إسقاط نظام صدّام حسين في العام 2003 أسفر تلقائياً عن سحب السلطة في العراق من "الأقلية" السنّية العربية وإعطائها لـ"الأكثرية" الشيعية، بحكم الديمقراطية والديموغرافيا. حينذاك، عبّرت بعض الأنظمة العربية عن امتعاضها من إخلال نتائج الغزو الأميركي للعراق بالتوازن الطائفي في المنطقة، واقترحت معالجة هذا الخلل عبر بوابة سوريا، من خلال سحب السلطة من النظام "الأقلوي" العلوي وإعطائها لـ"الأكثرية" العربية السنّية، أيضاً بحكم الديمقراطية والديموغرافيا.
إعادة التوازن هذه لم تكن مطلباً ذا وتيرة ثابتة، بل كانت تتصاعد خلف الكواليس حيناً وتضمر أحياناً. وفي الفترة الأخيرة قبل خلع رئيس النظام السوري السابق بشار الأسد، كانت في أدنى حالاتها، مع انفتاح نظاميْ الإمارات والسعودية عليه، انطلاقاً من تقديرهما أن عامل نجاح الإسلام السنّي "الثوري" (القائل بجواز الخروج على السلطة والفاعل حسب هذا القول) أخطر عليهما من الصراع السنّي-الشيعي، فهو يشكّل عاملاً مهدداً لهما بوصفه أحد أشكال الصراع السنّي-السنّي في المنطقة، واستطراداً لدفع الأسد للعمل ضد النفوذ الإيراني الذي توسّع في بلده، وهو ما كان يُعبَّر عنه بالحديث عن إعادة النظام السوري إلى "الحضن العربي" أو "الحظيرة العربية".
بالمحصّلة، تهاوى حكم "الأبد"، ولم يسعف الوقت النظام السوري للتنعّم بثمار التموضع الخليجي الأخير.
عدم الالتفات إلى ضرورة تمثيل التنوّع المجتمعي الهوياتي لتحقيق أفضل الممكن للمواطنين هو جزء من عقلية عدم الاهتمام بتمثيل التنوّع عامةً وهذا ينسحب على سوء تمثيل التنوّع في الشرائح الاجتماعية المتشكلة على أسس غير هوياتية
حسابات الأنظمة
يزعج نجاح السلطة التي ستتشكّل قريباً في سوريا بعض الأنظمة العربية، لأنه قد يحمّس بعض القوى داخلها على الاحتذاء بمثل "الثورة" التي أوصلت إسلاميين إلى سدّة الحكم بالقوة، ما يعني صعوداً جديداً للإسلام السياسي الذي أحبطته هذه الأنظمة عبر حركات الردّة على ثورات الربيع العربي، خاصةً بحال دام الانسجام بين السلطة السورية الجديدة وبين الحكومة التركية، أكبر الرابحين إقليمياً من التحوّل السوري حتى هذه اللحظة.
ولكن من المؤكد أن هذه الأنظمة سيُريحها تغيير السلطة السورية الجديدة لسياسات سابقة وتبنّيها نهجاً جديداً ليس فيه تصدير للكبتاغون، وأهم ما فيه التغيّر الجيو-استراتيجي المتمثل في كسر ما أسماه الباحث الفرنسي ميشال سورا، في ثمانينيات القرن الماضي، "المحور الاستراتيجي الشيعي"، وهو محور تحقق فعلياً بعد إسقاط نظام صدّام وعُرف بتسمية "الهلال الشيعي" التي راجت بعد استخدام الملك الأردني عبد الله الثاني لها. وترجمة هذا الكسر تتمثل في قطع الخط البري "السائب" الذي يبدأ من إيران وينتهي في لبنان مروراً بالعراق فسوريا، ما يعطي لأنظمة الخليج ميزة استراتيجية كبيرة في مواجهتها لـ"محور الممانعة"، أكبر الخاسرين من المشهد الجديد في سوريا.
حكم الأكثرية الهوياتية المرتقب في سوريا سيتضمّن ديناميات كثيرة، فمطالبة "الأقليات" بحقوق لها عبر الدفع باتجاه نظام تشاركي، أو نظام مدني يساوي بين جميع المواطنين ستتلاقى مع تطلعات شرائح من "الأكثرية"، أي العرب السنّة، ولديها فرصة لنقل سوريا إلى واقع أفضل
إشكاليات حكم الأكثرية
أنتج وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة في سوريا، وسيُنتج، تحديات كثيرة لكل مَن يأمل في بزوغ نظام ديمقراطي يحترم التعددية والحريات وفق معايير حديثة، فما ستدفع إليه هذه الهيئة من نظام جديد لن يعبّر عن طموحات الديمقراطيين والحداثيين والمهتمين بحالتيْ الحقوق والحريات.
من ناحية ثانية لن يعبّر الحكم "الانتقالي"، وقد يدوم تحت تسميات أخرى، عن طموحات أبناء "الأقليات" الدينية والقومية، وإنْ كانت الأخيرة لم ولن تتضرر كما كان متوقعاً بحال إسقاط قوى إسلامية ذات خلفية جهادية لنظام الأسد، وذلك بسبب تفعيل ما أسماه قائد سوريا الحالي أحمد الشرع وآخرون من إدارته الانتقالية بـ"الرحمة" الإسلامية.
يمكن المحاججة بأنه، في المجتمعات التعددية، وعندما تَحُول ظروف معيّنة دون سيادة مفهوم المواطَنة المتجاوزة للهويّات، يبقى حكم الأكثرية الهوياتية أفضل من تسلّط أقلية هويّاتية، لأنه أقرب إلى تمثيل غالبية المواطنين، ولأنه يمتلك إمكانيتيْ تمثيل مصالح غالبية الناس وتضييق حجم المقصيين عن مراكز القرار.
ولكن هنالك إشكالية مرتبطة بفكرة حكم الأكثرية الهوياتية، وهي أن اعتباره ممثلاً للأكثرية الهوياتية جزافي، فعدم الالتفات إلى ضرورة تمثيل التنوّع المجتمعي الهوياتي لتحقيق أفضل الممكن للمواطنين هو جزء من عقلية عدم الاهتمام بتمثيل التنوّع عامةً وهذا ينسحب على سوء تمثيل التنوّع في الشرائح الاجتماعية المتشكلة على أسس غير هوياتية، وضمنها تنوّعات كثيرة سياسية واجتماعية داخل الأكثرية الهوياتية نفسها، ما ينتج شكلاً من أشكال الاستبداد.
أنتج وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة في سوريا، وسيُنتج، تحديات كثيرة لكل مَن يأمل في بزوع نظام ديمقراطي يحترم التعددية والحريات وفق معايير حديثة
المأمول في سوريا
الحد الأدنى المأمول من أي نظام جديد في سوريا، بعد أكثر من نصف قرن من الاستبداد، هو احترام حقوق الإنسان والحريات والحرص على احترام خصوصيات الأقليات الدينية والقومية وحقوق المنتمين إليها وحرياتهم الدينية والمدنية، وإشراكها في الحكم، ولو عبر منظومة تتيح لأفراد يحظون باحترام داخل جماعاتهم تبوؤ مناصب عليا مؤثرة في القرار... على أمل تجاوز هذا الحد الأدنى في المدى المنظور بتوصّل الشعب السوري إلى قناعة بأن الحكم الأنسب والأعدل هو الحكم المدني "المحايد عقائدياً" الذي يحقق المساواة الكاملة بين المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم القبْلية.
على أيّة حال، حكم الأكثرية الهوياتية المرتقب سيتضمّن ديناميات كثيرة، فمطالبة الأقليات الدينية والقومية بحقوق لها عبر الدفع باتجاه نظام تشاركي، أو عبر الدفع باتجاه نظام مدني يساوي بين جميع المواطنين ولا يميّز بينهم على أساس الدين أو الإثنية، وهي مطالبة ستتلاقى بطبيعة الحال مع تطلعات شرائح من الجماعة التي تشكل الأكثرية الديموغرافية، أي العرب السنّة في الحالة السورية، لديها فرصة لنقل سوريا إلى واقع أفضل، حتى ولو احتاج الأمر إلى بعض الوقت. أما ديكتاتورية الأقلية، فلا يؤدي وجودها إلا إلى تجميد أي حراكات اجتماعية تسعى إلى خلق مستقبل أفضل، وسيعود الشدّ والجذب بين الجماعات ويبدأ، وربما من نقطة الصفر، بعد سقوطها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 3 ساعاتوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ يومالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته
مستخدم مجهول -
منذ يوماهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه
رزان عبدالله -
منذ أسبوعمبدع
أحمد لمحضر -
منذ أسبوعلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ أسبوعالله!