"أشعر بوجعٍ في الأمعاء، وكسلٍ شديدٍ ورغبةٍ ملحّةٍ في النوم… حتى عندما أتحدث، تتسلل إلى حلقي نكهة الهواء، وكأنّه تبغٌ عفنٌ ومرّ"؛ هكذا تصف رلى الهاشم، إحدى سكان بيروت الكبرى، حالتها الصحية المأساوية بعد انتكاسة صحية ألمّت بها في عاصمة كانت قد شهدت ثالث أقوى انفجار في العالم، وحرباً مدمّرةً فتكت بالبشر قبل الحجر، حتى أن الهواء نفسه اختلط بالدموع والدخان وأصبح غير صالح للاستنشاق.
رلى، مثل العديد من اللبنانيين/ ات، تعاني اليوم من أعراض متزايدة نتيجة التلوث الهوائي الذي خلّفته الأسلحة الإسرائيلية المحرّمة دولياً، مثل الفوسفور الأبيض.
تسمّم، غثيان، وحالات إغماء مفاجئة؛ هذه بعض الأعراض التي يعاني منها العديد من اللبنانيين/ ات، وهي عيّنة من آثار الفوسفور الإسرائيلي والأسلحة المحرّمة دولياً التي استُخدمت في العدوان الإسرائيلي.
صحيح أننا في مرحلة وقف إطلاق النار، ولكن من الجنوب إلى البقاع، مروراً بالعاصمة بيروت، يشتكي الأهالي من تدهور حالتهم الصحية بشكل غير مسبوق، وسط غياب إجراءات صحية فاعلة وغياب الرعاية اللازمة في ظل الأوضاع الراهنة.
الأسلحة المحرّمة دولياً وتداعياتها
عندما تنفجر الأسلحة المحرّمة دولياً، مثل الفوسفور الأبيض، تُطلق سحابات من الدخان الكثيف، وتستمر لفترات طويلة في الجو، لتنتشر في كل زاوية من الأرض. تبدأ جزيئات هذه السموم السامة بالتسلّل إلى الأنف، فيُصاب الأفراد بحالة من الضيق التنفسي، وتبدأ الأنسجة في الرئتين بالتورم والانهيار.
واللافت أن الفوسفور الأبيض ليس فقط قاتلاً للبشر، بل هو أيضاً ملوث بيئي عميق. وعندما يستقر في التربة والماء، يصبح من المستحيل تقريباً تطهير الأرض والمياه المتأثرة.
"أشعر بوجعٍ في الأمعاء، وكسلٍ شديدٍ ورغبةٍ ملحّةٍ في النوم… حتى عندما أتحدث، تتسلل إلى حلقي نكهة الهواء، وكأنّه تبغٌ عفنٌ ومرّ"
إن هذه الأسلحة لا تقتل فقط في لحظتها، بل تستمر في حصد الأرواح بشكل غير مرئي، لسنوات طويلة بعد توقف القتال.
"بالنسبة إلى منطقة بيروت الكبرى، فقد شهدت انفجارات كبيرةً تسبّبت في تلوث هائل في الهواء، وعندما نتعرّض لهذه المواد السامة لفترات طويلة، تبدأ الأعراض بالظهور بشكل تدريجي"؛ هذا ما يقوله الدكتور فراس حمود، لرصيف22.
ويضيف: "الهواء هنا أصبح ثقيلاً، ومعبّأً بالسموم التي تختلط بالأنفاس. تشعر وكأنك تبتلع الهواء الملوث مباشرةً، فهو يعلق في حلقك، وكأنك تتنفس أسطوانة غاز مسمومةً.".
أعراض التسمّم الهوائي التي يعاني منها بعض السكان في لبنان، تشمل الغثيان الشديد الذي يجعل البطن يتقلب من أوجاعه، والشعور بالدوار الذي يجعل العالم يبدو وكأنه يطفو بعيداً، وكذلك الصداع الحاد الذي يشعر به الشخص كما لو أن دماغه يتعرّض لضغط هائل، بينما يصاب آخرون بصعوبة شديدة في التنفس، فيصبح الهواء ثقيلاً كما لو كان مليئاً بالغبار السام، ما يجعل الشهيق والزفير متعبين للغاية.
