أقف أمام الفرن في مطبخ البيت المؤقت، هنا في دير البلح، محطة النزوح الأخيرة منذ مايو 2024، أنتظر استواء صينية الكيك. تخرج الصينية من الفرن المشتعل. مدورة الوجه، لون يجمع بين الأحمر والبرتقالي، رائحة برتقال فاضحة وكاشفة للسر في الحي. دق الباب على إثرها ثلاث مرات أو خمس بلا مبالغة. السؤال: "أنتم صانعو الكيك؟"، وأجيب: "نعم، وهذا سر. لا تخبر أحداً".
أعود إلى المطبخ المؤقت، أقف أمام الصينية المدوّرة. أود الاحتفال بإنجاز هذه المهمة في زمن طال فيه غياب الطعم، في ظل استفحال الجوع والحزن. مرّ وقت طويل حقاً دون أن نسمع فيه جملة: "أكلنا شي حلو"، دون أن يشكل هذا سراً أو استهجاناً في نفس المستمع.
إنجاز يستحق أن أخبر به كل الحي الذي أسكنه، لكنني خجلة من إثارة الحاجة واستفزاز الجوع في البيوت، والخيام، العائلات (طحينها على القد) لا يكفي إلا لعجنة واحدة، لكنه إنجاز صغير في زمن قتلت فيه إحساسنا بالانتصارات الصغيرة حتى.
أقف أمام الصينية المتورّدة التي تفوح منها رائحة الفانيلا والبرتقال، لكنها رائحة تثير حزناً على غرابة اللحظة التي أمر فيها الآن. ألتقط صوراً وأكتب في ذاكرتي هذه الصورة سأهديها لـ...
الإهداء الأول: ستي
يقع بيت ستي في منطقة (الرمال الشمالي) بمدينة غزة. الكثير من ذاكرة طفولتي مرتبط بالكرسي الذي كان قبالة مطبخها. أجلس عليه منتظرة أمي كي تأتي وتصطحبني من بيت ستي إلى البيت. إنها الفترة التي أعود فيها من المدرسة القريبة التي يطل عليها مطبخ ستي لأنتظر فيها أمي. طفلة هادئة. هدوؤها بسبب سحر صناعة ستي للأشياء ومنها "الكيك". رائحة البرتقال، لون الخليط الخاص بالكيك الذي تلف فيها يدها وتدور بإتقان شديد. يد واحدة لا تصفق لكن ستي تصنع الكيك بيد واحدة.
على مدار حياتها لم تؤمن ستي بـ "مضرب الكيك" حتى بعد انتشاره في بيوتنا ومطابخنا وتنوعه. ترفضه وتعتبر اليد فيها كل البركة. تستدل بذلك أن النية تكون بصناعة صينية واحدة من الكيك، لكن ما تلبث أن تصير صواني مصطفة في مطبخها تنتظر الفرن.
والرائحة تؤنس انتظاري لأمي. صحن بلاستيكي كبير لونه بني في مطبخها. بيد واحدة تحرّك خليط الكيك. أسمّي قطعة الكيك في اليوم التالي حين أعود وأنتظر أمي "كيك ستي الخارقة". في واحدة من الحكايات الشعبية الفلسطينية تشبه قدرة ستي قدرة "الست تتر".
تتر بطلة الحكاية، وفق الرواية، بيضاء بخدود لامعة، لكن وفق رواية ستي هي سمراء البشرة، نغشة وتقول إنها تشبهني، كدلالة على صدق روايتها.
تختفي ستي وراء سر "الطحين موجود، البرتقال موجود، والبيض موجود"، لكن في رأسي أن يد ستي الخارقة هي السبب والسرّ، ليذوب في فمي هذا الخليط الممزوج المخبوز، الذي لا تزول منه رائحة الفانيلا ولا قشور البرتقال المبشورة في الكيك
تتر التي امتنعت عن الكلام والحديث مع زوجها السلطان حتى يناديها بـ "يا ست يا تتر يلي أبوكي شمس، وإمك قمر". لم يكن يعرف السلطان سر هذه الجملة حتى ينطقها، لكنه يأس منها فقرّر الزواج بغيرها، وكي تظهر تتر قوتها الخارقة، كانت تظهر أمام الزوجات سرّاً وتظهر أننا تجيد الحكي وأشياء أخرى، والدليل أنها في المرة الأولى طلبت من صحن العجين أن يأتي، فأتى بين يديها، ثم قالت "امتلئ بالطحين"، فامتلأ، ووضعت يديها في الفرن وأخرجت خبزاً محمراً مدوراً جميلاً، وحين حاولت الزوجة تقليدها فشلت وماتت محترقة، وأما الثانية فأظهرت أمامها قدرتها بأن وضعت يدها في زيت يغلي فامتلأ الوعاء بسمك شهي مقلي، وحين حاولت فشلت هي الأخرى وماتت بنفس الطريقة، حتى اكتشف السلطان سر امتناع تتر عن الحكي فنادى:
"يا ستي ياتتر، يلي أبوكي شمس، وأمك قمر"، ليقرّ السلطان بذلك حقيقة أن تتر ربيبة بيت الغول هي منافسة كل مستويات الجمال، لأنها جاءت من الشمس ومن القمر، كسرّ إعجازي عن قدرتها الخارقة هذه.
كانت ستي تعتدّ بكل الشخصيات ذات المواصفات التي تشبهها، وكنت أظن أنها تمتلك ذات القوة الخارقة وهي تلف يدها حول الصحن البلاستيكي، لا تظهر منه شكل المكونات إلا إذا رفعت يدها لتختبر لزوجة خليط الكيك، وتعود يدها في الصحن البلاستيكي، وباليد الأخرى تضيف بقية الدقيق دون الالتفات إلى مقادير في ورقة. تتبع حدسها وقوتها الخارقة: تضيف الدقيق وإذا صار العجين كثيفاً زادت عصير برتقال، وسرعان ما تصطف الصواني بين يديها تسكب فيها الخليط، الذي يصير أمامي في اليوم التالي كيك مخبوزاً منتفخاً متورداً في صحن ينتظرني.
كل طعم تصنعه الحرب هو بلا هوية
تختفي ستي وراء سرّ "الطحين موجود، البرتقال موجود، والبيض موجود"، لكن في رأسي أن يد ستي الخارقة هي السبب والسرّ، ليذوب في فمي هذا الخليط الممزوج المخبوز، الذي لا تزول منه رائحة الفانيلا ولا قشور البرتقال المبشورة في الكيك.
وعلى خلاف اسم هذا المكون في المطابخ الغزية (كيك، كِكْسة) يبقى هذا المكون على خلاف أسمائه هو صناعة يد ستي الخارقة، وهو طقس مكرّر لا يغيب بالأسبوع الواحد، تكرّره ستي في الأسبوع الواحد مرتين فكل شيء موجود ويد ستي الخارقة.
مر وقت طويل على صناعة الكيك أصلاً، فلا رفاهية مطلقاً في أيام الحرب، فالخبز أولى من الكيك. أذكر أن آخر مرة صنعنا فيها الكيك بالبيت كان صباح اليوم الأول من أكتوبر 2023، أي قبل الحرب بأسبوع. صنعتها أختي الكبيرة بذات القدرة الخارقة الموروثة عن ستي. والحقيقة أنني أتشارك والكثير من الغزيين بهذا، على الرغم من أن الكثير من النساء تحايلن وصنعن كيك دون بيض على سبيل المثال، وتوالت الوصفات تحت اسم (كيك الحرب) لكن اليوم هذا الكيك الذي صنعته هو احتفال وتتويج بحصول أبي على طرد غذائي وفق مقاييس "إغاثة كبار السن".
يا له من حظ عظيم!
هذه فرصة عظيمة كي لا يمتعض والدي من تصنيفه كـ"كبار سن"، فبسببها حصلنا على طبق بيض كامل، وبدأت الخطط لاستغلاله لنوفي حاجة الجوع حق صبرها، وكان الكيك أولى هذه الخطط.
فشلت ميزانيتي في شراء البيض ولو مفرقاً، الأمر يشبه البحث عن "ديلرات المخدرات" في الأفلام أو هو أمر سري للغاية ومعرض للشكوك بامتلاكك المال وعلاقات توصلك بمن يمتلكون صناديق البيض من تجار، أو أنك ذاك الشخص الواصل الذي يتمتع بعلاقات واسعة مع شبكة المؤسسات المسؤولة عن توزيع المساعدات. يوم استلم أبي الطرد اضطررنا لأن نغلظ الأيمان للجيران والمعارف الذين صادفوه، بأنه جاء دون جهد، بل استجابة لرسالة: "عليك التوجه لاستلام طرد غذائي"، والسبب أنه فقط مخصّص لكبار السن.
لا قوة خارقة الآن في المطبخ تحضر مكونات الكيك. لم يحضر من ذلك إلا البيض، أما الدقيق فتحايلنا على حاجتنا بأن المتبقي بالكيس لا يصلح ولا يكفي للعجين والخبز، وعليه لنستغلّه بصناعة الكيك.
مرّ وقت طويل على صناعة الكيك أصلاً، فلا رفاهية مطلقاً في أيام الحرب، فالخبز أولى من الكيك. أذكر أن آخر مرة صنعنا فيها الكيك بالبيت كان صباح اليوم الأول من أكتوبر 2023، أي قبل الحرب بأسبوع. صنعتها أختي الكبيرة بذات القدرة الخارقة الموروثة عن ستي
الإهداء الثاني: صديقتي سنابل
سنابل صديقتي لم تنزح نحو الجنوب، وظلت في بيتها في جباليا حتى السادس عشر من أكتوبر 2024. يأتي هذا الإهداء كرد لدعوات كثيرة كانت ترسلها سنابل الصديقة، كلما قطف البرتقال من البيارة، شرق جباليا. كيس أزرق كبير هو نصيب سنابل وعائلتها من البيارة، ليأتي الاتصال منها احتفالاً بحبات البلنسيا هذه. لا يهم هذا الآن أمام صحن (الجاتوه) الذي تصنعه سنابل وهي الوحيدة في غزة التي تسميه (جاتوه) ربما لأنها الوحيدة التي تصنعه احتفالاً بجني حبات البرتقال هذه من البيارة شرق جباليا.
"تعالوا، عاملة قالب جاتوه بالبلنسيا": وكأن البلنسيا سرّ الكيك الوحيد ولا مكونات أخرى تشاركه، لتمثل هذه الجملة انطلاقاً نحو بيت سنابل في جباليا، قالب الكيك هذا، نختلف في بداية افتتاح الحديث حول اسمه وتاريخه، لننغمس بعدها في حديث الأسرار، يتوسط الطاولة، والسرّ في حبات البلنسيا التي تقولها كسرّ وحيد للكيك.
الآن وأنا أحتفل بهذا الإنجاز، صينية الكيك في دير البلح، لأول مرة يأتي سر إهدائي كافتقاد حقيقي لمكونات الكيك على بساطتها قبل الحرب. وقفت مساء الخميس أمام بسطة في سوق دير البلح. بدا أمامي البرتقال أنه مجرّد حبات مصطفة، لا لمعان لها ولا رائحة، وقد لا أبالغ بأن البرتقال في مطبخ ستي وكيس البرتقال في بيت سنابل كان فيهما أكثر مما تحتويه البسطات مجتمعة.
عدا أن الجميع يقلب البرتقال يسأل عن سعره، ويعيده منتفضاً وكأنهم جميعاً يقولون: "وينك يا زمن البيارات، كنا نقطفه واحنا ماشيين"
قد لا تسمعها لكن عيون الناس جميعها تقولها. في إحدى لقاءاتي علقت معي جملة قالتها إحداهن: "لو كل المعابر فتحوها ودخلوا علينا كل مساعدات الدنيا، ما بيسوى طعمها طعم حبات الأفوكادو اللي كنت أقطفها من الشجرة اللي كانت بساحة البيت، راح البيت بس طعم الأفاكودو ما بيروح"، وظلت هذه الجملة قياساً على كل الأشياء التي فقدناها، والتي تحاول الحرب تعويضنا إياها أو صناعتها كبديل.
اشتريت يومها ثلاث حبات برتقال فقط وأنا أشعر بخيبة، ويراودني نفس السؤال في ظل استفحال الجوع مجدّداً في أسواق جنوب القطاع، بعد أن مررت بنفس التجربة الشتاء الماضي. قضيت ليالي نزوحي في خانيونس ورفح، واليوم يعود الجوع متوغلاً أكثر في محطة نزوحي الأخيرة، حيث تبدو صناعة الكيك احتفالاً ورفاهية، وأسأل أمامها: أين ذهب ذلك الطعم الذي كان رغم توفر كل المكونات؟ الإجابة: كل طعم تصنعه الحرب هو بلا هوية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Oussama ELGH -
منذ 13 ساعةالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته
مستخدم مجهول -
منذ 15 ساعةاهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه
رزان عبدالله -
منذ أسبوعمبدع
أحمد لمحضر -
منذ أسبوعلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ أسبوعالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ أسبوعوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة