لدينا جميعاً لحظات "المرات الأولى" التي تترك بصماتها في حياتنا: الكلمة الأولى، الخطوة الأولى، الحب الأول، وحتى الزواج الأول. تلك اللحظات الفريدة، التي تبقى محفورة في ذاكرتنا أو تُروى لنا عبر أقاربنا، غالباُ ما تمثل الفرح والدهشة، وتحمل معاني عميقة تؤثر في مسار حياتنا.
ريما البندلي تباغتني بـ "يا أول كلمة حلوة بالتم"، فتوقظ فيّ نوستالجيا بعيدة، وتثير سؤالاً غريباً يجول في داخلي: ما هي كلمتي الأولى بالعربية؟من أين أبدأ البحث؟
كبرتُ، وتعلمتُ أن اللغة ليست مجرد كلمات، بل هي رحلة طويلة تبدأ بالأصوات الصغيرة التي يصدرها الأطفال، ثم تنتقل إلى المقاطع الصوتية التي تُكوّن الكلمات المُعبّرة عن الأشياء التي يحبونها أو يحتاجونها. هذا الإدراك ألهم المناهج التعليمية الحديثة، حيث أصبح التركيز على الأصوات أولاً ثم الكلمات، وربطها دائماً بالأشياء المحببة كوسيلة أساسية لتعلم اللغة.
عندما استرجعت الماضي، أدركت أن كلماتي الأولى بالفرنسية لم تكن عبارات تحية... لا. لقد كانت: "يحيا شيراك... يحيا الأسد!"
أبجدية الطاغية
ولكن، ماذا عن كلمتي الأولى بالفرنسية؟ كوني الآن لاجئة أحمل بطاقة إقامة، بدأ تعلّمي للفرنسية متأخراً، في سن الأربعين. لم يكن الأمر يشبه خطوات الطفل البريئة؛ فبدلاً من الأصوات البسيطة، واجهتُ القواعد النحوية والجمل المعقدة. كانت هذه التجربة بعيدة كل البعد عن السهولة، ومليئة بالتحديات، لكنها حملت في طياتها شغفاً واكتشافاً جديداً، فكرتُ أن كلماتي الأولى بالفرنسية ربما كانت: "Bonjour"، أو "Salut"، أو "Ça va".
اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد، اخترت كلماتي التي سأصدح بها في شوارع العالم كلّه، سأهتف باللغة الفرنسية وسأهتف باللغة العربية: "سقط الأسد… أنا حرّة، حرّة، حرّة"
هتاف بين مدينتين
هنا نرفع رقابنا الرقيقة كل حين، للتأكد أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك حط رحاله في دمشق، في زيارته التاريخية كأول رئيس فرنسي يزور سوريا، منذ نهاية الانتداب الفرنسي عام 1947.
كنا نهتف بالفرنسية: "يحيا شيراك، يحيا الأسد". كنا نردّدها مستمتعين بجرسها الموسيقي دون أن نعي معناها، كانت السيارات السوداء تمر بسرعة، ساعات الانتظار الطويلة انتهت في لحظات لم نرَ فيها سوى عوادم هذه السيارات والكثير الكثير من الملثمين.
إذن، كلماتي الاولى بالفرنسية هي "يحيا شيراك، يحيا الأسد". أعتقد أن هذا السبب الذي يجعل علاقتي مع اللغة الفرنسية باردة ومزعجة. سبب ناجم عن تروما، حتى بدء فصل جديد في حياتي مع لغة جديدة أفسدها الطاغية الهارب.
بعد 26 عاماً من ذلك الهتاف البعيد، وبعد مجيئي إلى فرنسا كلاجئة، سألت صديقي الفرنسي: "هل هتفت يوماً لشيراك؟". ضحك وقال لي: "لم أهتف سوى لأمي وأبي، عندما كنت طفلاً أٌسعد في الحصول على الهدايا في ذكرى مولدي أو أعياد الميلاد".
اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد، اخترت كلماتي التي سأصدح بها في شوارع العالم كلّه، سأهتف باللغة الفرنسية وسأهتف باللغة العربية: "سقط الأسد… أنا حرّة، حرّة، حرّة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
mahmoud fahmy -
منذ 3 ساعاتكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم
KHALIL FADEL -
منذ يومراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ يومينعمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ 6 أياماسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...