ربما من طريف المصادفات أن تكون أسطورة "أوروبا" هي الأكثر تعبيرًا عن العلاقة الملتبسة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، بأمواجه التي ارتحلت عبر هذا الحيز الجغرافي المليء بالماء والملح والأساطير والمعارك والجثث.
تحكي الأسطورة أنه في زمن قديم، قبل ظهور الإله الواحد، إذ كانت الآلهة زُمرةً عابثة، متفلتة الأعصاب، شرهة وشبقة، عاشت فتاة جميلة جدًا تُدعى "أوروبا". وكانت الابنة الوحيدة لملك فينيقي يُدعى "أجينور"، الذي بسط سلطانه على ضفاف المتوسط من جهة الساحل السوري، وكان لها ثلاثة أشقاء.
أوروبا، المدللة التي ورثت من والدتها "تيلفسّا" جمالًا استثنائيًا، كانت تحب اللعب برمال الشاطئ برفقة صديقاتها الحسناوات أيضًا. وكان الجمال يبدو في أبهى صوره عندما يُحيطه مزيد من الجمال، وهو ما لفت انتباه الإله "زيوس"، الذي لمحها بنظره الثاقب من الضفة المقابلة للمتوسط فأُعجب بها واشتهاها.
والآلهة القديمة، يا رفاق، ويا رفيقات، لم تكن تتمتع بوقار الإله الواحد الذي نعرفه في كتبنا المقدّسة، بل كانت عاشقة للمكائد واللعب، وكثيراً ما أحبّت أن تكون "إنساناً" في رغباتها.
الآلهة القديمة لم تكن تتمتع بوقار الإله الواحد الذي نعرفه في كتبنا المقدّسة، بل كانت عاشقة للمكائد واللعب، وكثيراً ما أحبّت أن تكون "إنساناً" في رغباتها
وهكذا، خطّط "زيوس" لبلوغ مُراده، فتنكّر بهيئة ثور أبيض بديع الجمال واختلط بصديقات أوروبا، مظهراً وداعة استثنائية أغرت أوروبا بالاقتراب منه. وبعد أن مسحت بيدها على رأسه، قررت أن تمتطيه، وما إن استقرّت على ظهره حتى انطلق بها بأقصى سرعته، طاوياً تحت حوافره أمواج المتوسط العالية.
عندما بلغ الثور إحدى الجزر، كشف "زيوس" عن هويته الحقيقية للجميلة أوروبا، وبعد ليلة إيروتيكية صاخبة تحت شجرة لبلاب خضراء، أصبح لأوروبا ثلاثة أبناء: مينوس، ورادامانت، وساربيدون.
البهجة شمالاً، الحسرة جنوباً
على الضفة الشمالية من المتوسط، ازدهت الليالي بالبهجة وقصص الحب الصاخبة، التي تُوّجت بتكرّم "زيوس" بتزويج عشيقته أوروبا إلى إغريقي شهم يُدعى "استيريوس".
تبنّى استيريوس أبناء الإله، وأنجب من أوروبا ابنة جميلة سُمّيت "كريت"، فتسمّت الجزيرة باسمها. وعاش الجميع، بشراً فانين وأنصاف آلهة، على أفضا ما يرام.
لم تلتفت أوروبا إلى ذكرى عائلتها، ولم تشتق ولو مرة لرمال الشاطئ التي علقت بين أصابع قدميها أثناء ركضها المليء بالضحك، ولم تتذكر صديقاتها الحسناوات اللواتي يشعرن بالذنب لأنهن اطمأنن يوماً إلى ثور سحرهن ببياض وبره ووداعته.
انطلق الأمراء الثلاثة للبحث عن شقيقتهم أوروبا، لكن أمواج المتوسط العاتية كسّرت سفينتهم، فهل تكون هذه الرحلة المشؤومة أول توثيق لغرق مهاجرين غير شرعيين؟
أما في الضفة الأخرى، فكانت الليالي زاخرة بالحسرة ومفعمة باللوعة. الملك، الذي شاخ من هول الفقد، أرسل زوجته الجميلة برفقة أولاده الثلاثة: سيليكس وفونيكس وقدموس، في رحلة بحرية للبحث عن أوروبا. وتقول الحكايات إن السفينة التي أبحرت بهم تحطمت بفعل قوة الأمواج. تخيلوا حجم الاستعارة في هذه الأسطورة! أيمكن أن تكون هذه السفينة رمزاً لرحلة مهاجرين غير شرعيين، محملة بمنفطري القلوب الباحثين عن حلم ما في الشمال؟
ولم ينجُ من هذه الرحلة المشؤومة سوى أصغر أشقاء أوروبا، قدموس، الذي يعني اسمه الشرق. كان على هذا الصغير أن يمنح اليونان الأبجدية، وكان على اليونان أن تُتوجه ملكًا على طيبة. وكيف لليونان ألا تجزي الجميل بالجميل؟ فقد وهبها قدموس الكلام الذي هو عماد الفلسفة، درة فكر اليونان، إلى كل الدنيا.
