذا كان الحادي هو الذي يحثّ الإبل على السير في صفاء البيداء وعتامتها فيغرس في نفوس شبابها وفتياتها فسائل الوجد، ويثير لدى كهولها وشيوخها الشجن الذي يستعيد من سكرية الذاكرة سيرة الحب، فإن الغناء عند محفوظ هو ذاك الحادي الذي يحرّك قافلة السرد بكل عناصرها الدرامية المتشابكة التي يكرسها نجيب محفوظ لاكتشاف فلسفة الحياة".
هذا الشغف بالموسيقى صنع رباطاً قوياً بين نجيب محفوظ وأهل الموسيقى، فقد كانت له علاقات قوية وحكايات مع صنّاع الغناء في مصر، لا سيما في النصف الأول من القرن العشرين، ولعل أشهرهم الملحن الشيخ زكريا أحمد، الذي اعتبر نجيب محفوظ واحداً من أهل الهوى، ومن أصدقائه المقربين الذين يسهر معهم ويأخذ رأيهم في ألحانه.
ما قصة نجيب محفوظ مع الموسيقى والغناء؟ كيف تشكّل ذوقه الموسيقي؟ ومن يفضّل من المطربين والمطربات؟ وكيف أثّر ذلك في كتاباته؟ وما أشهر علاقاته بأهل الموسيقى والغناء؟ هذا ما نلقي الضوء عليه هنا.
من الطفولة إلى الالتحاق بمعهد الموسيقى
يحكي نجيب محفوظ، المولود في 11 كانون الأول/ديسمبر عام 1911، لطارق حبيب، في الحوار سابق الذكر، أنه ارتبط بالموسيقى وعمره 5 سنوات، حين سمع النغم وأحبّه وقلّده، عن طريق تشغيل أسطوانات أغاني منيرة المهدية وعبد الحي حلمي ويوسف المنيلاوي، وصالح عبد الحي والشيخ علي محمود، والتي كانت متاحةً في منزل والده مع جهاز تشغيلها، الفونوغراف.
الشغف بالموسيقى صنع رباطاً قوياً بين نجيب محفوظ وأهل الموسيقى، فقد كانت له علاقات قوية وحكايات مع صنّاع الغناء في مصر، ولعل أشهرهم الملحن الشيخ زكريا أحمد
بجانب الأسطوانات التي كان يسمعها في بيت والده، كان يذهب إلى مسارح منطقة روض الفرج في القاهرة، حيث كانت هناك فرق من الدرجة الثانية تكرر أغنيات سيد درويش المسرحية، حتى ظهر محمد الوهاب وأم كلثوم وسمعهما وأحبّهما.
وحين شبّ نجيب والتحق بقسم الفلسفة في كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة في ما بعد)، جاءته الفرصة ليرضي شغفه بالموسيقى، حيث استغل أن السنة الدراسية الثالثة بالكلية كانت تؤَجَّل امتحاناتها للعام التالي، فوجدها فرصةً ليلتحق بمعهد فؤاد للموسيقى (معهد الموسيقى العربية في ما بعد).
لم يكمل نجيب محفوظ رحلته التعليمية في الموسيقى، فقد ترك المعهد بعد عام واحد من الالتحاق به، نظراً إلى دخول السنة الدراسية الرابعة في كلية الآداب، وانشغاله بامتحاناتها الدراسية.
ولكنه في هذه السنة كان قد تعلّم أساسيات كتابة وقراءة النوتة الموسيقية على يد موسيقي أجنبي يقيم في مصر اسمه مُسيو كوستاكي، الذي كان أستاذاً في المعهد وعُيِّن مسؤولاً للجنة التعليم في مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي انعقد عام 1932.
وتخصص نجيب داخل المعهد في العزف على آلة القانون، وكان معلمه هو العازف الشهير محمد العقاد (الصغير)، حفيد عازف القانون محمد العقاد (1850-1931)، الذي يسمّى بالعقاد الكبير.