تقول سوزان غصن: "فجأةً، توقف كل شيء حولي. شعرتُ بأوجاع غريبة، وكأنها نوبات من الألم تتسلل إليّ بين الحين والآخر. قلت في نفسي: هذا بالتأكيد سرطان وسأموت، فالسرطان مرض وراثي في عائلتنا أساساً. ذهبتُ إلى المستشفى وأجريت الفحوصات اللازمة، وانتظرت من الطبيب أن يؤكد لي شعوري، لكن النتيجة كانت مغايرةً تماماً لتوقعاتي".
وتضيف: "لم أعرف ماذا أفعل؛ هل أفرح لأنني لست مصابةً بالسرطان، أم أحزن لأن جسدي يتآكل بسموم غريبة يعجز الطب عن وصف علاج لها سوى مضادات الالتهاب والمنشطات؟".
التأثيرات البيئية على الهواء والماء
الفوسفور الأبيض يسافر اليوم في سماء لبنان على شكل جزيئات سامة، وينتقل مع الرياح إلى مسافات بعيدة، حتّى أنّه يصل إلى الدول المجاورة من لبنان مثل سوريا وفلسطين التي عانت أيضاً من مخلّفاته، ما يجعل الأرض عطشى إلى الموت.
يصف حسن عواضة، الاختصاصي البيئي، المشهد قائلاً: "لم يكن الماء في المناطق الجنوبية صافياً تماماً، فكلنا على علم بأزمة المياه وتلوّثها في لبنان بشكل عام وما أزهقته من أرواح. ولكن بعد القصف، تضاعف التلوّث وأصبح مليئاً بالمواد السامة. لا يمكن أن تشرب المياه بعد الآن دون أن تشعر بالخوف على حياتك".
"الهواء هنا أصبح ثقيلاً، ومعبّأً بالسموم التي تختلط بالأنفاس. تشعر وكأنك تبتلع الهواء الملوث مباشرةً، فهو يعلق في حلقك، وكأنك تتنفس أسطوانة غاز مسمومةً."
ويضيف لرصيف22: "هذه الأسلحة لم تقتل الناس فحسب، بل دمرت كل شيء حولهم، بدءاً من الطبيعة وصولاً إلى الطعام والماء."
في الواقع، إن التأثير الأكبر لهذه الأسلحة يقع على الأفراد الأكثر ضعفاً في المجتمع، أي على الأطفال والنساء.
الأطفال، الذين تنمو أجسامهم بسرعة، يواجهون تأثيرات سميةً أسرع من الكبار.
في هذا الصدد، تقول إيمان عيسى، الناشطة في حقوق الإنسان: "الأطفال هنا يعانون كما أطفال غزة وأوكرانيا والسودان وسوريا. ومنهم من يعاني من التسمّم الحاد، وتظهر عليهم أعراض الدوار المستمر، والغثيان، والقيء. بل إن هناك حالات نادرةً لتهتّك الأنسجة الداخلية بسبب التسمّم الحاد."
أظهرت بعض الدراسات أن العديد من النساء الحوامل في المناطق المتأثرة تعرّضن للإجهاض نتيجة التعرض للمركّبات السامة في الهواء. ومع مرور الوقت، يظهر أن بعض النساء اللواتي خضعن لعدد من الهجمات أصبحن يعانين من مشكلات صحية مزمنة، مثل اضطرابات في الجهاز التنفسي والجلد، بحسب المكتبة الوطنية الأمريكية للطبّ.
الأمراض النفسية تؤثر على أجسادنا
"لم أضع لقمةً في فمي طوال أسبوع كامل. كل ما كنتُ أفعله هو الجلوس أمام شاشة الهاتف والتلفاز في انتظار الموت، ففي كل لحظة كنا عرضةً للقصف أو الاستهداف. حتى الآن، كلّما فكرت في تلك اللحظات أتشنج. الأعوام الأخيرة التي مرّت علينا في لبنان كفيلة بأن تفقدنا شهية الأكل والحياة"؛ هذا ما يقوله أحمد غصن، أو كما اعتاد أهالي الليلكي تسميته "العم أحمد"، وهو يحمل السيجارة بيده وفنجان القهوة بيده الأخرى.
مشاعر "العم أحمد" لا تختلف كثيراً عن مشاعر غيره من اللبنانيين/ ات، فخلال الأشهر الماضية شهدت أروقة المستشفيات والعيادات إقبالاً كبيراً من اللبنانيين/ ات والمقيمين/ ات في لبنان نتيجة النكسات الصحية التي أصابتهم/ نّ: من انقطاع الشهية إلى التسمم الهوائي وما يترافق معهما من أعراض مزعجة وصعبة.
تشرح اختصاصية التغذية كريستي أبو شقرا، العلاقة بين الأمعاء والدماغ، بأنها "علاقة معقدة وغير مرئية إلى حد بعيد، لكنها أساسية في تحديد صحتنا العامة. يُعرف هذا الرابط بمصطلح محور الأمعاء والدماغ، ويشمل تواصلاً مستمراً بين الأمعاء والدماغ عبر الأعصاب والمواد الكيميائية التي تُفرز في الجسم".
وتضيف أبو شقرا، لرصيف22: "الأمعاء تُعدّ في بعض الأحيان الدماغ الثاني في الجسم؛ لأنها تحتوي على ملايين الخلايا العصبية التي يمكن أن تؤثر على الحالة النفسية والمزاجية، ما يعني أن أي خلل في الأمعاء قد ينعكس على الدماغ، والعكس أيضاً. على سبيل المثال، اضطراب الأمعاء العصبي المعروف بمتلازمة القولون العصبي (IBS)، يُعدّ من أكثر الحالات التي تظهر فيها هذه العلاقة، حيث يعاني المريض من آلام شديدة في الأمعاء، وانتفاخ، وإسهال أو إمساك، وهذا ترافقه في الغالب اضطرابات نفسية مثل القلق أو الاكتئاب، واللافت أن نحو 46% من اللبنانيين يعانون منه اليوم نتيجة النزاعات والحروب والأوضاع الاقتصادية التي واجهتهم."
"وتشرح أبو شقرا أن متلازمة القولون العصبي تُعدّ من الاضطرابات الوظيفية للأمعاء، وهو ما يعني أن الأمعاء تكون سليمةً من الناحية التشريحية، لكن وظيفتها تتأثر نتيجة عوامل عدة، من أبرزها التوتر العصبي والضغوط النفسية: "الناس الذين يعانون من التوتر المزمن أو اضطرابات القلق، غالباً ما يشكون من أعراض IBS، مثل الألم البطني المزمن، والانتفاخ، والإسهال أو الإمساك، وقد يزداد الوضع سوءاً عندما تُضاف إلى ذلك عوامل غذائية غير صحية".
الطريق إلى التعافي بعيد لكن الخطوات مطلوبة
كأنّ لبنان كان ينقصه الفوسفور الأبيض لتكتمل معاناة شعبه. تظهر اليوم المشكلات الصحية التي تواجه اللبنانيين، لتزيد على معاناتهم معاناة أخرى. فالأدوية مقطوعة، وإن وُجد البديل فهو لا يناسب جميع الحالات أو الأجسام. وفي أحسن الأحوال، قد لا تتماشى تكاليف العلاج والرعاية الصحية مع الأوضاع الاقتصادية المتردية التي يعاني منها الجميع.
ووفقاً للتقارير البيئية الصادرة عن الجامعة الأمريكية في بيروت، يحتاج لبنان إلى سنوات طويلة لتنظيف هوائه وتربة أراضيه ومياهه من آثار الحرب البشعة جرّاء العدوان الإسرائيلي.
"لم أضع لقمةً في فمي طوال أسبوع كامل. كل ما كنتُ أفعله هو الجلوس أمام شاشة الهاتف والتلفاز في انتظار الموت. الأعوام الأخيرة التي مرّت علينا في لبنان كفيلة بأن تفقدنا شهية الأكل والحياة"
إنّ لبنان اليوم يقف أمام تحديات صحية وبيئية كبيرة، وما زال الشعب اللبناني يدفع ثمن الحرب المستمرة بكل تفاصيلها، ليس فقط في الأرض، بل أيضاً في الأجساد والأرواح.
وبرغم الأمل الذي لا يفارق اللبنانيين/ ات، يبقى الطريق إلى التعافي طويلاً، ولا بدّ من تكاتف الجهود المحلية والدولية لبدء عملية إعادة البناء، ليس فقط للبنية التحتية بل للصحة العامة والبيئة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
astor totor -
منذ يوميناسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ يومينفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته