نادرة هي الأفلام التي تتعدى كونها مجرد تجربة مشاهدة، وتتحول إلى اختبار نفسي، تصيبنا بعدوى الاكتئاب واليأس، وتتركنا في مواجهة مباشرة مع مصيرنا وحدنا، فنخاف أن يكون مصيرنا مماثلاً لمصير البطل الذي شاهدناه، خاصة إذا كان بطلاً عادياً تماماً، لا يمتلك أدنى قوى خارقة؛ شخصاً عادياً، مهمشاً، ويشبهنا إلى حد كبير.
"البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" هو باكورة أعمال المخرج خالد منصور في عالم الأفلام الروائية الطويلة. تمكن المخرج ببراعةٍ من كسر المعادلة الصعبة بين صناعة فيلم يثير ذائقة فئة المثقفين ويصيب الجمهور العادي بالمتعة، فيذيب التصنيفات التي يعشقها البعض، مثل "فيلم مهرجانات" أو "فيلم تجاري".
الوجه القبيح للقاهرة
تقع الحكاية في قلب القاهرة، حيث يعيش حسن مع والدته وكلبهم "رامبو" في مواجهة مباشرة مع جارهم "كارم" (أحمد بهاء)، صاحب ورشة لتصليح السيارات الواقعة أسفل منزلهم. يسعى كارم بشتى الطرق لطردهم من شقتهم مقابل تعويض مادي زهيد لا يكفي لسداد الإيجار سوى لستة أشهر. يضيّق عليهم الخناق بكل الوسائل الممكنة، ما يدفع حسن ووالدته لمحاولة إيجاد منفذ للاحتفاظ بمنزلهم. ومع تصاعد الأحداث، يتدخل الكلب (رامبو) في الصراع، ليصبح التحدي هو البحث عن وسيلة للإبقاء عليه وحمايته من شرور كارم. وعليه يجوب حسن شوارع القاهرة بحثاً عن منفذ.
القاهرة تقهر أبناءها منذ أن أصبحت بطلاً رئيسياً في أفلام الواقعية الجديدة في الثمانينيات. بدأ ذلك عندما قرر المخرج محمد خان أن يخرج بالكاميرا إلى شوارع المدينة ليظهرها بصورتها الحقيقية، بعيداً عن القاهرة المصطنعة التي كانت تسود الأفلام السابقة
فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، بطولة عصام عمر، ركين سعد، سماء ابراهيم، وأحمد بهاء، وإنتاج رشا حسني ومحمد حفظي، وإخراج خالد منصور الذي شارك في كتابة السيناريو مع محمد الحسيني.
القاهرة تقهر أبناءها منذ أن أصبحت بطلاً رئيسياً في أفلام الواقعية الجديدة في الثمانينيات. بدأ ذلك عندما قرر المخرج محمد خان أن يخرج بالكاميرا إلى شوارع المدينة ليظهرها بصورتها الحقيقية، بعيداً عن القاهرة المصطنعة التي كانت تسود الأفلام السابقة. برفقة المصور سعيد الشيمي، قدم خان صورة مختلفة للقاهرة في فيلمه "ضربة شمس". تبعه مخرجون آخرون، مثل عاطف الطيب وخيري بشارة، الذين خرجوا بكاميراتهم إلى شوارع المدينة لتصبح القاهرة عنصراً رئيسياً في أفلامهم، لا يمكن تصور أحداث الفيلم في مكان آخر غيرها.
رغم زحام القاهرة وكثافتها السكانية، لا يتمكن حسن (عصام عمر) من إيجاد منفذ واحد فقط لكلبه البلدي رامبو. يجوب حسن شوارعَ المدينة، من أحيائها الراقية إلى أفقرها، دون جدوى. نرى القاهرة بعيون حسن، فتظهر مدينة قبيحة يغلب عليها اللون الرمادي الكئيب والأخضر الباهت؛ مدينة مظلمة لا مكان للنور فيها، تفرش ظلالها السوداء على كل من يعيش فيها، وتنهش أرواحهم البريئة تدريجياً منذ نعومة أظافرهم. تتحول المدينة إلى كيان يغيّر طبائع أبنائها فتبدأ في تشريسهم لا على مدار السنين، إنما أحياناً على مدار أيام قليلة، كما حدث مع حسن.
