"وكأننا هربنا من دون أجسادنا"؛ هذا هو التوصيف الذي استخدمته سُكيْنة، اللبنانية الستينية المعوقة حركياً، للتعبير عن حالتها وحالة من هم مثلها، بعدما اضطرت إلى النزوح من قريتها في جنوب لبنان في ظروف طارئة تحت القصف الإسرائيلي، دون أن تتمكن من نقل كرسيها المتحرك معها.
لم تسجل سُكيْنة كلمتها في لحظة الهروب، وإنما بعد أيام على رحلة طويلة وشاقة إلى شمال لبنان، انتهت بها طريحةً في الفراش، وأسيرة مكانها، بلا كرسيها -الجسد- تستجدي ما يحرّكها، وتحتاج إلى العون في أبسط حاجاتها، وتستشعر العبء على من حولها في كل أنين تصدره تعبيراً عن آلامها.
توقفت الحرب، لكن سُكيْنة توفيت بعد 4 أيام من ذلك، فكانت رحلة نزوحها آخر فصل سجلته في قصة كفاحها، وكانت كلمتها أدقّ تعبير قدّمته في تصوير معاناة النزوح المضاعفة على ذوي الإعاقات خلال الحرب الأخيرة في لبنان.
"كان يمكن ألا يموتوا"
ومثل سُكيْنة، اثنان من ذوي الإعاقات الحركية "كان يمكن ألا يموتا"، بحسب ما تؤكد رئيسة الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً سيلفانا اللقيس، لولا عهود من التمييز والتهميش الممنهج بحق هذه الفئة الاجتماعية استمرت خلال الحرب الماضية، مثلما كانت قبلها، وأدت بنتيجتها إلى تعريضهم لظروف وتحديات "قاتلة".
يشكّل ذوو الإعاقة في لبنان ما بين 10 و15% من إجمالي عدد السكّان البالغ، أي ما يناهز مليون شخص تقريباً، نزح نحو 200 ألف منهم. تكشف الأرقام حجم المعاناة واتّساع رقعتها. وبحسابات أعمق، فإن تلك المعاناة لا تقتصر على ذوي الإعاقة وحسب، بل تشمل إلى جانبهم، خاصةً خلال الحروب والكوارث، عائلاتهم التي تصبح بدورها "معوقةً"
يشكّل ذوو الإعاقة في لبنان ما بين 10 و15% من إجمالي عدد السكّان البالغ نحو 7 ملايين، أي ما يناهز مليون شخص تقريباً من مختلف الأعمار، بحسب برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي. واعتماداً على الأرقام الرسمية اللبنانية لناحية نزوح نحو مليون و400 ألف مواطن لبناني خلال الحرب الأخيرة، يكون العدد التقريبي للنازحين من ذوي الإعاقة نحو 200 ألف.
تكشف الأرقام حجم المعاناة واتّساع رقعتها. وبحسابات أعمق، فإن تلك المعاناة لا تقتصر على ذوي الإعاقة وحسب، بل تشمل إلى جانبهم، خاصةً خلال الحروب والكوارث، عائلاتهم التي تصبح بدورها "معوقةً" بالحاجات والعناية الخاصة بالأفراد، وفق ما تشرح اللقيس، ما يضاعف على الأقل حجم المتأثرين بتداعيات الإعاقات والمعرّضين للخطر بفعلها ليقارب نصف مليون لبناني.
إلا أن هذا العدد الكبير من المواطنين المتضررين لم يحث الحكومة اللبنانية على التخلّي عن نهج التجاهل والإقصاء تجاه الفئات الاجتماعية المهمشة، خاصةً المعوقين. وعلى الرغم من كل المناشدات والتذكيرات التي وجهها المعنيون خلال عام كامل، إلا أن المسؤولين استمروا في رفع راية العجز عن شمول المعوقين، ولو بالحبر فقط على ورق خطط الطوارئ النظرية التي وُضعت قبل الحرب أصلاً، لذا ظلّوا كما تصفهم لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، "ضحايا الصراع المنسيين".
وبحسب الأمم المتحدة، فإن هذه الفئة المهمشة تواجه تحديات مضاعفةً خلال الأزمات، تشمل الحواجز المادية والتمييز الاجتماعي والسياسات الإقصائية التي تتجاهل احتياجاتهم. وبرغم أن لبنان قد شهد نزاعات سابقةً أثّرت بشكل مماثل على هذه الفئات، إلا أنّ حرب العام 2024 كان نقطة تحول بارزةً في حجم المعاناة والتمييز الممنهج الذي تعرّضوا له.
المعوقون حركياً... "في صحراء مقطوعة"
طوال فترة الحرب، عملت الناشطة الاجتماعية رنا غنوي، على مساعدة وتأمين احتياجات النازحين من الفئات المهمشة، خاصةً المسنّين وذوي الإعاقة.
تروي غنوي، لرصيف22، كيف كان الأفراد المعوقون عند إجلائهم من قراهم في الجنوب، يضطرون إلى اتخاذ قرارات حاسمة، تحت القصف وضغط الوقت وزحمة الإجلاء، بالتخلي عن معيناتهم الحركية، في سبيل إفساح المجال لصعود مزيد من الأشخاص في المركبات: "اكتشفنا هذا الأمر بعد وصولهم إلى مراكز النزوح حيث كانت المعينات الحركية من أكثر الحاجات المطلوبة".
ومن هنا بدأت رحلة عذاب الأشخاص المعوقين، خاصةً المعوقين حركياً وحسّياً، فبالنسبة لهم المعينات الحركية بمثابة امتداد لأجسادهم، فهي العضو البديل عن العضو المعطوب لديهم.