وعن كواليس التحاقه بالمعهد، يحكي محفوظ، حسب ما نقل عنه الناقد رجاء النقاش في كتابه "نجيب محفوظ: صفحات من مذكّراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته"، أن قبول انضمامه إلى المعهد كان مشروطاً بمقابلة مديره، الذي يقول محفوظ إنه "العقاد بك"، ابن محمد العقاد الكبير، ووالد محمد العقاد الصغير.
وحين قابله محفوظ، تحفّظ العقاد على سنّ محفوظ المتقدمة نسبياً، فردّ عليه الأخير بأنّ سبب ذلك أنه طالب في الجامعة، وأن حبّه للموسيقى وفهمه الفطري لها، حرّكاه للانضمام إلى المعهد ليدرسها بشكل دقيق، فوافق العقاد وسأله عن الآلة التي سيتخصص في دراستها، فاختار محفوظ آلة القانون التي يحبها، وهي آلة يعدّها البعض أصعب وأهم آلة موسيقية شرقية.
ويحكي محفوظ موقفاً طريفاً خلال المقابلة، فحين سأله العقاد عن الآلة التي يحبّ دراستها، وأجابه "القانون"، أصدر العقاد صوتاً يشبه الشخير من أنفه، وكأنه الصوت المنبوذ الذي يبديه البعض حين يعترض بعنف على شيء، وحينها أُحرج نجيب واحمرّ وجهه خجلاً وكأنه ارتكب خطأ، ولكن بعدها سمع الصوت أكثر من مرة يصدر من الرجل، ففهم أن صوت الشخير هو عيب في الجهاز الصوتي للعقاد، وليس اعتراضاً على شيء.
لم يكمل نجيب التعليم الموسيقي، لأن اهتمامه بالفلسفة أخذه بمجرد التخرج من كلية الآداب، وبدأ يكتب مقالات فلسفيةً في مجلات مثل "المجلة الجديدة"، "السياسة"، "الجهاد"، و"الرسالة"، ولكن شغفه وحبه للموسيقى كمتذوق وعازف هاوٍ ظلّا موجودَين.
بقي محفوظ يحفظ الأغنيات والمعزوفات التي درسها في المعهد بالسولفاج، أي بالحروف الموسيقية المدوّنة على النوتة، منها دور "السماعي الدارج"، وظل يتذوق الموسيقى بفهم الدارس ووعيه، وإن كانت دراسته غير مكتملة، حسب ما ينقل عنه رجاء النقاش.
ذوقه الموسيقي: أم كلثوم وعبد الوهاب فوق الجميع
عاصر نجيب محفوظ فترات انتقال كبيرة للموسيقى العربية، بدءاً من منيرة المهدية ومعاصريها ثم أم كلثوم وعبد الوهاب، وحتى جيل عمرو دياب ومن أتوا من خلفه، حتى وفاته في 30 آب/أغسطس 2006.
قد يظن من يقرأ كتابَي رجاء النقاش أو علي قطب أو بعض حوارات نجيب محفوظ الصحافية التي تحدث فيها عن ذوقه الموسيقي، أنه متعصب للذوق الشرقي القديم بسبب كلامه الكثير عن جيل صالح عبد الحي وعبد الحي حلمي ويوسف المنيلاوي ومنيرة المهدية.
منيرة المهدية بالذات كانت أكثر مطربات هذا الجيل تأثيراً فيه، فهي أول مطربة سمعها وهو طفل في بيت والده على أسطوانة، ويتحدث باعتزاز عن أنه حضر آخر حفل غنّت فيه، وخلاله كانت تسعل أكثر مما تغنّي، حسب وصفه.
في الحفل الأخير لمنيرة، يقول نجيب إنه بعد أن جلس هو وصديقه إبراهيم فهمي دعبس، اكتشفا أنهما الشابان الوحيدان الحاضران بين كبار السنّ من جمهور منيرة، ما أدهش صديقه إبراهيم الذي سأله: ما الذي جعلك تأتي بنا وسط هؤلاء العجائز؟!
إذا كانت الموسيقى هي صوت القاهرة، المكان الذي احتوى أحداث روايات نجيب محفوظ، فإن أصداء موسيقى هذه المدينة كانت تتردد في كل رواياته.
ولكن نجيب محفوظ، برغم إعجابه بالقديم الذي سمعه في بيت والده، وتأثّر به في طفولته وصباه، أحب أيضاً الجيل الجديد (جيل أم كلثوم وعبد الوهاب)، الذي ظهر في صباه وبداية شبابه، وهو الجيل الذي يُفترض أنه ينتمي إليه، بل يفوقه في العمر.
كانت أم كلثوم بالنسبة له هي أفضل من غنّى، وتحلو له المقارنة بين صوتها وصوت منيرة المهدية، فيقول إنهما متعادلتان في الطبقة الصوتية، وأحياناً تزيد أم كلثوم عنها طبقة، ومن اعتزازه بأم كلثوم سمّى ابنتيه باسمها، فإحداهما سماها أم كلثوم والثانية سماها "فاطمة"، وهو الاسم الحقيقي لأم كلثوم (فاطمة إبراهيم البلتاجي).
ويتحدث نجيب أيضاً باعتزاز عن محمد عبد الوهاب، بل يدافع عن ميله إلى التجديد الفني من وحي الموسيقى الأوروبية، ويقول إنه أغنى موسيقانا العربية وطوّرها من خلال هذا التأثر بالغرب، فقد مزج بين اللونين الشرقي والغربي ببراعة، وجعل منهما نسيجاً واحداً متناغماً، حسب ما نقل عنه رجاء النقاش.
وفي اعتقاده أن سيد درويش لو امتدّ به العمر لفعل ما فعله محمد عبد الوهاب وسار على الطريق نفسه، خاصةً أنه كان ينوي السفر لدراسة فنّ الأوبرا في أوروبا، ومن المعروف أن سيد درويش كان ثائراً على الموسيقى التقليدية السائدة في أوائل هذا القرن، ولدية رؤية عصرية متطورة، ويميل إلى أسلوب الأغاني الجماعية والاستعراضية، حسب ما نقل النقاش عنه.
في فترة ما قبل ثورة تموز/يوليو 1952، ظهرت أصوات كثيرة جميلة في رأي محفوظ، ولكنها كانت ثانويةً بالنسبة له بجوار أم كلثوم وعبد الوهاب، فقد كان يحب أسمهان أيضاً، وليلى مراد وعبد الغني السيد وغيرهم، ولكن كل هؤلاء على روعتهم كانوا هامشيين بالنسبة له.
بعد ثورة تموز، أحبّ أيضاً محفوظ، عبد الحليم حافظ، ومن خارج مصر كان معجباً جداً بفيروز، حيث قال عنها: "صوت فيروز يسحرني ويترك في نفسي أثراً عميقاً"، وأحبَّ أيضاً الأصوات الجبلية وفي طليعتها وديع الصافي وصباح فخري.
عموماً اعتبر نجيب محفوظ نفسه غير متعصب للون أو مذهب موسيقي معيّن، فقد كان يفضّل الجيد والمتقن في أي نوع، فيقول: "أحببت القديم والجديد معاً، الشرقي والغربي، البلدي والريفي والإفرنجي، ووجدت في كل لون مزاياه وأسلوبه ونكهته، وأعطيت وقتاً للاستماع إلى كل الألوان، وهي نفس الروح التي تعاملت بها أيضاً مع المذاهب الأدبية"، حسب ما نقل النقاش.
إلا أنه برغم ذلك كان يهاجم الجيل الجديد الذي ظهر في أواخر حياته في تسعينيات القرن العشرين، ففي حوار أجرته معه مجلة "فن" اللبنانية، ونشرته في 11 تموز/يوليو 1994، هاجم ما كان يوصف وقتها بالأغنية الشبابية، حيث قال: "الهبوط والإسفاف أكبر وأكثر من الإجادة، والخريطة الغنائية اليوم لم تعد خريطةً بل صارت ‘هيصة’، ولذا فهي في حاجة إلى فض اشتباكٍ بعدما اختلط فيها الجاد والهزلي واللامعقول من الغناء الترفيهي... لقد اختلّ التوازن فطغى اللامعقول والهزلي على الجاد في الكلمة واللحن والأداء، فبدا الأمر وكأننا في مباراة للإسفاف؛ من يهبط أكثر ومن يقل كلاماً أغرب وأردأ وأهيف يكسب".
ورأى نجيب أن هذا التراجع في الأغنية ليس سببه غياب الأصوات الجيدة، ولكن غياب الفكر الغنائي، فالأغنية الجيدة تتكون من كلمات جيدة جميلة، ولحن أكثر جمالاً وجودةً يعبّر عنها التعبير المناسب، ثم يأتي دور الصوت بعد ذلك لنقل وتوصيل هذا التعبير.
ويضرب محفوظ مثالاً المطرب الشعبي أحمد عدوية، الذي عدّ أنه يملك صوتاً قوياً جميلاً، وأحياناً يطرب له، ولكنه يغنّي "هلس"، مطالباً الملحنين والشعراء الكبار بمحاولة النهوض بالغناء مرةً أخرى، مؤكداً أن النهوض يحتاج إلى من يؤمنون بالجودة الفنية وبرسالة الفن، لا بالأموال التي يكسبونها من خلفه فقط.
علاقاته بأهل الموسيقى
لم يكن محفوظ بالشخص المحترف في إنشاء العلاقات العامة، ويبدو من كلامه أن علاقاته دائماً كانت تتحرك بعفوية وصدق، حسب ما نفهم مما نقله عنه رجاء النقاش وشكري غالي، وبرغم ذلك كانت علاقته جيدةً بعددٍ من الفنانين الذين عرفهم بالصدفة بحكم الانجذاب التلقائي بينه وبين كل منهم.
برغم حبه الشديد لأم كلثوم، لم يحاول أو يسعى للقائها، ولم يقابلها شخصياً إلا مرة واحدة حين جاءت خصيصاً لتغنّي له بمناسبة عيد ميلاده، ليكتشف محفوظ وقتها أنها من جمهوره الذي يقرأ رواياته.
كان محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير جريدة "الأهرام"، قد أقام حفلاً للاحتفاء بعيد ميلاد نجيب محفوظ الخمسين عام 1961، فدعا أم كلثوم لتغنّي فوافقت على الفور، وجاءت إلى مؤسسة "الأهرام" لتغنّي، وهناك قابلها محفوظ لأول مرة واكتشف شغفها بالرواية والقصة.
الأمر نفسه تكرر مع محمد عبد الوهاب، فبرغم محبة محفوظ له، لم يسعَ أيضاً للقائه، ولم يقابله سوى مرتين في منزل الدكتور مصطفى محمود، الأديب والطبيب المعروف، والصدفة هي التي جمعتهما.
الصدفة أيضاً جعلته صديقاً للموسيقار عبد الحليم نويرة (1916-1985)، مؤسس فرقة الموسيقى العربية في مصر، والمؤلف الموسيقي المعروف، فقد كانا متقاربين في العمر، ويسكنان في الشارع نفسه في حي العباسية، وبالصدفة صار نويرة موسيقياً معروفاً، وصار نجيب أديباً، ولكنهما ظلّا صديقين منذ الطفولة والصبا وحتى وفاة نويرة.
وعرض نويرة على محفوظ تحويل روايته "رادوبيس" إلى أوبريت غنائي عام 1943، ولكن ذلك كان يستوجب تحويلها إلى شعر غنائي، ولم تنجح الفكرة بسبب رفض أكثر من شاعر لها، منهم أحمد رامي، لأن نجيب محفوظ وقتها لم يكن بالشهرة الكبيرة التي اكتسبها لاحقاً، بحسب تفسير محفوظ نفسه.
أما أعمق علاقة له مع موسيقي، فكانت مع الشيخ زكريا أحمد، وجاءت معرفة محفوظ به صدفةً، فقد كان نجيب من سكان حي العباسية في القاهرة بعد أن انتقل من الجمالية، وكان من جيرانه صلاح زيان، الثري المغرم بالآداب والفنون، والذي يقيم السهرات في بيته باستمرار ويجمع فيها كل معارفه من مثقفين وفنانين.
وفي منزل صلاح زيان، التقى محفوظ بالشيخ زكريا أحمد، وكان ذلك في بداية الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وامتدت علاقتهما من وقتها حتى وفاة الشيخ زكريا عام 1961، وصار نجيب واحداً من "شلة أهل الهوى" حسب ما كان يطلق زكريا على أصدقائه الذين يسهر معهم يومياً، كما وثق صبري أبو المجد في كتابه "زكريا أحمد".
كان "أهل الهوى" يسهرون يومياً حتى الصباح، ما بين سمر وطرب وفكاهة، وكان زكريا هو المهيمن دائماً على هذه السهرات بأساليبه في الحكي التي سحرت نجيب محفوظ؛ حيث كان يمكنه البدء بالحكي عند الساعة التاسعة مساءً، فيستمر طوال الليل، ويتفرع إلى نقاشات واستدراكات وملاحظات وحكاية تتولد من حكاية، وفي الثالثة صباحاً يعود زكريا إلى نقطة معينة في الحكاية الأولى التي بدأها في التاسعة، في ترابط مذهل وتسلسل عجيب تلقائي يشعرك بأنك أمام مؤلف "ألف ليلة وليلة"، بحسب وصف محفوظ.
ومن مزايا زكريا التي أبهرت محفوظ، أنه يمثل حكاياته بصوته وحركات جسده وتعبيرات وجهه، في ظرف وخفة وبراعة تشخيصية تسحر الجالسين حوله دائماً، وخلال استرساله في الحكي قد يأتيه خاطر موسيقي، فيتوقف فجأةً عن الحكي ويمسك بعوده ويُسمع الجالسين ما خطر له ويأخذ رأيهم فيه، بحسب رجاء النقاش.
ويحكي نجيب، حسب ما نقل صبري أبو المجد، أن زكريا في إحدى هذه الليالي لحّن أغنية "إيه أسمي الحب"، حيث كان زكريا يلحّن ويعرض على محفوظ والجالسين كل مقطع يلحنه ليبدوا آراءهم فيه.
زكريا بحسّه الميال إلى الحكي والموسيقى، ومحفوظ بحسه الروائي والموسيقي أيضاً، وجد كل منهما في شخصية الآخر شيئاً يحبه، حسب ما نستنتج من علاقتهما، ولكن برغم ذلك يقول محفوظ إن الرواية الوحيدة التي ناقشه فيها زكريا باستفاضة وعمق وإبداء ملاحظات كانت "زقاق المدقّ".
ومن داخل هذه السهرات مع زكريا و"أهل الهوى"، توطدت علاقة نجيب محفوظ أيضاً بالشاعر الغنائي بيرم التونسي، الذي اشترك مع نجيب في أعمال فنية، منها فيلم "ريا وسكينة"، من بطولة أنور وجدي، الذي كتب له السيناريو نجيب محفوظ وكتب أغانيه بيرم التونسي، فكانا يجتمعان معاً لمراجعة الأغاني ومناسبتها لسيناريو الفيلم.
تأثير الموسيقى على أدب نجيب محفوظ
الموسيقى والغناء في أدب نجيب محفوظ محل اهتمام كثيرين، ولعل أهم دراسة مطولة تناولت ذلك، تلك التي نشرها الباحث والناقد علي قطب في كتاب عنوانه "الغناء والطرب في أدب نجيب محفوظ".
رأى قطب أن تأثير الموسيقى على أدب محفوظ جاء في أكثر من شكل، فقد كانت مفتاحاً لإدارة حركة السرد، وأصبحت المعادل الروحي لمسار الشخصيات في رواياته، أو إنها تدلّ على التكوين الثقافي لتلك الشخصيات ومحيطها الاجتماعي وموقفها من الحياة، وأحياناً تظهر الشخصية الموسيقية بنفسها في الرواية، مثل استدعاء الشيخ زكريا أحمد، بشخصيته الحقيقية، في روايتَي "المرايا" و"أحلام فترة النقاهة".
وربما أكثر الشخصيات الموسيقية حضوراً في أدب محفوظ، هي أم كلثوم، بأغانيها؛ ففي "ميرامار" تلتقي مجموعة من الشخصيات في "بنسيون ميرامار"، كل أول ليلة خميس من كل شهر، ويجلسون بجوار الراديو للاستماع إلى حفلة أم كلثوم على الهواء مباشرةً.
وفي رواية "السراب"، نجد أن الطبيب الذي تعلّم في الغرب، والساخط على حال المجتمع المصري ويرى أن الاستبداد السياسي هو السبيل الوحيد لحكمه، لا يعجبه شيء في مصر سوى أم كلثوم.
في "اللص والكلاب"، كان غناء الدراويش محركاً للسرد، ففي الفصل الأخير من الرواية، كان البطل "سعيد مهران" المطارد من الشرطة يبحث عن مأوى له، وبعد أن اختبأ في مسكن الشيخ الصوفي، واعتبر أنه نجح في الهروب من الشرطة، سمع الدراويش ينشدون:
"واحسرتي، ضاع الزمان، ولم أفُز/منكم، أهِيل مودتي بلقاءِ
ومتى يؤمّل راحة مَن عُمرُه/يومان، يومُ قِلى، ويومُ تنائي".
وفي الشعر المغنّى إشارة إلى أن "سعيد" أوشك على النهاية، التي حدثت بالفعل بعد ذلك، حين جاءت الشرطة وحاصرته.
اعتبر نجيب محفوظ نفسه غير متعصب للون أو مذهب موسيقي معيّن، فقد كان يفضّل الجيد والمتقن في أي نوع، وعن ذلك يقول: "أحببت القديم والجديد معاً، الشرقي والغربي، البلدي والريفي والإفرنجي، ووجدت في كل لون مزاياه وأسلوبه ونكهته"
ونلاحظ أيضاً شرح محفوظ للبناء اللحني للإنشاد، والذي على دقّته في الوصف الموسيقي، يشير أيضاً إلى رحلة سعيد مهران، حيث يقول:
"وازدادت النغمة سرعةً وارتفاعاً ثم اختزالاً مع زيادة في السرعة كصوت قطار منطلق، وتواصلت دون انقطاع فترةً غير قصيرة، ثم أخذ يداخلها الوهن رويداً، ثم التراخي في الإيقاع والبطء، ثم ترنَّحَت وتهاوَت في الصمت".
وهكذا كانت رحلة سعيد مهران، ما بين علوّ وسرعة حتى تراخت رويداً رويداً، ثم ترنحت وانتهت بالصمت بعد حصاره واستسلامه في نهاية الرواية، ونلاحظ ذلك في وصفه مشهد النهاية: "وتغلغل الصمت في الدنيا جميعاً".
في الثلاثية ("بين القصرين"، "قصر الشوق"، "السكرية")، هناك مشاهد كاملة لجلسات طرب وغناء، بين شخصيات "زبيدة" و"محمد عفت" و"جليلة" و"زنوبة العوادة"، ومعهم السيد أحمد عبد الجواد، وهناك تعبيرات كثيرة فيها على لسان الأبطال، منها مثلاً ما جاء في "السكرية":
"هزّت المرأة رأسها هزةً كأنما تَطرُد بها الذكريات الأسيفة، ثم ابتسمَت ابتسامة استعداد لسماع الجديد، كانت تهزُّ رأسها وابتسامتها كالآلة الموسيقية المصاحبة للمغني إذا غيرت عزفها تمهيداً لدخول المُغني في طبقة جديدة من النغم".
ونلاحظ هنا وعياً شديداً بإلمام محفوظ بتقنيات الغناء والعزف من جانب، واستلهام التشبيهات من الموسيقى لوصف نوع جمال المرأة من جانب آخر.
ثم نجده يشرح فلسفة عملية ميلاد اللحن داخل أعماق الملحن، ويناقشه في "السكرية" أيضاً، حيث يقول:
"وتداعت الأنغام الكامنة في نفسه حتى برَز منها لحنٌ مليح، عند ذاك تراءت قسمات المعبودة رموزاً موسيقيةً للحنٍ سماوي مرقومة على صفحة الوجه الملائكي".
إذا كانت الموسيقى هي صوت القاهرة، المكان الذي احتوى أحداث روايات نجيب محفوظ، فإن أصداء موسيقى هذه المدينة كانت تتردد في كل رواياته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.