حسن وفارس مهمّشا الحياة اليومية
ظلت القاهرة تمارس ضغوطها على حسن، تضيق الخناق عليه من كل جانب. يعمل كموظف أمن في الزمالك، لكنه لا يستطيع حتى حماية منزله، ويواجه خطر الطرد إلى الشارع. يتعرض للتنمر والإرهاب من جاره، الذي يتلذذ بقهره والحطّ من شأنه. حتى كلبه رامبو لم يسلم، إذ أصيب أثناء دفاعه عنه. كل هذه المعطيات تؤكد أن وظيفته التي تتطلب الغلظة والوحشية والقسوة بعيدة تماماً عن تركيبة حسن الجسمانية والنفسية، لكنها تظل مصدر رزقه الوحيد. حسن لا يطمح إلى الترقي الوظيفي، فهو لا يمتلك هذا النوع من الطموح. كل ما يسعى إليه هو تأمين لقمة العيش من خلال أي وظيفة متاحة، إذ سبق له العمل في مطعم، والآن يعمل كموظف أمن. تركيبة حسن تشبه الكثير من أبناء الطبقة العاملة، وتعيد إلى الأذهان صورة فارس بطل فيلم "الحريف" للمخرج محمد خان، وكما سبق الذّكر، فهو أول من اهتم بنقل صورة واقعية عن القاهرة.
فارس يعمل هو الآخر من أجل المال وليس من أجل الأحلام، فهو عامل في ورشة للأحذية ويتقاضى أجره بناءً على الإنتاج، وعليه لا يحصل على راتب شهري. يلعب كرة الشارع (الشراب) بنظام المراهنات، ويعيش نصف حياة فوق سطح إحدى العمائر الكبرى. يمكن وصفه بـ"نصف ساكن"، فهو يفتقد للكثير من مقومات الحياة الآدمية. يرى القاهرة، لكنها لا تراه. يلهث بين شوارعها وتتقطع أنفاسه، لكن القاهرة تدفعه دائماً نحو الهاوية، فلا مكان للفرسان في هذه الحياة الواقعية؛ الرهان دائماً على الفهلوة وأعمال العقل.
حسن بدوره يبدو وكأنه فارس ولكن في عصرنا الحالي، فارس الألفية الجديدة. كلاهما يعيش نصف حياة، مع فارق الزمن. حسن مهدد بالطرد، يعيش في شقة صغيرة جدّاً، بلا أي مظهر جمالي. جدرانها متصدعة وتحتاج إلى صيانة، خالية من مظاهر الحياة الآدمية، أشبه بمأوى يقيهم برد الشارع، لكنه بعيد كل البعد عن مفهوم الحياة الكريمة. الأمر ذاته ينطبق على فارس، بطل خان، الذي لخص مأساته ومأساة جاره بجملته الشهيرة "ملعون أبو الفقر". فارس يعيش في غرفة واحدة فوق السطوح، حيث يتعرض لتهميش سكان العمارة الذين لا يعيرون سكان الأسطح أي اهتمام، بل ويحاول ظابط الشرطة دفعه للاعتراف بجريمة لم يرتكبها.
من الصعب أن تُشعرنا القاهرة بالراحة في كلا الفيلمين. حتى "أسماء" (ركين سعد)، الشابة المغتربة، لا تعبر بجملة واحدة عن تعاستها أو شعورها بانعدام الأمان. لكن صمتها، وابتسامتها المرتعشة، وجملها الحوارية القصيرة، تنقل صورة واضحة عن حالتها. يترك المخرج خالد هذه العناصر للمُشاهد ويعطيه حرية تخيل مأساتها، فيجعلنا نتساءل في أنفسنا: ما هو الوضع البائس الذي دفعها لقبول خطبة رجل يكبرها ولديه ابنة؟ فقط لتحتمي من براثن القاهرة؟!
صور الفقد المختلفة
"وكل شيء بينسرق مني... العمر من الأيام... والضي من النني"؛ بتلك الكلمات من أغنية "شجر الليمون" التي اختارها صناع الفيلم، عبروا عن حالة حسن المهمش من خلال صوت غنائي. يمكننا أن نرى صور الفقد المختلفة التي عانى منها حسن طوال الفيلم؛ فصراع الفيلم الأساسي يكمن في بحثه عن مكان يستطيع أن يطمئن فيه على كلبه، خاصة بعدما أصبح "رامبو" العدوَّ اللدود في نظر الأسطى كارم، الذي فقد جزءاً من ذكورته بعد أن عضه رامبو في عضوه الذكري، مما ترتب عليه منعه من إقامة علاقة جنسية. رغم أن رامبو كلب مسالم، إلا أنه اضطر للدفاع عن صاحبه حسن ضد بطش كارم.
إذا كان الخوف الرئيسي لحسن هو فقدان صديقه الوفي رامبو، فإننا نشاهد خلال الفيلم صوراً متعددة للفقد الذي عانى منه. أبرز هذه الصور هو غياب الأب، عند غياب رجل البيت تضطر الزوجات إلى لعب الدورين، وهو ما فعلته والدة حسن (سماء إبراهيم) طوال فترة تربيته. فوالده هرب قبل أن يكمل حسن عقده الأول، ولخوف الأم الزائد عليه، حاولت أن تقيه من الصراعات بينما كانت تواجه المجتمع بمفردها. هذا السلوك في التربية أضعف شخصية حسن، فظهر بصورة هشة في نظر المجتمع الشرقي، وهو ما استغله كارم للضغط عليهم وأخذ منزلهم عنوة.
