كل كلمة في هذا العالم، كانت تنبض بالمعنى ذات يوم، وانطفأت تحت وطأة الغياب. كل كلمة، كانت حيّة، لامعة وقوية، وذابت بفعل قوىً هائلة لا يمكن صدّها، كلّ كلمة كانت خضراء ومزهوّة، وضلّت طريقها إلى الغابة، أو دهستها عجلات الحياة الغليظة على طريق منحدر، كلّ كلمة خانتها اللحظة القادمة من بعيد، أو أغرقتها دمعة طفل كسرت الحياة لعبته، ربما تصير صمتاً وجودياً لا يمكن إزاحته أو نفيه، ومع الوقت، ستستحيل خراباً وجودياً يسطع بدلاً من العدم، يحترق كلما سمع اسمه، ويضيء المسخ البشريّ بكل أضوائه الممكنة.
إن عالماً لم يعد يمثل فيه الصمت مجرّد غياب للكلام، أو للصوت، بل مواجهة للافتقار المتأصّل إلى التماسك، إن عالماً تجلّله سلسلة من الإيماءات التي لا معنى لها، و يؤديه صمتٌ مسرحيّ أمام جمهور فارغ، هو عالم أخرسٌ يقود المرء فيه إلى الانتحار أو الجنون، بتعبير ألبير كامو، أو الدفع على سؤال لا يحمل أيّ إجابات: إذا فُقد الكلام، الفعل الذي يربطنا بالآخرين ويعطي شكلاً لعالمنا الداخلي، معناه، فما الذي يبقى لنا؟
تروما الخرس الجماعي
في ساعات الليل الأولى، من يوم السابع عشر من تشرين الأول، تعمّد "المعمداني" بالدّم، وغرق أحد أقدم مشافي غزة بجثث من تلحّفوا أروقته وساحاته؛ هرباً من حمم الصواريخ في الخارج. كان المشهد جليلاً ومهيباً، إذ لأول مرّة منذ بدء المذبحة في غزة، بل ومنذ احتلال البلاد، يموت أكثر من 500 فلسطيني في مدة زمنية لا تتعدّى رمشة عين.
كانت مجزرة رهيبة ومروّعة، وربما لم يكن هناك وقت للبكاء أو الصراخ أو الاستجداء، فقد كان الجميع يسيرون ببطء وسط الركام، محاطون بصمت يشبه فراغاً كونياً لا يحتمل.
إن عالماً تجلّله سلسلة من الإيماءات التي لا معنى لها، و يؤديه صمتٌ مسرحيّ أمام جمهور فارغ، هو عالم أخرسٌ يقود المرء فيه إلى الانتحار أو الجنون
خلقت المجزرة واقعاً جعل معه التعبير مستحيلاً، ولا أقصد التعبير في رصد الكارثة، بل رصد جوّانية الذات الإنسانية في التعبير عن الكارثة. كان الخرس الجماعي لغة جديدة تتشكّل في غزة، والخرس هنا لم يكن ضعفاً، بل ذاكرة مشتركة تجمع الناجين تحت وطأة صدمة لا يعرفون كيف يشاركونها.
بعد المجازر، تصير الكلمات مثل الأشلاء والأنقاض، متشظّية ومتناثرة، لا تحمل أي معنى. الخرس الذي لفّ غزة بعد مجزرة المعمداني كان أشبه بعاصفة صامتة. كل فرد يحمل داخله ثقلاً لا يحتمل، لغة جديدة ولدت من الحطام، لكنها لم تجد طريقها إلى الصوت.
لم يمض على أول مجزرة مكثّفة بمثل هذا الوضوح سوى دقائق حتى رنّ هاتفي، كان اتصالاً مذعوراً من شقيقتي مها، أجبت: "ألوو". صمتٌ يعمّ، كرّرت الكلمة: "ألوو، مها؟". يتمدّد الصمت ذاته: "هل تسمعينني؟"، الصمت ذاته، مع تأتأة: "بسمعك"، "احكي..". تستمرّ التأتأة، تمرّ عشر ثوان أو يزيد، ثم تبدأ كلماتها بالتشكّل: "هشــشام"، مع رجفة رهيبة في الصوت الذي يحاول الخروج من صوت أعلى منه، صوت صكّ أسنانها. تستكمل: "ايشش ششش، بـ يــيصــيرر؟". كان هذا السؤال المكوّن من تلك الكلمتين، كل ما حاولتْ جمعه خلال أزيد من نصف دقيقة، عرفت حينها أنها تروما الخرس، ما تمرّ به أختي، والكلمات كادت تختنق في حنجرتها. لم يكن صمتها عادياً، وكل محاولات دفع الكلمات للخارج كانت إثر صدمة المجزرة، وبدأتْ معها محاولات منّي لدفعها على الكلام بسؤالي: "طيب أعطيني أي حدا جنبك أحكي معه"، ورغم بوئها بالفشل، إلا أنني عرفت لاحقاً، أن أمي وإخوتي كانوا يختبرون حالة الخرس تلك بجوارها، لكنّ أحداً لم يستطع أن يتناول الهاتف منها ليكلّمني، ذلك أنهم كانوا متصلّبين، جامدين في أمكنتهم جميعا وقد شلّت حالة الخرس ألسنتهم جميعاً.
"الإبادة الجماعية الرمزية"، تتجاوز الإبادة بمعناها المادّي، إلى إبادة جوهر المعنى واللغة والتمثيل
الحياة في أكثر أشكالها بدائية ورعباً
في ذروة حديثي مع شقيقتي ديمة، صمتّ أكثر مما تكلّمت -ذلك الصمت الصاغر أمام صمت أكبر وأعظم منه شأناً- وواسيت أكثر مما سلّيت، وكنت أقول في نفسي: "كيف سأحشد بضع كلمات مضحكة أمام جيش من الكلمات الميتة في قلب شقيقتي؟".
سألتها عن يومها الذي تقضيه -متنقّلةً- بين وحشة الخيمة من الداخل، ووحشية البرد الخارج عنها، بين قسوة الداخل، وإنكار الخارج، فقالت لي ببضع كلمات غير مقتنعة بها، إن كلّ شيء سيمضي، عدتّ لأسألها سؤالاً آخر في صيغة اقتراح يائس وأخير: "ليش ما تكتبي عن هالتجربة الرهيبة اللي بتمرقي فيها، رغم كل مأساويتها، بس قديشها غنّية من جوا؟". فأجابتني على الفور، كأنها لا تملك جواباً آخر: "وبتفكّر ما حاولت؟ هي التجربة، ما فيها كلام ينكتب، ما فيها صورة تنشاف، ما فيها صوت ينسمع، خرساءْ، بكماءْ، ومنشّفة يخوي".
كانت تقول لي شقيقتي، بكلمات واضحة، إن الخرس ليس مجرد غياب الصوت. إنه محوٌ للاتصال أيضاً، إذ ما الذي يتبقى للذات عندما تنهار اللغة؟ هل تتحول إلى صفة غريزية، أوليّة وهشّة، تحيا كالحيوان، في لحظتها بلا ماض أو مستقبل؟ وكيف ستنجح في التعبير عن مشاعرها الثقيلة تلك في لحظاتها القصوى، بأكثر الطرق بدائية؟ كيف ستبقى على قيد الحياة بدون أكثر مفاصلها حيوية؟ وكيف ستجيب عن سؤال: من أنا؟ إن لم أكنْ كلماتي التي أنطق وأمتلئ بها، وماذا سيحدث عندما أجدني محكوماً بالصمت -ليس الصمت الذي يجسر الذات بعالمها المحيط، بل الهوّة السحيقة التي تشقّ طريقهما- وماذا سيحدث في نهاية الأمر، عندما يخرس صوتي، ولا يسمعه أحدٌ.. حتى أنا؟
في أعقاب الهولوكوست، عبّر المفكّر الأمريكي جورج شتاينر في كتابهLanguage and Silence، عمّا أسماه بـ "الإبادة الجماعية الرمزية"، التي تتجاوز الإبادة بمعناها المادّي، إلى إبادة جوهر المعنى واللغة والتمثيل. وكان شتاينر يرى أن المحرقة خلقت نوعاً من الصدمة اللغوية، من حيث الفشل الفادح الذي مُنيت به اللغة في مهمّة تعبيرها عن بربريّة الفعل الذي صاحب الهولوكست، ولم يكن يعتبر الصمت الجماعي في تلك الأوقات الرهيبة سوى شهادة على الفظائع التي يصعب التعبير عنها ونسيانها.
كان يقول، بكلمات أخرى، إن هذا النوع من الأزمات يكشف لنا أن اللغة، التي كان يعتقد ذات يوم أنها أعظم إنجازات البشرية ــ فقدت ثقلها الأخلاقي، وانهارت تحت ضغط كل فعل لاإنساني، مع ذلك، يمكن للصمت أن يكون مرعباً أيضاً، في اللحظة عينها، رغم كل محاولاته لرسم حدود التعبير البشري في مواجهة كل ما هو غير إنساني.
كانت تأملات المفكر الأمريكي تقودني إلى خلاصة مفادها، أن حدثاً جارفاً بحجم الهولوكست لم يكن تمزيقاً للأرض والإنسان، بل تمزيقاً للهياكل ذاتها - اللغة والمعنى والرموز - التي تسمح لنا بفهم العالم.
يخبرني صديقي المحاصر في جباليا، أنه يستفيق كل يوم على مجزرة، فهو لا يملك وقتاً للصراخ، البكاء، أو للحزن حتى، فالزمن عدو غير مألوف، وحش ضار قادم من خارج الزمن، من تروس زمنية قادمة من تقويم آخر، لأول مرة يواجها في حياته، والصمت في حالته، كان اللغة الأقرب لفهم الموت -بتعبير رولان بارت- لأنه ما من شكل محدّد قادر على استيعاب لحظات كهذه.
الخرس الذي لفّ غزة بعد مجزرة المعمداني كان أشبه بعاصفة صامتة. كل فرد يحمل داخله ثقلاً لا يحتمل، لغة جديدة ولدت من الحطام، لكنها لم تجد طريقها إلى الصوت
بين بلدة ماكوندو ومدينة غزة
ذهب ماركيز، في عمله الخالد "مائة عام من العزلة" لوصف الصمت الذي خيّم على سكان بلدة ماكوندو بعد مجزرة الموز التي قتل فيها العمال مع عائلاتهم في ساحة البلدة، بالقول: "بدأ السكان يتصرفون وكأن شيئاً لم يكن، والصمت الذي غزا المكان صار أكثر ثقلاً من صوت الرصاص". أما خوسيه أركاديو الثاني، أحد أفراد عائلة بوينديا، الشاهد على المذبحة، وبعد نجاته بأعجوبة منها، حاول لاحقاً، أن يقول للناس ما رآه عبر الكارثة التي شهدها، لكن أحداً لم يصدقه. وبلدة ماكوندو كغزة، ففي كل ركن فيها، كان الصمت يقول قصّته، والخرس الذي ألمّ بالجميع بعد المذبحة، لم يكن سوى صرخة بعيدة، وممتدة بلا صوت، ولأن الصمت لم يعد يسمعه أحد، فقد صار بمثابة وطن مؤقت يسكنه الجميع.
إنها حالة الخرس التي تتمظهر في وجوه المسحوقين، المعقودة في ألسنة المقهورين، وفي الأيدي التي ترتجف تحت ضغط المعنى المكبوت في غزة، حالة الخرس التي صيّرت الناس غرباء عن أنفسهم، عن مدينتهم، عن لغتهم وعن العالم، عن كلّ خارج عنهم، وكل داخل أيضاً. إنها حالة من التعايش مع مصير محتوم، خال من الخيارات، ومحكوم بالصمت، ليس باعتبار الصمت هدوءاً بل اختناقاً مروّعاً، ومريعاً، لم تعد اللغة قادرة أن تضع له حدوداً كي تشرحه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...