شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
لم أحاول قتل أحد... وددت فقط لو أنام

لم أحاول قتل أحد... وددت فقط لو أنام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 11 يناير 202511:21 ص

تصميم حروفي لكلمة مجاز


"كل يوم،

استسلم لعشرين دقيقة

ثم في الحادية والعشرين

أقرر المواصلة؛

النجاة طقس

وشعيرة

وممارسة"

رودي فرانسيسكو

الرابع عشر من آب/أغسطس 2024

اليوم أكملت أسبوع بالكمال والتمام، كلما أغفلت عيني لأكثر من خمس دقائق، يعرض لي مخي العزيز أسوأ مخاوفي: يموت كل من أحب، من أعرفهم ومن لم أقابلهم بعد، حتى أنني حلمت أني أنجبت طفلاً ومات في عمر السابعة والعشرين. أراهم يرحلون واحداً تلو الآخر، أفيق مذعورة، أهدأ، ألعن حظي والاكتئاب وكرب ما بعد الصدمة، ثم أحاول أن أنفض كل هذا عني وأجبر نفسي على المواصلة.

العشرين من آب/أغسطس 2022

لم يكفّ الله عن اختباري أبداً، منذ تكويني الجيني، حينما رزقني  بـ "جين مرض ثنائي القطب" اللعين، لتبدأ معاناتي معه منذ الخامسة عشر تقريباً و يبدو أنها مستمرة حتى الممات، ففي أكثر اللحظات فرحاً واطمئناناً، تضربني التجربة الجديدة من حيث لا أحتسب، ومرة أخرى يغدو الهدوء والأمان سراباً بين يداي.

هناك في الإنجيل آية من أكثر الآيات التي لازمتني طوال رحلتي، (متى 6: 13): "وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْمَجْدَ، إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ". وتجربتي في هذا الوقت كانت الفقد، وبجانب كل المرار الذي عايشته إثر فقدان كل شيء وكل عزيز وكل ما أمتلك، كان التحدي الأكبر هو الإمساك بشدة بالواقع وممارسة اليقظة الداخلية بعد قراري المبكر جداً بتوقيف الجرعات الكبيرة نسبياً من المنوّم الذي وصفته لي الطبيبة بعد الحادث.

أهم ما يميز هذه الليلة هو الشخص الثقيل الجالس على صدري، كلما غفوت، يضربني على وجهي ويصيح: "قومي أصحي، انتي هتنامي وأهلك ماتوا؟!"... مجاز

من المنطقي أن يكون المنوّم هو أولى العقاقير في روشتة طويلة جداً، فالكارثة لم تكن هينة، وعلاوة على ذلك حدثت فجراً وأنا في سبات عميق، أي أن النوم -طبيعياً- هنيئة البال أصبح ضرباً من الخيال. وبالتأكيد النوم في الليالي التالية للحادث كان عبارة عن عذاب خالص، لكن الليلة الأولى كانت أسوأ ما اختبر جسدي على الإطلاق، مشاعر مختلطة لا يمكن وصفها، على أكثر تقدير يمكن تمييز بعضها: خوف، رعب، حزن وعدم قدرة على معالجة الأمور. لكن أهم ما يميز هذه الليلة هو الشخص الثقيل الجالس على صدري، كلما غفوت، يضربني على وجهي ويصيح: "قومي أصحي انتي هتنامي وأهلك ماتوا؟!"

على أي حال، أقل من شهرين وقرّرت توقيف المنوّم، مدفوعة برغبة داخلية غريبة لأن أتعافى طبيعياً بسبب الخوف، الخوف من الاعتماد والتعوّد، فرميت نفسي في أحضان الأرق، الهلاوس، الومضات الخلفية، الفزع أثناء النوم وكل أشكال اضطرابات النوم الأخرى.

لكن الشيء الأكثر تكراراً كل ليلة، هو فزعي من النوم في منتصف الليل وكل شيء حولي تبدل، أهلوس لأرى الزخرفة على فراشي تتحول إلى أحناش مفتوحة الفم، تتحرك نحوي، الفراغ نفسه يتشكل ليشبه مخاوف الطفولة، والأهم، تتبدّل المروحة إلى سيدة لا أتبين ملامحها ولا أتعرّف عليها، ترتدي ملابس غريبة، تنظر لي نظرة مسطحة، وأشعر أنها تقترب كل يوم عما قبله.

وددت لو أنام، والله فقط وددت لو أنام

تعرفت على هذه السيدة في المرة الأخيرة التي أراها بها، تلك هي السيدة الشجاعة التي بدلاً من أن تنجو بنفسها حاولت إنقاذ عائلتي. كم هي غريبة حقاً ألعاب العقل معنا!

بعد فترة مؤلمة، لحسن الحظ أنها كانت قصيرة نسبياً، عدت مرة أخرى إلى علاقتي المميزة جدا مع النوم. النوم هو صديقي المفضل منذ كنت طفلة، أغلب مشاكلي عالجتها بالنوم، أتلذّذ يومياً بأكبر قدر ممكن من النوم أحصل عليه. عندما  يقرّر مخي معاقبتي، أول ما يبدأ به هو حرماني من النوم، وبالأخص في نوبات الاكتئاب.

مرة أخرى الرابع عشر من آب/أغسطس 2024

بعد كل محاولاتي لإنهاء اليوم، بعد شجار عائلي سخيف زاد الطين بلة، وبعد كل اللف والدوران في سريري حتى أصبح التنفس نفسه شاقاً، قرّرت أخذ حبتين من المنوم حتى أغفو والصباح رباح. اثنين؟ أربعة؟ خمسة؟ عشرة حبات، أي شريط كامل من منوم ذي تركيز عالي جداً هو العدد الذي ابتلعته، ولا أدري كيف حدث ذلك. فقط وددت لو أنام، لم أكن أفكر في أي شيء سوى أنني فقط أريد الهروب من كل شيء إلى سبات لا تقطعه حتى الكوابيس التي طاردتني طوال الأسبوع، والله فقط وددت لو أنام! ألم شديد في صدري، أحاول النداء على السيد م زوجي، ولا أستطيع.

الخامس عشر من آب/أغسطس 2024

صباحا، وككل أفلام السينما، فتحت أعيني فجأة لأجد في يدي زجاجة طبية مليئة بالدماء. أرتدي ملابس بالتأكيد ليست هي المنامة التي وضعتها ليلاً قبل الدخول إلى الفراش، ما هذا؟ لماذا لا أذكر أي شيء؟ ما هذا الطعم المرّ في فمي؟ لماذا تبدو شفتاي سوداوين؟ نصف ساعة أو أقل حاول السيد م -الذي أنقذ حياتي- حملي على الكلام، ومن ثم شرح لي أنني "أفورت" من المنوم، وتم نقلي إلى المستشفى لعمل غسيل معدة سريع. لو غططت في النوم لكنت مت إثر غيبوبة وتوقف القلب بعدها.

الباب هو فقط قدرتي المبهرة على التخلي التي طالما تباهيت بها. الآن الباب الوحيد الذي أراه هو الشريط الثاني والأخير من العلبة التي ابتعتها لأنني "وددت فقط لو أنام"... مجاز

الجميع في المستشفى كان يظن أنها محاولة انتحار، حتى السيد م  سألني بشكل صريح إن كانت تلك محاولة انتحار، لأن الإجابة بالتأكيد ستؤثر على علاقتنا. لا أذكر عدد الأيام التالية لهذا الحدث الذي ظل قلبي يؤلمني بشدة بعده، وضربات قلبي تعدت الـ 150 ضربة في الدقيقة الواحدة، كذلك عدد الأيام التي ظللت بهم في حالة صدمة. لا أستطيع تقبل الأمر، لا أستطيع شرحه لأحد، أشعر أن الجميع لا يصدقني. شعرت بالخزي من نفسي، خجلت كثيراً من ضعفي. كيف أضع نفسي في صورة هذا الشخص الضعيف المنتحر بعد كل ما مررت به وواجهته بكل صلابة، أردت لو أصرخ في الجميع: "أنا لست بهذا الضعف صدقوني".

لم أقتل أحداً... وددت فقط لو أنام!

أظن أن قلبي لن يتحمل مرة أخرى جرعة كبيرة من المنوم. بعد الجرعة السابقة لن يجدي معي مخزون العالم كله من الاندرال 40 مغم. أمس على سبيل المثال تناولت 160 مغم من الاندرال فقط حتى تهدأ تلك النخزة في قلبي، وحتى الرابعة فجراً لم يكف قلبي عن الغوص في صدري. واليوم قرّرت تجاهل الألم، قرّرت أن أفعل ما أجيده منذ سنوات مراهقتي الأولى؛ التجاهل وكتمان المشاعر والتأقلم مع الآلام المبرحة وكأن شيئاً لم يكن. أليست النجاة ممارسة؟!

على أي حال، هذا جيد. يخبرني صديقي العزيز والأقرب إلى قلبي دوماً أنني مفتونة بـ "الأبواب الخلفية"، لا تطأ قدمي شيئاً إلا بعد تأكدي من خلق باب طوارئ خلفي للهروب في أي وقت. كثيراً ما كان هذا الباب هو فقط قدرتي المبهرة على التخلي التي طالما تباهيت بها. الآن الباب الوحيد الذي أراه هو الشريط الثاني والأخير من العلبة التي ابتعتها لأنني "وددت فقط لو أنام".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image