لا نرى صورة واحدة لوجه الأب؛ حتى عند سماع صوته نجده يشبه صوت أي رجل عادي، لا تشعر فيه بالتميز أو الحنين. نسمعه مع حسن لأول مرة من ملف صوتي على هاتفه المحمول بعد أن حوله حسن من شريط كاست قديم، يستمع حسن إليه بوجه خالٍ من المشاعر. حسن لا يعرف لماذا تركه والده وفر هارباً. الأمر ذاته يتكرر مع رامبو. إذا نظرنا إلى الفيلم من خلال عينَي رامبو، سنرى أن حسن يتخلى عنه لينجو من كارم ويحافظ على منزله. لكن في الحقيقة، حسن يعلم أن هذا هو الحل الأفضل لكلبه؛ سيهاجر إلى لندن حيث الحياة الكريمة: سيأكل ما يحب من البروتينات، سيرتدي أفضل الملابس في السقيع، وسيُعامل برفق، حيث الجميع سواسية.
أمثال حسن لا يستطيعون التصريح بحبهم، فهم يعلمون أنهم لا يستطيعون لعب دور البطولة في حياتهم، لا يمكنهم أن يلعبوا دور الحامي في علاقة، وعليه لا يجرؤون على التصريح بمشاعرهم الدفينة. نرى روح علاقة حب لم تكتمل بينه وبين أسماء في الأجواء، علاقة لم يصرح أي منهما بها. كلاهما يسعى فقط للنجاة في القاهرة. علاقتهم محكومة بالفشل، ستكبلهم بأصفاد من القهر والعجز. فقرر حسن التخلي عن حبه وعدم التصريح به، حتى فقد حبيبته بخطوبتها من آخر يقدر على إعانتها مادياً.
فلسطين من داخل الحارة المصرية
يمكن قراءة الفيلم من أكثر من زاوية. فمن الممكن أن يُنظر إليه على أنه يسير على نفس خطى مخرجي أفلام الواقعية الجديدة. كما يمكن إلقاء الضوء على لغته السينمائية، خاصة جمالياته البصرية، مثل الكادر الذي يجمع بين جسد حسن ووجه رامبو في المرآة. في هذا الكادر، يمكن التأويل بأن رامبو هو حسن، فهل سفره للخارج يعادل هجرة المهمشين إلى الخارج بحثاً عن حياة كريمة؟
الفيلم يعيد قراءة مدينة القاهرة كبطل أساسي، قاهرة تخلو من عناصر الأمن تماماً. وكأن القاهرة أصبحت "جوثام سيتي"، مدينة الجوكر، حيث يسود الفساد والخراب وعدم الأمان، ويعم مبدأ "البقاء للأشرس"
أيضاً يمكن قراءة الفيلم من خلال قانون ساكسونيا الذي اعتمده عادل، بطل فيلم "الغول"، خاصة وأنه تم الإشارة إليه بشكل سريع باعتباره الفيلم المفضل لحسن، الذي يرغب في مشاهدته في عيد الميلاد مع كوب من الشاي بالحليب. في الواقع، اتخذ حسن من قانون ساكسونيا حلاً للتصدي لكارم باستخدام عقله وفهلوته، بل وأظهر شراسة كانت مخفية طوال الفيلم في صورة شخص مهزوم.
لكن استخدام أغنية "شجر الليمون" بالتحديد، لتوضيح العلاقة بين تمسك حسن ووالدته بشقتهم، كرمز للحياة والصمود في وجه الصعاب، هو صورة رمزية تعكس صراعاً مكانياً فلسطينياً برفضهم التخلي عن أرضهم. فشجر الليمون يذبل لكنه لا يموت، وهو رمز أساسي لفلسطين بجانب الزيتون، حيث يزرع شجر الليمون في الأراضي الفلسطينية، ولهذا تعد أغنية شجر الليمون من أشهر الأغاني التي ارتبطت بالقضية الفلسطينية، فتتناول الألم والضياع وفقدان المنازل والأرض والتهجير والتشتت.
صمود حسن وأمه مماثل لصمود أصحاب الأرض الذين مرّوا بأشد مراحل الفقد قسوة، وما زالوا يعانون حتى الآن من حالة الضياع والألم، فالصراع على البيت في الفيلم يعادل الصراع الفلسطيني على الهوية.
فيلم البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو يعيد قراءة مدينة القاهرة كبطل أساسي؛ قاهرة تخلو من عناصر الأمن تماماً، حتى عند تصاعد الأزمة بين حسن ووالدته مع كارم، كان الحل هو إقامة مجلس عرفي لمناقشة الأمر. وكأن القاهرة أصبحت "جوثام سيتي"، مدينة الجوكر، حيث يسود الفساد والخراب وعدم الأمان، ويعم مبدأ "البقاء للأشرس".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
astor totor -
منذ يوميناسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ يومينفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته