هذا المقال جزء من ملفّ "بين الأسئلة المهنية والشخصية... رصيف22 في 2024"، بمناسبة نهاية العام 2024.
في أمسياتنا الأخيرة، تحديداً تلك التي جمعت بعض من تبقّى من أصدقاء، بدوتُ وكأنني منفصل عن الواقع؛ فالواقع، على ما يبدو في هذا الوقت، لمواقع التواصل الاجتماعي. المواقف، والخلافات، والتطرّف، و"النُصح"، أي كل ما هو "خارق" صار محصوراً في ذلك العالم، وأنا لا أعرف عنه سوى ما يصلني على الواتس آب، من إبداعات تتّصل بواقعنا وموتنا ومآسينا، وبمستقبلنا كما يراه كُلّ "شيخ" على صفحته.
قبل أكثر من سنتين ونصف، قررت أن أبتعد عن مواقع التواصل الاجتماعي. اعتقدت ولا أزال أن الانكسارات الكثيرة التي صبغت القضايا التي آمنت بها وعملت لأجلها، تستحق الوقوف عليها قليلاً، والابتعاد عن كُل النقاشات التي صارت تتحوّل مع الوقت إلى استقطاب حاد لا مكان فيه للرأي "الوسط"، أو المحايد، أو في الحد الأدنى الرأي الذي يحاول أن يوازن بين الرغبة في تحقيق "نصر" سياسي، والبقاء على مسافة لصيقة بما تبقّى من إنسانيتنا.
في خضم ما يحصل، ما الذي يُمكن فعله؟ الأسئلة كثيرة، تبدأ بالشخصي وبالمحيط، وتتسع نحو مجتمع بأكمله، ثم تتسع أكثر لتصل إلى جوّ عام ممتد من لبنان إلى فلسطين. الابتعاد مستحيل. المسؤولية الصحافية لا تدع مجالاً لأي نوع من "العزلة"!
حين بدأت الحرب الإسرائيلية على غزّة، قبل أكثر من عام، صرت أعود بين الحين والآخر إلى هذه المواقع، وتحديداً فيسبوك، لمعرفة كيف يتفاعل الناس مع حدثَين ضخمَين؛ ما قامت به حركة "حماس"، أي "طوفان الأقصى"، وما أعقبه من حرب إسرائيلية تحوّلت مع الوقت إلى حرب إبادة على الفلسطينيين كلهم، لا على الغزّيين فحسب. العودة لم تكُن مقرونةً برغبة في الدخول في أي نقاش، أو حتى إبداء الرأي. كانت المرحلة التي سبقت هادئةً، نوعاً ما. الهزيمة الممتدة تحتاج إلى اعتراف بأن الانكفاء هو تصالح مع شعور واضح وعميق بالانكسار.
مع هذا الواقع، كان العمل الصحافي اليومي أشبه بمكان أزن فيه ما يحصل من حولي من استقطاب، ومن خطاب حاد انقسم بين محورين؛ محور من هم بشكل أعمى مع "المقاومة" وما قامت به "حماس"، ومحور من هم على المقلب الآخر، أي المعادين لحماس وتالياً يحمّلونها نتائج "طوفانها" من دون أي ذكر أو اعتبار لما تقوم به إسرائيل، فيما قلّة قليلة بقيت على إنسانيّتها وحافظت على قدرتها على صياغة خطاب سياسي وإنساني في الوقت نفسه؛ سياسي بما يعنيه من وقوف على واقع ومعاناة قائمَين منذ أكثر من خمسٍ وسبعين سنةً، مع قدرة على نقد التجارب التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، وإنساني بما فيه من تمسّك بقدرة على التمييز بين الضحية والجلّاد.
في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، استشهد الزميل والصديق عصام عبد الله، باستهداف إسرائيلي مباشر لطواقم صحافية في منطقة علما الشعب في جنوب لبنان، كانت تغطي التصعيد الإسرائيلي بالتوازي مع فتح "حزب الله" حينها جبهة إسناد غزّة. توقف الزمن قليلاً. كانت رسالة بأن الحرب وآلة القتل لن تتوقفا، وأن هناك من يحاول أن يحوّل السردية إلى مكان أحادي آتٍ من نزعة حادة في التطرّف والإلغاء والاحتلال. عُدت وقتها إلى فيسبوك راثياً عصام الذي قتلته إسرائيل، وغاضباً بسبب هذا الواقع الذي فُرض علينا.
الهزيمة الممتدة تحتاج إلى اعتراف بأن الانكفاء هو تصالح مع شعور واضح وعميق بالانكسار.
في خضم ما يحصل، ما الذي يُمكن فعله؟ الأسئلة كثيرة، تبدأ بالشخصي وبالمحيط، وتتسع نحو مجتمع بأكمله، ثم تتسع أكثر لتصل إلى جوّ عام ممتد من لبنان إلى فلسطين. الابتعاد مستحيل. المسؤولية الصحافية لا تدع مجالاً لأي نوع من "العزلة". في جلسات النقاش البعيدة عن وسائل التواصل الاجتماعي، كنت أجد نفسي غير قادر على الحديث أو الاستفاضة في النقاش.
نعود إلى الاصطفاف السياسي على الضفتين. في حديث على مجموعة في واتس آب تضم "أصدقاء" عشنا معاً مراحل كثيرةً، تحديداً بعد العام 2005، كتبت جملةً بسيطةً تعليقاً على نقاش حول ما يحصل في فلسطين وفي غزّة تحديداً، مع امتعاض واضح من الموازنة بين "حماس" وإسرائيل ومنها إلى ما كان يحصل في جنوب لبنان قبل أن تتوسع الحرب. كانت ردة الفعل على جملتي كفيلةً بأن أصمت، دون أن أعلّق. لا مكان لأي حديث هادئ هنا. وحده شعور بأن الحرب على الجلّادين أخرجت أسوأ ما فينا من قدرة على التحوّل إلى جلّادين جدد، بأثواب مدنية، سيطر عليّ.
القناعة بأن النقاش لم تعد له مساحة ازدادت، ولم تعد محصورةً في دوائر مواقع التواصل الاجتماعي. كنت أتحيّن الفرصة للحديث مع مجموعة قليلة من الأصدقاء، في فترات متباعدة، أزعم بأنهم حافظوا على هذه الشعرة من الإنسانية في خضم كُل ما يحصل من قتل. وكأنها فرصة للتمسّك بما بقي من أمل، والأمل هنا مجرّد التأكيد على أن هناك من هم في الوسط، أي ليست لديهم لا الرغبة ولا النزعة في الإلغاء التي صارت هي السائدة، مع شعور بأنه لا مكان لنا هنا.
صار سلاح الناس تجاه أي محتوى صحافي، عبارةً عن تهديد بعدم المتابعة، أو حملات شتم، أو اتهامات لا تمتّ إلى الواقع بصلة، وكُلّها تُشبه كثيراً ما يجري في النقاش الفردي والشخصي والمجتمعي حول كُل ما هو خلافي
وسط هذا كله، كان رصيف22 بمثابة المكان الذي أعود فيه إلى حيث يُمكنني أن أكون فاعلاً من خارج كُل هذا العقم والتطرّف. الأولويات هنا واضحة؛ الإنسان الفلسطيني واللبناني قبل كُل ما هو سياسي، وروايات القتل والتهجير والنزوح، ونساء وأطفال ورجال تحت النار. كنا وما زلنا نحاول أن نوصل أصواتهم/ نّ. كانت هذه الأصوات وكأنها الجواب على كُل ما يحيق بنا من استقطاب. الانتماء إلى المستضعفين بعيداً عن مشاريع أيديولوجية ونزعات انتقامية، هو المكان الذي يُمكن أن يُخرجني من العزلة ومن الإحساس بقلّة الحيلة. هذا كله دون أن نُسقط القدرة على النقد وعلى أن نكون محايدين ومهنيين، ودون أن ننفصل عن موقفنا الرافض لكُل هذا العنف والقتل والاحتلال.
كثُرت الروايات وكثُر رواتها. كلٌّ يروي ما يُناسب هواه ومبتغاه. كبُر الجمهور الذي يريد كُل شيء في قوالب جاهزة، وكما يراها أيضاً. صارت المساحة ضيقةً. وصار سلاح الناس تجاه أي محتوى صحافي، عبارةً عن تهديد بعدم المتابعة، أو حملات شتم، أو اتهامات لا تمتّ إلى الواقع بصلة، وكُلّها تُشبه كثيراً ما يجري في النقاش الفردي والشخصي والمجتمعي حول كُل ما هو خلافي على مواقع التواصل. تدور الدائرة وتعود إلى نقطتها الأولى؛ المهنية والعمل بشغف لكي نوصل ما يحصل بعيداً عن هذه المساحات، وعلى أرض الواقع والموت والجوع. هروب "واقعي" إلى مكان مؤثر، من خارج هذه الأنا المتضخمة التي تحيط بنا، وهذا العنف والتطرّف، وبعيداً عن "الجلّادين" الجدد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...