يتحدث خليل متيرك، المعوق حركياً، عن لحظات الرعب التي عاشها حين بدأ القصف يقترب من منزله، وكيف نُقل على الكرسي المتحرك من منزل إلى آخر في بلدة الزرارية، هرباً من الأماكن المُتوقع قصفها: "لم يكن لدي المال حتى للهروب من المنطقة. لم تكن لديّ كلفة البنزين للانتقال بالسيارة إلى صيدا".
كان متيرك خائفاً جداً من فكرة المبيت في الشارع إن غادر المنزل: "حاولت تأمين انتقال آمن عبر الإسعاف، وحاول اتحاد المقعدين مساعدتي وتأمين منزل جاهز لاستقبالنا، ولكن الانشغال الكبير لمنظومة الإسعاف بمراكزها كلها في ذلك الوقت، حال دون الاستجابة، إلى أن ارسل الله لي شاباً تبرّع بتكلفة الوقود، وهربنا إلى صيدا".
ومن مركز بلدية صيدا إلى كلية الإدارة والعلوم في الجامعة اللبنانية، بدأت رحلة خليل مع "العذاب والبهدلة" كما يقول: "منذ لحظة وصولي أدركت أن لا شيء مؤمّن، وأن الأمور ستكون صعبةً. لم يكن هناك حتى فراش لنجلس عليه، ففرشت قطعتَي الملابس اللتين حملتهما معي ونمت عليهما على الأرض دون حتى إسفنجة تحتي".
لم يكن مركز النزوح مجهّزاً بأي شكل من الأشكال لاستقبال أفراد معوقين، فالطابق الأرضي الذي كان يمكن أن يكون الخيار الأسهل، مشغول من قبل الإدارة ولم يُتَح للنازحين، ما دفع إلى نقل خليل إلى الطابق الثاني، حيث "علق" هناك، كما يقول، و"أصبح كل شيء يتطلب حملي، نزولاً وصعوداً، والمصعد لا يعمل، والحمامات صغيرة جداً وفي أسوأ حالاتها. كنت أحتاج إلى مساعدة من أحد ما للدخول والخروج. كان وضعاً محرجاً ومربكاً. ليومين متتاليين لم يكن بإمكاني إلا التبول فقط".
لم يجد خليل حماماً يناسب احتياجاته إلا في مخفر الدرك القريب، وكان بحاجة إلى من ينقله من الطابق الثاني إلى الأرضي ثم إلى غرفته مجدداً كلما أراد الذهاب إلى الحمام: "معاناة ما بعدها معاناة".
وحين التفت أحد إلى وضع خليل، اقترحوا نقله إلى مكان أرضي مهجور خلف الجامع، حيث غرفة بلا كهرباء ولا ماء ولا منامة، والمنطقة مقطوعة ومعزولة عن كل شيء: "قلت لهم أبقوني هنا أرحم لي".
في غرفة المدرسة لم يكن الأمر أفضل، حيث اضطر خليل إلى التنقل بين كرسيه المتحرك والأرض، بعدما فشلت كل محاولاته لتأمين سرير مرتفع يمكّنه من الانتقال إلى الكرسي المتحرك بسهولة دون مساعدة، خاصةً أن والدته مُنعت أحياناً من مرافقته في قسم المركز المخصص للرجال.
"انتهت الحرب، ولم يصل السرير"، لكن حالة خليل الصحية ساءت وبدأ التورم في قدميه بسبب قلة الحركة، وتعرّض لعقر في فخذه بسبب الجلوس، وبدأت رحلة شاقة أخرى مع الأوجاع وتأمين الأدوية، وما زالت مستمرةً معه حتى بعد انتهاء الحرب.
الغائب الأبرز عن قصة خليل، الدولة اللبنانية التي لم تحضر في أي تفصيل منها: "هي 50 دولاراً وصلت باسم 9 أفراد من العائلة"، لا تكفي يوماً واحداً لواحد منهم. وحده عنصر في قوى الأمن الداخلي "حنّ عليّ" كما يقول خليل، وسمح له بالنوم آخر أيام الحرب في مخفر الدرك: "كان هذا أفضل ما حصل".
ومن معاناته الخاصة إلى المعاناة العامة، عاد خليل إلى قريته ليكتشف أن الحرب أودت بدكانه الصغير الذي كان يعتاش منه لفترة طويلة ولا يعرف عملاً غيره، حتى كرسيّه الآلي تمزّقت عجلاته بسبب الزجاج، ليجد نفسه مكبّلاً من جديد، بلا عمل ولا أمل، ينتظر تعويضات لكنه لم يصل بعد إلى مرحلة الكشف على الأضرار حتى: "أشعر أنني محبوس، أو تائه في صحراء مقطوعة".
في غرفة المدرسة لم يكن الأمر أفضل، حيث اضطر خليل إلى التنقل بين كرسيه المتحرك والأرض، بعدما فشلت كل محاولاته لتأمين سرير مرتفع يمكّنه من الانتقال إلى الكرسي المتحرك بسهولة دون مساعدة، خاصةً أن والدته مُنعت أحياناً من مرافقته في قسم المركز المخصص للرجال. "انتهت الحرب، ولم يصل السرير"
المعوقون سمعياً... "كان كل شيء من حولنا مصمماً لإقصائنا"
بلغة الإشارة، يروي حسن كيف كان يقرأ الخوف في وجوه الناس عند القصف، ويشعر بالاهتزازات ويرى من حوله يهرعون ويقفزون دون أن يفهم ما يجري، ما كان يزيد من خوفه، حتى يشرح له أحدهم الأمر بعد دقائق صعبة، وكانوا يطلبون منه حمل أمتعته والهرب دون تفسير بسبب الطوارئ.
تكمن المشكلة الأساسية لفئة المعوقين سمعياً في صعوبة التواصل مع محيطهم في أثناء الأزمات، ما يعيق وصولهم إلى المعلومات والتوجيهات، خاصةً عند صدور أوامر الإخلاء أو تحذيرات القصف، ما يضطرهم إلى الاعتماد بالكامل على العائلة أو الجيران والأصدقاء، ويجعلهم رهينة قرارات الآخرين، فلا أحد يستشيرهم أو يأخذ بقرارهم.
عند وصولهم إلى مراكز النزوح أو البيوت، تبدأ مشكلة أخرى، إذ لا يعرف أحد كيف يتواصل معهم ولا هم يستطيعون التعبير عن حاجاتهم، ما يمنعهم من معرفة أبسط المعلومات الأساسية، مثل كيفية الحصول على المساعدات، وتأمين مستلزماتهم، أو حتى موقع الحمامات.
وحتى إذا وصلوا إلى المعلومات، فإن آليات النزوح ونظام تقديم المساعدات، مثل تعبئة الاستمارات وإجراء المقابلات، تفوق قدراتهم بسبب الصعوبات في التعلم والقراءة، واعتمادهم على لغة الإشارة، ما يجعل التعليمات المكتوبة أو المسموعة غير قابلة للفهم من دون مترجم.
تنقل نائلة الحارس، وهي مترجمة ومدرّبة على لغة الإشارة عملت على مساعدة هذه الفئة خلال الحرب، معاناة النازحين العالقين في الطرقات في "يوم النزوح الكبير"، حيث كان القصف يحيط بهم وهم عالقون في سياراتهم لا يعرفون ماذا يفعلون، أو كيف يتصرفون، أو أيّ طريق يسلكون.
بعض الأفراد، وفقاً لنائلة، لم يدركوا ما يحدث إلا بعد الوصول إلى مكان النزوح. كثر منهم لم يجلبوا حاجاتهم الأساسية مثل الأدوية أو الهوية، وبعضهم ظنّ أنّ الأمر حريق بسيط: "أحياناً لا يكلّف أحد خاطره ليشرح لهم أبسط الأمور".
يعتمد هؤلاء الأفراد على تبادل المعلومات في ما بينهم، وهو أمر تعذر خلال النزوح بسبب غياب وجهات نزوح مخصصة لهم، وهي مسألة كانت تنبغي معالجتها ضمن خطط الطوارئ الحكومية، "لكنها أُهملت".
هذا النقص في المعلومات يحرم هذه الفئة أحياناً من القدرة على تقدير المخاطر، مثلما حصل مع عائلة من الصمّ في صور، حيث قرروا، بحسب نائلة، البقاء في المنزل برغم التحذيرات، لعدم قدرتهم على تقدير الخطر أو اتخاذ قرار الرحيل مع وجود كبار في السنّ، ما أدى إلى استشهادهم بالكامل بعد قصف منزلهم.
عمل أفراد مجتمع الصمّ في بيروت والمناطق الآمنة على مساعدة النازحين من فئتهم عبر تأمين الأماكن والمساعدات، لكن مع ذلك استمرت معاناة الكثيرين بسبب نقص الإمكانات لتلبية الاحتياجات الكبيرة للنازحين من الصمّ وعائلاتهم.
حتى عندما قررت وزارة الشؤون الاجتماعية، تخصيص دعم مالي لفئة الصمّ (100 دولار في الشهر لمدة 3 أشهر ممولة من اليونيسف)، صدر البيان ونُشر دون أن تتم ترجمته إلى لغة الإشارة التي يفهمها المستفيدون، وفق ما تؤكد الحارس. وفي نهاية البيان، طلبت الوزارة ممن لديه سؤال أو استفسار الاتصال بالوزارة: "كيف يمكن للصمّ أن يتصلوا بالوزارة من دون فيديو كول أو من دون مترجم؟".
وتتحدث نائلة، عن لحظات غريبة شهدت فيها بالفعل على هذه الاتصالات حيث كانت الوزارة تطلب التحدث مباشرةً مع الشخص المعني صوتياً، للتأكد من هويته واستفادته المباشرة من الدعم المالي: "لا أدري كيف كانوا يطلبون ذلك، ولكنه كان مؤشراً واضحاً على عدم الاختصاص والدراية بخصائص الفئة الاجتماعية التي يعملون معها".
حتى مراكز الإيواء لم تضمّ أيّ لافتات أو مترجمين أو توجيهات مخصصة لذوي الإعاقات السمعية: "من وضع خطة الطوارئ بالتأكيد لم يفكر حتى في وجود هذه الفئة وما قد تحتاجه"، حتى الأجهزة الأمنية والحكومية ووسائل الإعلام التي لم توفر لهم أي وسائل ترجمة للتواصل معهم أو إطلاعهم على المستجدات.
التمييز والإقصاء انسحبا على التقديمات والمساعدات أيضاً، فنقص المعلومات وعدم توافر مترجمين، جعلاهم جاهلين بأوقات وصول المساعدات والطعام وآلية التوزيع، وغير قادرين على التعبير عن حاجاتهم أو طلب المساعدة، خاصةً أنّ أصحاب هذا النوع من الإعاقات "يتجنّبون عادةً الانخراط في الأماكن المزدحمة أو التي تتطلب تواصلاً مع محيطهم".
