شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الاختلاف في البلد نفسها... ما الذي يجمعنا اليوم كسوريين؟

الاختلاف في البلد نفسها... ما الذي يجمعنا اليوم كسوريين؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 26 نوفمبر 202412:21 م

الساعة الآن حوالي الواحدة والربع بعد منتصف الليل بتوقيت دمشق، الوقت المثالي لبداية جولة أخرى من الأسئلة الوجودية. هي عادة تتواجد عند أغلب أبناء جيلي، تتوافق تلك العادة مع جملة فيروز: "الليل مش للنوم أصل الليل للسهر"، ولكنها تختلف مع سبب السهر الذي دعت إليه فيروز في أغنيتها، حيث أغلب سهراتنا هي للتفكير المفرط بما مررنا به وما ينتظرنا في سنينا القادمة.

بلغت الثلاثين منذ حوالي الشهر والنصف، ومنذ ذلك الوقت زاد الأرق، وكأن دماغي مبرمج ليكون إفراط التفكير فيه يتناسب طردياً مع الحقب العمرية الجديدة. منذ ذلك اليوم وأنا أدخل في مراحل عمري المختلفة ومحطاته التي مررت بها، نواسي أنفسنا، نحن مواليد التسعينيات في سوريا، بأن الحياة لم تكن منصفة لنا، حيث كانت بدايات تشكّل شخصياتنا وخوضها للتجارب مترافقة مع بداية الحرب السورية، ليتحوّل التفكير حينها، من معرفة كيف يمكن للإنسان أن يبدأ بتكوين استقراره، إلى كيف يمكن للإنسان أن يحافظ على حياته. عنوان ومثال واحد عن العشرينيات الخاصة بنا، ما الذي يجمعنا اليوم كسوريين؟

يفسد في الودّ قضية في سوريا

اعتدنا كسوريين، بشكل عام، أن نختلف في آرائنا تقريباً حول كل شيء. كان عام 2011 الحد الفاصل بين توافقنا واجتماعنا على أي شيء، اختلفنا في المسمّى الخاص بالمأساة التي نعيشها، أطلقنا عليها التسميات وكأنها مولودنا الذي نحبه، متناسين أن كل ما حدث بعدها هو شكل من أشكال السقوط نحو الهاوية. نتحمل كلّنا كسوريين تلك النتيجة، كلنا سيكون في محاكمة يوماً ما أمام نفسه، يعاود دراسة وتحليل سلوكه وتصرفاته، وحتى تلك الآراء التي كانت سبباً مباشراً في انهياراتنا، لربما افتقادنا لحرية الرأي والديمقراطية جعل منّا قادة رأي في جميع قضايا العالم، وكأن كل تلك القضايا هي ما سيصل بنا نحو الحل الذي نريد لنستمر بحياتنا بشكل ما أقرب إلى الحياة الطبيعية.

بلغت الثلاثين منذ حوالي الشهر والنصف، ومنذ ذلك الوقت زاد الأرق، ليتحوّل التفكير، من معرفة كيف يمكن للإنسان أن يبدأ بتكوين استقراره، إلى كيف يمكن للإنسان أن يحافظ على حياته. عنوان ومثال واحد عن العشرينيات الخاصة بنا، ما الذي يجمعنا اليوم كسوريين؟

كنت، إلى يومنا هذا، أدعو كل أصدقائي الذين غادروا البلد، أن يعطوا ولو فرصة واحدة لأنفسهم ليعودوا ويتعرفوا من جديد على تلك البلاد، رغبة مني في أن يخوضوا تجربة تستحق الرأي الذي يمكن أن يتبنوه في حياتهم، تجاهها وتجاه من تبقى من أهاليهم فيها. نختلف على فلسطين وإدلب والضاحية الجنوبية، نختلف على حماس وحزب الله وإيران، يوجد لدينا في كل يوم حدث نستطيع من خلاله أن نشعل حرباً جديدة بيننا، وكأننا أصبحنا من هواة المعارك وإطلاق النار، نختلف داخل سوريا وخارجها نختلف في الفرح والحزن، لا نجتمع سوى على أرق وخيبات تنال منّا في سهرة كل يوم.

الاختلاف أصبح في البلاد نفسها

من الممكن أن نقول إننا نعيش اليوم مفرزات كل ما زرعناه، ونحصده دون أن يكون لدينا قدرة على تحديد شكل ما زرعناه أو ما نحصده. كانت سوريا ما قبل 2011 تنقسم إلى ثلاث طبقات: غنية، متوسطة وفقيرة. كنا أنا وعائلتي ننتمي إلى الطبقة المتوسطة، جميعنا نعتمد على دخل والدي الوحيد في المنزل، نعيش حياة، نوعاً ما، كريمة ونملك استقراراً نسبياً. أصبحت اليوم تقسيمة البلاد ليست بطبقات وإنّما بالاسم. أصبحت اليوم تنقسم إلى سوريا وSyria، وللشفافية هنالك مجموعة تائهة بينهما، وهي المجموعة التي ترغب في أن تعيش رفاهية Syria ولكنها بالمجمل تعيش خيبات سوريا.

تقدم Syria نفسها وكأنها أجمل بلاد العالم: حفلات وأضواء وسياحة لا مثيل لها، في Syria ينتشر الانفتاح الأوروبي، يمضي خلاله قصل الصيف وكأنه أحد المهرجانات العالمية، تكثر خلاله النشاطات، يأتي السيّاح والمغتربون ليعيشوا أجواء هي بالمجمل غير متعارف عليها في أي مكان عاشوا به. يكثر الأنفلونسرز في Syria. يتكلمون عن  Damascus وكأنها دمشق "عاصمة الثقافة العربية" عام 2008، مع اختلاف مرتبط بالجودة التي تم تقديمها خلال الفترتين.

ما الذي يجمعنا اليوم كسوريين؟

قدمت سوريا نفسها بالشكل الطبيعي لبلاد خاضت حرباً تجاوزت اثني عشر عاماً، في سوريا ليس لديك قدرة على الانفصال عن الواقع، فقر وتشرّد وجوع ينتشر في شوارع البلاد، وليست هنالك فرصة لأي شكل من أشكال الرفاهية، عنوان واحد لمعاناة لا يمكن أن تنتهي. تختلف هذه البلاد حتى في ماهية الأصوات الصادرة في أوقات متأخرة من الليل، حيث في Syria تكون هذه الأصوات احتفالاً بحدث ما، تطلق الألعاب النارية والرصاص لتملأ سماء هذه البلاد، بينما في سوريا فأي صوت في ذلك الوقت هو محطة عنوانها الحذر والخوف من قصف ما أو غارة.

في Syria ترى الشواطئ مكتظة بالزوّار، حيث تدفع مبالغ خالية، يحتاج سكان سوريا على الأقل عشر سنوات من الادخار لامتلاك القدرة على القيام بهذا النشاط ولو ليوم واحد. في Syria تنتشر الإنتاجات ذات الرفاهية من المشروبات، ولكن في سوريا يبحث السكان عن مياه الشرب ليجدوها بصعوبة. يختلف شكل الطوابير في Syria، الطابور يقف فيه الناس لحضور حفلة ما أو لشراء تذكرة، بينما في سوريا يقف قاطنوها من أجل ربطة خبز أو أي نوع من أنواع المحروقات. في Syria تنتشر السيارات الحديثة وتجوب الشوارع، مصدرها بلدان عربية أو محلية، بينما في سوريا يقف الناس مكتظين بانتظار وسيلة تقلّهم نحو أعمالهم، حيث لاوجود للمازوت الذي يحرّكها. تنتشر الـ "ريلز" في Syria تتحدث عن بلاد تشاهد نسبتها الأكبر على شاشات الأجهزة الإلكترونية، بينما في سوريا ترى جزء منها أينما انتقل نظرك.

أصبحت اليوم تقسيمة البلاد ليست بطبقات وإنّما بالاسم. أصبحت اليوم تنقسم إلى سوريا وSyria

في علم النفس يعتبر هذا الأمر انفصاماً تعيشه الشخصية، أو اضطراباً ثنائي القطب، حيث المزاج يختلف بين لحظة وأخرى، هنا يختلف بين شارع وآخر. أشعر بالخوف من نتيجة هذا المرض، وأنا أهرب من علاجه، وأغرق في هروبي من ذلك الواقع المنقسم بشكلين متناقضين. أشعر بالقلق بأني أسلك ما بينهما، أحتفل لنصف ساعة وأكتئب لنصف ساعة أخرى. لم تنجح معالجتي النفسية في أن تأخذني نحو التوازن النفسي، وصلت من خلالها إلى الحالة التي فقدت فيها الشعور تجاه كل شيء.

كان عام 2011 الحد الفاصل بين توافقنا واجتماعنا على أي شيء، اختلفنا في المسمّى الخاص بالمأساة التي نعيشها، أطلقنا عليها التسميات وكأنها مولودنا الذي نحبه، متناسين أن كل ما حدث بعدها هو شكل من أشكال السقوط نحو الهاوية

لا أملك اليوم أي شعور سوى الخيبة

بلغت الثلاثين، ولم يكن أشدّ المتفائلين يتوقع أن أستمر لسنة أخرى. مررت خلال حياتي بالكثير من الانحدارات. كانت حياتي خطاً بيانياً يصعد ليوم ويهبط لشهر، ولكن لم أتوقع أنني سأستمر في الحياة بعد آخر عامين، كانت الجرعات الحياتية فيها عالية جداً، لأكون اليوم، وأنا أبدأ مرحلة جديدة في حياتي، مخدّراً بالمجمل، أفقد فيها أي شعور، تتساقط الغارات ولا يتملكني أي خوف، أشاهد صور ومعاناة كل من يتعرّض للقصف، أتعاطف وأثور للحظة، ثم أعود إلى خيبتي التي تسكنني.

أفقد الكثير من المسلّمات التي كنت قد وضعتها، وأكتفي بشوق لكل من مرّ ورحل، لكل لحظة كنّا نشتكي فيها ونحن لا نعلم أنه سيكون هنالك الأسوأ منها، لمرحلة كانت بالفعل نخرج فيهل بأقل الخسارات، وخيبة لفترة نعيشها اليوم، كل ما يمكن أن يكون فيها هو خسارات كبيرة لا تحصى.

اليوم، أبذل كل جهدي بأن أكون أقل تفكيراً بما يخص تلك التصرفات لأخرج بنتائج تبدو بها صحتي النفسية أقل ضرراً، وأكون ضمن دورة حياة هذه البلاد، بعيداً عن كل أشكال مفرزاتها، متأملاً ببلاد كل ما يمكن أن تقدمه هو عدل في الخيبة، وشكل موحّد من الألم لمن ينتمي لها، بلاد لا تورّثنا سوى خيبات وديون لا تنتهي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image