الجحود والاستعارة
ما سبب جحود أوروبا يا ترى؟ الفتاة المدللة؟ هل يمكن أن نحمّل الأسطورة ذاتها دلالات تنعكس على حاضرنا؟ وهل تحتمل الحكايات ذلك؟ ألم تكن هذه الحكاية بالذات تُروى يوماً بخشوع كقصة مقدّسة؟
وربما يحق لي، بعدما تجرأتُ على الأسطورة التي فقدت قداستها، أن أتساءل عن دلالة لون الثور الأبيض، وعن معنى أن تكون أوروبا عشيقة الإله، وعن مغزى أن يكون أبناؤها أنصاف آلهة. فأوروبا، بعد كل هذا المجد، يصعب عليها أن تتذكر أصولها الجنوبية، لقد وارت أباها بملابسه الشرقية المزركشة، وسدّت أذنيها عن رنين حليّ أمها المزخرفة، ولم تعد تريد أن تتذكر صديقاتها اللواتي لوّحتهن الشمس بالسمرة.
وهل لهذه الرؤية للذات – بأن أوروبا جميلة، وعشيقة إله، وأماً لأنصاف آلهة – أصداءٌ في أفكار القارة الأوروبية عن نفسها؟ ألم تحفل أدبيات هذه القارة بنظريات وفلسفات حول عراقة الجنس الأبيض وأفضليته على الآخرين؟ ألم يظهر منظّرون لهذا الشرّ الذي كشف عن وحشية غير مسبوقة، خاصة بعد اكتشاف البارود، في إبادات شملت العالم بأسره حرفياً؟
أبجدية غزّة
في إحدى المرات، وفي نقاش جمعني مع صديقات وأصدقاء إيطاليين، في إيطاليا حيث أقيم، تساءلت باستغراب: لماذا يتم اعتبار الحضارة اليونانية جزءاً من الحضارة الأوروبية؟ ضحكوا مجيبين أن اليونان هي جزء من أوروبا. أجبتهم: لم أقرأ كتاباً عن الفلسفة اليونانية إلا وكان الفلاسفة ينصحون بالذهاب إلى مصر أو بلاد فارس أو الشطر الجنوبي من المتوسط بحثاً عن المعرفة أو الحكمة. لم أقرأ يوماً أنهم طلبوا المعرفة من أي مدينة أوروبية في ذلك الحين.
غزّة التي وضعت بلدان أوروبا بكل فلسفاتها، والعالم أجمع بكل ادعاءاته الجوفاء بالعدالة، في اختبار المواجهة، فسقطت جميعاً.
ربما من حسن الحظ أن الأساطير لم تعد مقدّسة. ورغم ذلك، لا تزال ماكينة الأساطير المتبادلة بين ضفتي المتوسط تمارس هوايتها المفضلة في نسج المبالغة حول صورة الآخر "المتفوق والخارق"، وتتعداها لتصف موطنه بأنه المكان المتين، العصيّ على نوائب السياسة والاقتصاد، والذي يعيش فيه الإنسان بقيمته ولِقِيَمه "المقدّسة". ألم يردد جوزيب بوريل، مسؤول السياسية الخارجية في الاتحاد الأوروبي هذه الأسطورة بالذات عندما قال إن "أوروبا حديقة وبقية العالم أدغال"!
كان للأسطورة أن تُكمل غزلها لولا غزّة المُبادة منذ أشهر طويلة، والتي أسقطت العناوين الكبيرة والمثل العليا في مرآة مُهشّمة. غزّة التي وضعت بلدان أوروبا بكل فلسفاتها، والعالم أجمع بكل ادعاءاته الجوفاء بالعدالة، في اختبار المواجهة، فسقطت جميعاً.
إذن هي غزّة المحاصرة في الضفة الأخرى من المتوسط، جلست بأطرافها المبتورة مستعينة بسيرة جدّها قِدموس لتعيد إلى المتوسط ذاكرته وأبجديته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Karem -
منذ 16 ساعةدي مشاعره وإحساس ومتعه وآثاره وتشويق
Ahmed -
منذ 5 أيامسلام
رزان عبدالله -
منذ 5 أياممبدع
أحمد لمحضر -
منذ أسبوعلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ أسبوعالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ أسبوعوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة