شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
يا أول كلمة... عندما هتفنا لـلأسد بالفرنسية!

يا أول كلمة... عندما هتفنا لـلأسد بالفرنسية!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الخميس 19 ديسمبر 202408:55 ص

لدينا جميعاً لحظات "المرات الأولى" التي تترك بصماتها في حياتنا: الكلمة الأولى، الخطوة الأولى، الحب الأول، وحتى الزواج الأول. تلك اللحظات الفريدة، التي تبقى محفورة في ذاكرتنا أو تُروى لنا عبر أقاربنا، غالباُ ما تمثل الفرح والدهشة، وتحمل معاني عميقة تؤثر في مسار حياتنا.

ريما البندلي تباغتني بـ "يا أول كلمة حلوة بالتم"، فتوقظ فيّ نوستالجيا بعيدة، وتثير سؤالاً غريباً يجول في داخلي: ما هي كلمتي الأولى بالعربية؟من أين أبدأ البحث؟

بدافع الفضول، اتصلت بأمي وسألتها مباشرة: "هل تتذكرين أول كلمة نطقت بها عندما كنت صغيرة؟". ردت بسرعة وثقة: "مّام".
ضحكت! لم تكن هذه الكلمة سوى محاكاة صوتية لطفلة ترتبط بالحنين إلى الحليب، بالكاد يمكن اعتبارها كلمة حقيقية.

كبرتُ، وتعلمتُ أن اللغة ليست مجرد كلمات، بل هي رحلة طويلة تبدأ بالأصوات الصغيرة التي يصدرها الأطفال، ثم تنتقل إلى المقاطع الصوتية التي تُكوّن الكلمات المُعبّرة عن الأشياء التي يحبونها أو يحتاجونها. هذا الإدراك ألهم المناهج التعليمية الحديثة، حيث أصبح التركيز على الأصوات أولاً  ثم الكلمات، وربطها دائماً بالأشياء المحببة كوسيلة أساسية لتعلم اللغة.

عندما استرجعت الماضي، أدركت أن كلماتي الأولى بالفرنسية لم تكن عبارات تحية... لا. لقد كانت: "يحيا شيراك... يحيا الأسد!"

أبجدية الطاغية

ولكن، ماذا عن كلمتي الأولى بالفرنسية؟ كوني الآن لاجئة أحمل بطاقة إقامة، بدأ تعلّمي للفرنسية متأخراً، في سن الأربعين. لم يكن الأمر يشبه خطوات الطفل البريئة؛ فبدلاً من الأصوات البسيطة، واجهتُ القواعد النحوية والجمل المعقدة. كانت هذه التجربة بعيدة كل البعد عن السهولة، ومليئة بالتحديات، لكنها حملت في طياتها شغفاً واكتشافاً جديداً،  فكرتُ أن كلماتي الأولى بالفرنسية ربما كانت: "Bonjour"، أو "Salut"، أو "Ça va".

لكن عندما استرجعت الماضي، أدركت أن كلماتي الأولى بالفرنسية لم تكن عبارات تحية... لا. لقد كانت: "يحيا شيراك... يحيا الأسد!".
ففي عام 1996، كنت طالبة في المرحلة الثانوية في سوريا، أقف تحت الشمس الحارقة في مطار دمشق الدولي، مع مئات الطلاب والطالبات، مفصولين كما في مدارسنا: البنات في جهة، والصبيان في جهة أخرى. كان الشيء الوحيد الذي يخفف حرارة الشمس هو مشاهدة الشباب من بعيد، كما في مشهد عادل إمام وسعاد حسني في أحد الأفلام، حيث تتبادل الشخصيات الابتسامات والغمزات والنظرات، لكن دون القدرة حتى على الكلام؛ فهم بعيدون في الجهة المقابلة، ويفصلنا ممر كبير مليء بالمسلحين الملثمين بالسواد.

اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد، اخترت كلماتي التي سأصدح بها في شوارع العالم كلّه، سأهتف باللغة الفرنسية وسأهتف باللغة العربية: "سقط الأسد… أنا حرّة، حرّة، حرّة"

هتاف بين مدينتين

هنا نرفع رقابنا الرقيقة كل حين، للتأكد أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك حط رحاله في دمشق، في زيارته التاريخية كأول رئيس فرنسي يزور سوريا، منذ نهاية الانتداب الفرنسي  عام 1947.

كنا نهتف بالفرنسية: "يحيا شيراك، يحيا الأسد". كنا نردّدها مستمتعين بجرسها الموسيقي دون أن نعي معناها، كانت السيارات السوداء تمر بسرعة، ساعات الانتظار الطويلة انتهت في لحظات لم نرَ فيها سوى عوادم  هذه السيارات والكثير الكثير من الملثمين.

إذن،  كلماتي الاولى بالفرنسية هي "يحيا شيراك، يحيا الأسد". أعتقد أن هذا السبب الذي  يجعل علاقتي مع اللغة الفرنسية  باردة ومزعجة. سبب ناجم عن تروما، حتى بدء فصل جديد في حياتي مع لغة جديدة أفسدها الطاغية الهارب.

بعد 26 عاماً من ذلك الهتاف البعيد، وبعد مجيئي إلى فرنسا كلاجئة، سألت صديقي الفرنسي: "هل هتفت يوماً لشيراك؟". ضحك وقال لي: "لم أهتف سوى لأمي وأبي، عندما كنت طفلاً أٌسعد في الحصول على الهدايا في ذكرى مولدي أو أعياد الميلاد".

اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد، اخترت كلماتي التي سأصدح بها في شوارع العالم كلّه، سأهتف باللغة الفرنسية وسأهتف باللغة العربية: "سقط الأسد… أنا حرّة، حرّة، حرّة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image