يعبّر حسن كيف أنّ كلّ شيء من حولهم كان مصمماً لإقصائهم. لم يكن ذلك وليد الحرب، بل كان نتيجة عهود من التجاهل بحاجات هذه الفئة. حتى لغة الإشارة، لم يكن متاحاً للجميع تعلّمها، كما أنها ليست موحدةً بين الجميع في لبنان، إذ تختلف باختلاف المدارس التي تعلّمها، ليزداد التواصل صعوبةً حتى بين بعضهم البعض.
نزوح المكفوفين... "عبور في الظلام"
بالنسبة إلى المكفوفين، كل لحظة نزوح خلال الحرب، كانت تمثل عبوراً في الظلام دون دليل، "كأنك تُساق إلى المجهول، بلا قدرة على رؤية الطريق أو فهم ما يجري"، وكما هي حال المعوقين سمعياً كانت فئة المعوقين بصرياً ضحية أخرى لنقص الوصول إلى المعلومات بفعل الآليات التمييزية والإقصائية لخطط الطوارئ التي أدارت أزمة النزوح.
"عندما يحدث انفجار أو خطر، الكفيف يشعر بالارتباك لأنه لا يعرف مصدر الصوت ولا الاتجاه الذي يجب أن يسلكه. قد يركض بشكل لا شعوري في اتجاه غير معلوم، مما يعرضه للخطر"، يلخص إبراهيم عبد الله، الناشط الحقوقي والخبير لدى الإسكوا في شؤون الإعاقة، تجربة الآلاف من فئة المعوقين بصرياً وما عانوه وسط فوضى الحرب الأخيرة على لبنان، فلأن لديه إعاقة بصرية، اهتم بشكل خاص بحاجات أفراد هذه الفئة، من خلال جمعية مختصة ينتمي إليها، الأمر الذي جعله مطلعاً على واقع هذه الفئة خلال النزوح.
أولى العقبات كانت الإجلاء. لم يكن لدى كثيرين منهم القدرة على اتخاذ قرارات فورية أو الوصول إلى مراكز الإيواء بمفردهم، خاصة أولئك الذين يعيشون باستقلالية بعيداً عن العائلة. "تخيل أن تكون كفيفاً وسط القصف"، يقول إبراهيم ويضيف: "لا تعرف من أي اتجاه يأتي الخطر، ولا يمكنك الاعتماد على ردود أفعال الآخرين لأنك لا تراها".
كان الانتقال إلى مراكز الإيواء شبه مستحيل بالنسبة لأفراد هذه الفئة. يروي إبراهيم عن حالات عديدة لمكفوفين عجزوا عن مغادرة مناطق الخطر بسبب غياب المرافقين أو عدم قدرتهم على التنقل دون عصيهم التي تركها البعض خلفهم تحت ضغط القصف. كثيرون اضطروا للاعتماد على جيران أو أصدقاء في اللحظة الأخيرة، وأحياناً وجدوا أنفسهم وحيدين، عاجزين عن الهرب أو النجاة.
في مراكز النزوح، تستمر المأساة. التنقل داخل هذه المراكز كان تحديًا كبيرًا للمكفوفين، الذين يعتمدون عادة على بيئات مألوفة ومجهزة، بينما غابت تماماً أي علامات إرشادية ملموسة أو توجيهات صوتية. "كنا كالأغراب في أماكن لا نفهمها"، ويوضح إبراهيم أن الوصول إلى الحمامات أو أماكن توزيع المساعدات كان شبه مستحيل دون مساعدة مستمرة.
يجزم إبراهيم أنه لم يكن هناك في كل لبنان مركزاً واحداً مؤهّلاً لاستقبال المكفوفين، أو يأخذ بعين الاعتبار حاجاتهم وخصوصياتهم، "ولا أي مركز، بعض الجمعيات والمنظمات حاولت تقديم المساعدة، لكن الحاجة بقيت أكبر بكثير، لكن لولا هذه المساعدات لكانت الأزمة أكبر بكثير بعد".
أما الحصول على المعلومات، فكان معضلة أخرى. بقي المكفوفون في عزلة معرفية. "لم يكن هناك أي اهتمام بجعل المعلومات متاحة لنا"، يشرح إبراهيم، "حتى عندما كانت هناك إعلانات مكتوبة أو مرئية، لم تُترجم إلى صيغة صوتية أو بطريقة برايل". هذا النقص في المعلومات حرم المكفوفين من معرفة أوقات توزيع المساعدات أو مواقع الخدمات الأساسية، مما جعلهم عرضة للتهميش داخل مراكز النزوح أيضاً.
"حتى العصا، التي تمثل وسيلتنا الأساسية للتنقل، لم تكن متوفرة لمن فقدوها أثناء النزوح أو تعرضت للكسر"، يضيف إبراهيم، ويتابع: "خلال الحرب، شهدنا حالات لمكفوفين عالقين في منازلهم دون أي وسيلة للخروج، أو في مراكز نزوح لم تأخذ احتياجاتهم بعين الاعتبار، ما جعلهم أكثر اعتماداً على الآخرين، رهينة العشوائية، معتمدين دون استقلالية".
ويؤكد إبراهيم أن معاناة المكفوفين لم تقتصر على الأيام الأولى من النزوح. "تجاهل احتياجاتنا استمر بعد الحرب"، يقول بأسف، مشيراً إلى نقص الأجهزة المساعدة مثل أجهزة قياس الضغط أو الحرارة الناطقة، والتي يحتاجها المكفوفون لإدارة حياتهم الصحية. حتى الأدوية الضرورية مثل دواء ضغط العين كانت تُستثنى من خطط الإغاثة، مما زاد من المخاطر الصحية، " كنا نحاول توفير هذه الأدوية عبر تمويل خارجي، لكن المشكلة كانت في الحصول على موافقة وزارة الصحة لاستيرادها، لم تكن المهمة سهلة."
لم تكن مراكز النزوح مخصصة للتعامل مع فئة المعوقين بصرياً إلى حد أن بعض المراكز كانوا يرفضون استقبال المكفوفين إلا بوجود مرافق لهم، "يعاملونهم كمن يعانون من إعاقة ذهنية. هذا التعامل كان مزعجًا وغير منطقي"، يقول إبراهيم، مضيفاً أن هذه الحالات كانت تتطلب تدخّلاً مباشراً من ناحيتهم لتأمين الأشخاص في مراكز إيواء، "وكانوا قادرين على التكيف بمساعدة بسيطة جداً. الأمر لا يتطلب سوى القليل من الدعم الإضافي".
أما الأفراد الذين لجأوا إلى منازل مع أقاربهم أو في أماكن بعيدة عن مراكز الإيواء، "انقطعت عنهم أي مساعدات".
المعوقون ذهنياً... "الوضع كارثي هنا"
تصف سيلفانا اللقيس، أوضاع ذوي الإعاقات الذهنية خلال نزوحهم في الحرب بالكارثية، خاصةً في مراكز النزوح المكتظة. "كانوا يُوضعون في ظروف غير إنسانية، مثل النوم بين الشراشف دون غرف منفصلة. الأشخاص الذين يعانون من الإعاقات الذهنية، سواء كانوا أطفالاً أو بالغين، لم يستطيعوا التكيّف في مثل هذه البيئة، ما أدى إلى عيش البعض منهم في الشوارع فعلياً".
بدأت رحلة نزوح رهف، مع عائلتها في شاحنة صغيرة أمضوا فيها 48 ساعةً وهم يتنقلون من مكان إلى آخر. يقول والدها عبد، لرصيف22: "المعاناة الأكبر في هذه الرحلة الشاقة كانت رهف وحالتها الخاصة. تخيّل أن تقضي 48 ساعةً في الشاحنة وهي تعاني من اضطرابات ونوبات! سماعها الأحاديث والنقاشات داخل الشاحنة حول الحرب في أثناء تنقّلنا جعلها في حالة توتر دائم، فهي تفهم كل ما يدور حولها دون أن تستطيع التعبير أو الحديث عنه، بسبب صعوبات في النطق، بالإضافة إلى التحديات المرتبطة بالحمام، والأدوية، والحفاضات".
ومن أقصى الجنوب إلى الجبل وصولاً إلى أقصى الشمال بحثاً عن مأوى، استقرت عائلة رهف أخيراً في حلبا. كان من المفترض أن تتابع موعداً مع طبيبها لإجراء تخطيط للدماغ لتحديد الجرعات الدوائية، لكن خلال التهجير كان طبيبها غير متاح، ولم تكن تعرف العائلة كيف تستمر في تقديم الرعاية لها.
أصبحت رهف تصاب بحالات توتر شديد ونوبات، كلما سمعت بكاءً أو أصواتاً عاليةً أو شعرت بالرياح القوية أو الأمطار. هذه الأجواء، إلى جانب عدم توافر مدرسة أو مركز تأهيل لرعايتها، جعلت حالتها تزداد صعوبةً. "وما زلنا نواجه هذه المعاناة حتى الآن"، يقول والدها.
هذه الظروف تجعلها تتصرف بطريقة تؤثر على كل من حولها. تحتاج دائماً إلى الشعور بالطمأنينة والاستقرار لتستسلم وتهدأ، وهو أمر نادراً ما كانت تحققه، فالمنزل الذي نزحت إليه العائلة لم يكن مكاناً ملائماً للسكن كما يشرح والدها، ويضيف: "كنّا 18 شخصاً نعيش في غرفة واحدة ومطبخ. عانت رهف كثيراً تحت الضغط والازدحام. عندما تتوتر، تدخل في نوبات بكاء طويلة تستمر لساعة أو ساعتين وأحياناً ثلاث ساعات، بشكل متكرر ودون توقف. وكأنها تدخل في حالة انقطاع عن التواصل تماماً".
في كثير من الأحيان، كان يضطر عبد إلى الخروج بها في منتصف الليل وقيادة السيارة لساعات حتى تهدأ قليلاً: "كل هذا ضاعف معاناتنا، سواء على المستوى العصبي النفسي، أو المادي. لم تكن رهف وحدها تعاني، بل تأثر محيطها بالكامل بهذه النوبات التي زادت من الضغط العام علينا".
أما الدولة، "فلم تكن موجودةً، لا خلال الحرب ولا في السلم" كما يقول عبد. يشتري عبد أدوية الكهرباء على نفقته الخاصة، لأنها ليست مصنّفةً ضمن الأدوية المزمنة التي تؤمّنها الوزارة، ويتحمل كل علاجها ورعايتها على حسابه الخاص.
خلال زيارته للمدارس ومراكز النزوح، شاهد عبد، حالات صعبةً جداً في ظل الاكتظاظ وغياب أبسط مقومات العيش خاصةً لذوي الإعاقة: "برغم معاناتي، شعرت بأنني أفضل حالاً مقارنةً بما رأيته، وكما يقال: حين ترى مصيبة غيرك تهون عليك مصيبتك".
وبرغم انتهاء الحرب، لا تزال الأصوات العالية تثير لدى رهف حتى اليوم حالةً من الهلع: "أي صوت عالٍ يجعلها تقفز من مكانها، حتى لو لم يكن هناك طيران، وتسأل: سمعت الطيران؟ فيما يزيد من معاناتها عدم تلقّيها التعليم اللازم لدمجها في محيطها بسبب عدم توافر الوصول إليه بسهولة وبتكلفة معقولة يمكن للأسرة تحمّلها"، يختم الأب حديثه.
أصبحت رهف تصاب بحالات توتر شديد ونوبات، كلما سمعت بكاءً أو أصواتاً عاليةً أو شعرت بالرياح القوية أو الأمطار. "وما زلنا نواجه هذه المعاناة حتى الآن".
إقصاء "منذ البداية"
تؤكد غنوي، أن خطط الطوارئ منذ بداية الحرب في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لم تراعِ احتياجات المعوقين وخصوصيتهم. عندما أثارت هذه النقطة في الاجتماع الأول للجان الطوارئ، الجميع قال: "نحن لا نميّز الآن بين النازحين، بل نضع خططاً شاملةً للجميع".
إلى هذا الحدّ لم يكن المعنيون بوضع خطط الطوارئ على دراية حتى بمفهوم التمييز تجاه الفئات المهمشة. تشرح غنوي، أن هذه الشمولية نفسها شكل من التمييز، إذ تؤمّن حاجات العموم دون مراعاة الحاجات المخصصة للفئات المهمشة، مثل المعوقين، وتالياً لا يتلقى الأخيرون التقديمات والخدمات المناسبة لأوضاعهم على غرار البقية. هؤلاء لا يمكنهم استخدام الفراش الأرضي، والحمامات الصغيرة، أو صعود الأدراج، وكل هذه التفاصيل غابت عن الخطط.
الاتحاد اللبناني للمعوقين طالب، منذ بداية الأزمة، إدارة الكوارث ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بإدراج "وحدة دمج الإعاقة بخطة الكوارث" ضمن إدارة الكوارث. وبرغم الإيجابية التي قابلت الاقتراح، وتأكيد مستشار رئيس الحكومة أن هذه الوحدة ستنشأ، لم يحصل شيء.
طلب الاتحاد قبل عام أيضاً بأن تقوم البلديات بجمع وتنظيم معلومات الأشخاص ذوي الإعاقة في مناطقها ومشاركتها مع غرف العمليات، وأبدى استعداداً لتدريب المسؤولين عن التخطيط للطوارئ، لضمان إخلاء آمن. كذلك طلب من لجنة الإغاثة في كل قضاء إعداد مركز يقدّم بعض الخدمات للمعوقين، لكن للأسف، لم يُنفَّذ أيّ من ذلك.
كذلك توجّه الاتحاد إلى اللجان المحلية في صور والجنوب والبقاع: "كنا نسألهم عن مواقع المراكز، وما إذا كانت مجهزةً، وكانوا يقولون بكل صراحة إنه في حال وصول أحد من ذوي الإعاقة في تلك الفترة قبل سنة، كانوا يقولون له: اذهب ورتّب أمورك بنفسك في أي منزل، لأن المراكز غير مجهزة"، وفق ما تؤكد اللقيس.
وتضيف أنّهم عملياً كانوا يقولون للشخص: "ابقَ في خطر، إذا أردت، لأنه ليس لكل شخص مكان يمكنه اللجوء إليه. ربما كانت هناك حالة من العجز، حتى لو أرادوا فعل شيء. لا أعرف السبب، لأنني عندما كنت أتحدث إليهم، لم يكونوا يبدون أي ممانعة أو رفض لاقتراحاتنا، لكن ربما لم يكن الأمر أولويةً بالنسبة لهم، أو كان هناك فشل وعجز تام".
يعود ذلك كله بحسب غنوي، إلى افتقار لبنان منهجيةً تدمج ذوي الإعاقة في الأماكن العامة، حيث لا يزال هذا المطلب البديهي والمفروغ منه، موضع نضال وعمل المنظمات الحقوقية المعنية بقضايا ذوي الإعاقة، وذلك برغم توقيع لبنان على اتفاقات دولية ومصادقته على قوانين بقيت عبارةً عن التزامات شكلية دون تطبيق فعلي، والعذر دائماً هو نقص الميزانية اللازمة.
لا مبرر لكل ما حصل بالنسبة للقيس: "كان هناك وقت كافٍ للتخطيط، لأن الحرب لم تبدأ فجأةً. كان لديهم نحو سنة تقريباً بعد الموجتين الأولى والثانية من النزوح، حيث نزح عدد كبير من الأشخاص ذوي الإعاقة مع عائلاتهم. كان هناك دائماً طلب على الكراسي المتحركة، والحفاضات، والأدوية اللازمة في مراكز النزوح. كانوا على علم بكل هذه التفاصيل، ولكن للأسف، كان من الواضح أن حمل هذا العبء لم يكن موزعاً بشكل جيد أو مسؤولة عنه جهة واحدة.
المدارس الرسمية... رمزاً للتهميش
على سبيل المثال، لطالما كان الدمج في التعليم الرسمي من أكثر الشعارات التي نادى بها المسؤولون اللبنانيون في معرض مناصرتهم لقضايا ذوي الإعاقة، ومع ذلك لا تزال المدارس الرسمية بحد ذاتها في لبنان رمزاً من رموز التهميش بحق المعوقين، ويتضح ذلك في كل مرة تُستخدم فيها المدارس للخدمة العامة، سواء في أوقات الدراسة أو في زمن الانتخابات أو خلال الكوارث. الأماكن نفسها غير المجهزة لاستقبالهم كناخبين، لم تكن مجهزةً أيضاً لاستقبالهم كنازحين.
تقول غنوي: "في كل مرة تظهر المدارس الرسمية غير مجهزة بأبسط المتطلبات اللازمة لاستقبال ذوي الإعاقات، بمن فيهم الطلاب، على الرغم من أن التعليم الرسمي، قانوناً، يجب أن يكون متاحاً للجميع، لكن الواقع أن المدارس لا تزال تفتقر إلى تجهيزات هندسية وبشرية ولوجستية، وحتى إلى تعديلات في المناهج التربوية".
مفهوم الدمج بحد ذاته مغلوط في لبنان، بحسب الناشطة الاجتماعية، إذ يقتصر في مؤسسات الدولة والمدارس المجهزة على توفير "الرمب" للكراسي المتحركة، وفي أحيان كثيرة بمواصفات غير مناسبة لناحية المنعطفات ودرجة الانحناء.
حتى إدارات المدارس من كوادر تعليمية وغيرهم، الذين أداروا بدورهم أماكن النزوح، لم يكونوا مؤهلين للتعامل مع ذوي الإعاقة، وغالباً لم يلاحظوا وجودهم، وفق ما تؤكد غنوي، فعند السؤال عن أعدادهم، كانت تُحسب الإعاقات الحركية فقط، بينما يُهمَل المعوقون سمعياً وبصرياً وذهنياً، ما يُظهر نقص التأهيل في إدارة هذا النوع من الأزمات.
وكان الاتحاد اللبناني للمعوقين حركياً قد أعدّ قائمةً بالمدارس المجهزة منذ الانتخابات، واقترح استخدامها لتحديد مراكز النزوح مع أولوية لذوي الإعاقة، خاصةً أن عددهم لا يتجاوز المئة في كل لبنان، دون جدوى. حتى أن هناك مدارس مجهزةً لاستقبال ذوي الإعاقة كمدرسة بئر حسن في بيروت، لكن "تفاجأنا بأن تلك الأقسام المجهزة كانت مغلقةً أمام النازحين، بينما الأماكن غير المجهزة كانت مفتوحةً"، بحسب ما تؤكد اللقيس.
أماكن الدمج يجب أن تتضمن تقديمات مناسبةً لتكون دامجةً، بحسب غنوي، مثل مساعدين للتنقل، ورعاية صحية من ممرضين متخصصين، وخدمات تلبي احتياجات ذوي الإعاقة… على سبيل المثال، الحفاضات حاجة أساسية لبعض الأشخاص الذين يحتاجون إلى تغييرها مرات عدة يومياً، تماماً كضرورة استخدام المرحاض للعموم. "تجاهل هذه الحاجات يُعدّ إهانةً لكرامتهم ويضرّ بصحتهم، كما أن عدم توفير كرسي متحرك لأسبوع يعادل فقدان القدمين للفترة نفسها، وهو ما لا يدركه المعنيون".
أما المساعدات، فكانت موجهةً إلى النازحين في المدارس، باعتبارهم الأكثر حاجةً، وهو أمر غير صحيح، وفق الناشطة الاجتماعية، فكثير من الفئات المهمشة وبينهم ذوو الإعاقات كانوا في منازل المجتمع المضيف، ما ترك شريحةً كبيرةً من النازحين دون مساعدات، "حتى وصلت الأمور إلى حد التخمة في المدارس وبدأ نقل التبرعات إلى البيوت".
حتى المنظمات الإنسانية والجهات الصحية مارست التمييز
الحاجات الدوائية واجهت التمييز ذاته، إذ ألغت وزارة الصحة اللبنانية تغطية أدوية ضرورية لذوي الإعاقة، مثل علاج العقر الناتج عن الجلوس الطويل، عادّةً إياها "عمليات تجميليةً". توقف الدعم الذي كان يشمل 90% من التكلفة بسبب نقص الميزانية والانهيار المالي، أدى إلى وفاة أشخاص لعدم قدرتهم على تغطية تكاليف العلاج، وفقاً لغنوي.
من جهتها، تصف اللقيس، قرار وزارة الصحة بالكارثة، مشيرةً إلى أنها خاطبت الوزير لحلّ المشكلة غير المقبولة فوراً. وأوضحت أن قانون الإعاقة كان قد أُقِرّ سابقاً لتغطية العلاجات الضرورية التي كانت تُعدّ "عمليات تجميليةً"، لكن الآن تُلغى القوانين دون استبدالها ما يزيد تدهور الأوضاع.
ولا يقتصر التمييز بحق هذه الفئات على الجهات الرسمية وحسب، بل يمتد أيضاً ليشمل جمعيات ومنظمات إنسانيةً وإغاثيةً، خاصةً في الكوارث حيث تقدمت بالنسبة لهم أولويات العموم واحتياجاتهم على الفئات المهمشة، فكان توزيع 1،000 بطانية أولى من 10 كراسٍ متحركة، والأمر نفسه بالنسبة للمتبرعين والجهات المانحة التي تكون أكثر تجاوباً مع تمويل الحاجات العامة خلال الكوارث.
كذلك المؤسسات التي تغطّي معينات حركيةً وغيرها من حاجات ذوي الإعاقة، اعتمدت آليات تقديم معقدة كاستخدام استمارات إلكترونية غير مألوفة لشريحة واسعة من هذه الفئة، خاصةً من غير المتعلمين أو المطلعين تقنياً، ما شكل نوعاً آخر من الإقصاء لمن لا يملكون المعرفة التقنية.
كما أن الأعباء المالية للنزوح كانت أعلى على ذوي الإعاقة، إذ تضاعفت مثلاً تكلفة نقل المعوقين وأجهزتهم، وبينما كان غيرهم يدفع كلفة راكب واحد كانوا يتكبدون كلفة 3 ركاب، بالإضافة إلى تكاليف الأدوية والحاجات الخاصة التي تفوق ما يتحمله الآخرون، بينما كانت التقديمات المالية لهم إما مساويةً أو أقل من غيرهم.
وتخلص غنوي، إلى أنه لم يكن لدى النازحين من ذوي الإعاقات في لبنان أي نظام استجابة قائم لحاجاتهم، لا من الحكومة ولا من المؤسسات والجمعيات أو المنظمات الإنسانية والجهات المانحة.
حتى إحصاء دقيق لدى الدولة اللبنانية أو المنظمات المعنية يحدد حجم هذه الفئة لدراسة حاجاتها، غير متوافر، "فكيف لدولة لا تعرف أحوال مواطنيها ونسبتهم أن تؤمّن حاجاتهم؟".
الأمل في إعادة الإعمار
الأحداث التي حصلت تفرض، وفق اللقيس، على الجهات المعنية الإسراع في وضع خطة احترازية لعام 2025، وتنفيذ كل الترتيبات التي طُلبت سابقاً ولم تتم الاستجابة لها. بالإضافة إلى ذلك، هناك فرصة في أثناء إعادة الإعمار للعمل على تضمين احتياجات الفئات المهمّشة في المباني الجديدة، إلا أننا لا نعرف متى يمكن البدء بذلك.
في المحصلة، تصف رئيسة الاتحاد اللبناني للمعوقين ما حدث مع ذوي الإعاقة في رحلة نزوحهم بأنه "كان جريمةً موصوفةً، ومستمرةً، فالواقع الذي عاشه ذوو الإعاقات كان مهيناً ومؤذياً بشكل لا يمكن وصفه"
استناداً إلى تجربة عام 2007، بعد حرب 2006، كان على الناشطين متابعة الممولين ومجلس الإنماء والإعمار ووزارة الأشغال والحكومة لتنفيذ تلك الخطط. لكن الأساسيات كانت مفقودةً، ولم يتم إعمار البلاد بشكل يأخذ في الاعتبار احتياجات الفئات الاجتماعية المختلفة، بما في ذلك الأشخاص ذوي الإعاقة.
تعبّر اللقيس، عن قلقها اليوم من مسألة قانونية قد تعيد تكرار الخيبة نفسها. فالقانون الحالي ينصّ على أنّ الأبنية الجديدة يجب أن تكون مجهزةً لتلبية احتياجات جميع الفئات، "لكن الخوف هو أن يحصل البعض على تراخيص ترميم بدلاً من إعادة إعمار، ما يعني أنهم قد يتجنبون الالتزام بالقوانين التي تفرض تجهيز الأبنية. إذا استمر هذا الوضع، فسيكون بمثابة جريمة جديدة تُرتكب بحق الفئات المهمّشة".
وتضيف: "نحن ندفع الثمن في كل مرة. خلال الحروب، وفي خطط النهوض أو إعادة الإعمار. في هذه المرحلة، هناك فرصة لإعادة البناء، خاصةً أن الحرب دائماً ما تترك آثارها على المجتمع".
عدد الأشخاص ذوي الإعاقة والمتضررين من الحرب ارتفع بشكل كبير، خصوصاً بعد النزوح الكبير الذي تعرّضوا له. وبعد كل المعاناة التي واجهوها، لا يستحقون أن يتم تجاهلهم في خطط إعادة الإعمار. يجب أن تكون هناك إعادة بناء بطريقة تُدمج هذه الفئة في المجتمع أكثر، وهذا ما نعمل على متابعته: "إذا كانت هناك نية حقيقية للإصلاح، يمكن تصحيح هذا الوضع، لكن الأمر يتطلب إرادةً حقيقيةً".
مفتاح الحلّ، بحسب غنوي، يكمن في تغيير النظرة العامة إلى ذوي الإعاقة، وبدلاً من مقاربة قضاياهم وتأمين حاجاتهم من منطلق "الشفقة" أو "العمل الخيري"، يجب اعتماد المعيار الحقوقي.
في المحصلة، تصف رئيسة الاتحاد اللبناني للمعوقين ما حدث مع ذوي الإعاقة في رحلة نزوحهم بأنه "كان جريمةً موصوفةً، ومستمرةً، فالواقع الذي عاشه ذوو الإعاقات كان مهيناً ومؤذياً بشكل لا يمكن وصفه".
وتختم اللقيس: "تابعت نحو أربع أو خمس حروب كبيرة في هذا البلد. هذه الحرب كانت الأكثر قسوةً من حيث المعاناة المرتبطة بذوي الإعاقة. هذه المرة كانت الأكثر ظلماً وعذاباً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Karem -
منذ 16 ساعةدي مشاعره وإحساس ومتعه وآثاره وتشويق
Ahmed -
منذ 5 أيامسلام
رزان عبدالله -
منذ 5 أياممبدع
أحمد لمحضر -
منذ أسبوعلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ أسبوعالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ أسبوعوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة