شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
رسالة إلى أحمد الشرع… أو زيارة إلى ذكريات عمرها 13 سنةً

رسالة إلى أحمد الشرع… أو زيارة إلى ذكريات عمرها 13 سنةً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحريات العامة

الاثنين 9 ديسمبر 202404:03 م

فرّ الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، من سوريا، في وقت مبكر من صباح يوم أمس، منهياً قرابة 14 عاماً من سفك الدم السوري علناً، تضاف إليها عقود سابقة من سفك الدم والاغتيال والاعتقال والتنكيل بالبشر والحجر، خلال فترتي حكمه وحكم والده، بجانب نهبهما ممتلكات الدولة سرّاً، مع تحويل الدولة السورية إلى مزرعة شخصية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

هل سيتم وقف إهراق الدم السوري وآلام هذا الشعب؟ كل جُزيئة من جسدي وروحي تأمل ذلك، بعدما عانى أهلي السوريون من أهوال أرهقت نفوسهم دون أن تثني عزائمهم. سلوكيات اللحظة والأيام القليلة التي سبقتها، تعزز وبشكل لا جدال فيه تحقيق هذا الأمل، برغم سوداوية الصورة التي يحاول البعض رسمها لمستقبل سوريا، مشبهاً إياه بالمشهد الأفغاني، نتيجة تصّدر "هيئة تحرير الشام" قيادة عملية ردع العدوان، والتي أدت في النهاية إلى إسقاط نظام الأسد إلى غير رجعة.

في لحظة مشابهة للحظة انهيار النظام الشيوعي في رومانيا عام 1989، تداعى هذا النظام خلال أيام قليلة، وأجمل ما في هذه الأيام، لم يكن تحرير الأرض وإسقاط النظام، بل تحرير معتقلي الرأي الذين أمضوا سنوات من أعمارهم في أماكن أشبه بالقبور، يديرها عتاة الإجرام وجلاوزته. 

2011 

وقد شهدتُ، خريف عام 2011، تجربة اعتقال قصيرةً قد لا تخولني الحديث في هذا الجانب، إلا أنها تركت لدي نقاط ارتكاز في سنوات الثورة اللاحقة، حيث شاركنا أحد زنازين فرع الأمن الجنائي في حلب، ثلاثة عشر شرطياً في مقتبل أعمارهم، أودعوهم زنزانتنا دفعةً واحدةً، والتهمة كما عرفتها من أحدهم، إهمال تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم على أحد الحواجز المقامة لاعتقال الناشطين والتضييق على الأهالي. 

هل سيتم وقف إهراق الدم السوري وآلام هذا الشعب؟ سلوكيات اللحظة والأيام القليلة التي سبقتها، تعزز وبشكل لا جدال فيه تحقيق هذا الأمل، برغم سوداوية الصورة التي يحاول البعض رسمها لمستقبل سوريا، مشبهاً إياه بالمشهد الأفغاني، نتيجة تصّدر "هيئة تحرير الشام" قيادة عملية ردع العدوان

بجوار هؤلاء، يستلقي أحد النزلاء على أحد جانبيه فقط، نتيجة تشطيب صدره وظهره وجانبه الآخر بسلاح شعبي معروف يُدعى "الشنتيانة". من قاموا بهذا الإجرام في حق شريك زنزانتنا، هم بعض أصحاب المحال التجارية التي صادف مرور مظاهرة يشترك فيها في الشارع الذي هم فيه.

أدركت حينها أن هناك قسماً كبيراً من العاملين في إدارات الدولة القمعية، يناصر ثورتنا، وهم بغالبيتهم مستعدون لتعريض أنفسهم للخطر لأجل حماية الثورة وأهلها، تقابلهم فئة مجتمعية نصّبت نفسها، بطلب أو من دونه، للإجرام بحق فئة أخرى من مجتمعها، للدفاع عن نظام احتفظ بالميدالية الذهبية للإرهاب والاستبداد على مدى خمسة عقود.

مضت تلك الأيام بثقل شديد، وتم إعدادنا للعرض على القضاء، عبر تقييدنا بسلسلة حديدية غليظة وطويلة، تحتوي بين كل متر وآخر منها على قيود للمعاصم. وبينما كان يتم تقييدنا بها، خرج محمد، وهو شاب من مدينة عين العرب/ كوباني شرقي حلب، ليتكلم مع رقيب كنا ننظر إليه بشذر، نتيجة صراخه وكلامه القاسي معنا. صفن الرقيب في محمد لبرهة طويلة، ثم مدّ يده إلى جيبه وأخرج ورقةً ماليةً لم أعلم قيمتها وأعطاه إياها.

استفزني بشدة سلوك محمد، برغم عدم معرفتنا ببعضنا، لكن كان يجب عليه أن يأخذ ما يحتاجه من أحدنا، وليس من سجّاننا. وعندما التقيته في نظارة القصر العدلي في حلب، صارحته بذلك، فأجابني: "لست بحاجة إلى نقود، لكني أردت بما أمتلكه من قدرة أو حيلة أن يدفعوا ثمن إحضارنا من منازلنا واعتقالنا، وبرغم أن اعتقالنا لا يقاس بالأموال، لكن هذه استطاعتي لفرض الثمن على أحدهم". أبهرني بهذا التفكير الشبابي اليافع. لكن ما أضافه محمد كان أجمل مما سمعت منه: "هذا النظام يتجنّب الاعتداء على مظاهراتنا نحن السوريين الكرد، فيما يمعن في الإجرام بحق المتظاهرين من السوريين العرب. أنا كردي وسأشارك في مظاهرات أخوتي العرب، لينالني ما ينالهم". 

سجن حلب المركزي 

بعد نقلنا إلى سجن حلب المركزي، اجتمعت ثانيةً بشاب التقيته لبعض الوقت في زنزانة الأمن الجنائي، وافترقنا بعد تغيير زنزانتي. تخونني الذاكرة حالياً عند استذكار اسمه، الذي أظنّه "أبو نجيب"، من مدينة سلقين التابعة لمحافظة إدلب ويقيم في حي صلاح الدين في مدينة حلب، التي كان هتّاف تنسيقيتها الأولى، وهو ما علمته منه خلال أحاديثنا، وعلمت منه أيضاً بعض الأخبار عن صديقي في التنسيقية؛ تم اعتقالهما معاً من قبل فرع الأمن الجوي. تواعدنا بعد خروجنا على زيارة عائلة صديقي لطمأنتها عليه، وهو ما تم لاحقاً. 

شهدتُ، خريف عام 2011، تجربة اعتقال قصيرةً قد لا تخولني الحديث في هذا الجانب، إلا أنها تركت لدي نقاط ارتكاز في سنوات الثورة اللاحقة، حيث شاركنا أحد زنازين فرع الأمن الجنائي في حلب، ثلاثة عشر شرطياً في مقتبل أعمارهم، أودعوهم زنزانتنا دفعةً واحدةً، والتهمة كما عرفتها من أحدهم، إهمال تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم على أحد الحواجز المقامة لاعتقال الناشطين والتضييق على الأهالي  

خلال أحاديثنا، كلّمته عما فعله محمد بالرقيب المستفز. ضحك أبو نجيب بشراهة من الفكرة، لكنه استوقفني بقوله: "يبدو أن هذا الرقيب يرسم صورةً تعاكس باطنه، فقد رتّب إبقائي في إحدى جلسات الاستجواب حتى النهاية، وعندما خلا له الجوّ، سألني إن كنت بحاجة إلى الاستحمام. استحمام؟ يا إلهي، بدأت أفرك عيوني: هل أنا في حلم أم في يقظة؟ منذ شهر ونصف يراودني هذا الحلم. الرقيب: رجاءً أجبني في عجلة، هل تحتاج إلى الاستحمام؟ أجبته بنعم، متابعاً بصوت خفيض: لكن ليست في حوزتي نقود. ضحك من بوحي مردفاً: هل من يخاطر بضرر قد يصيبه سيطلب المال لقاء ذلك. الحمام هناك، ستجد فيه ما تريد، لكن رجاءً لا تتأخر".

أبو نجيب، ولشدة ما عاناه وعاينه في فرع الأمن الجوي، آمن منذ ذلك الحين بعدم إمكانية إسقاط النظام سلمياً، وبأنّ أهل ذلك الأمر هم الإسلاميون/ الجهاديون. "سأعمل على ترتيب زيارة إلى القسم الذي يتواجدون فيه في السجن"، قال لي، وهو ما حصل أيضاً، وكان قسم منهم قد تم نقلهم حديثاً من سجن صيدنايا سيئ السمعة إلى سجن حلب، تحضيراً للإفراج عنهم، في الوقت الذي كان ناشطو الثورة السلميون فيه عرضةً للقتل والاعتقال. قضى أبو نجيب لديهم ليلةً كاملةً، تاركاً إياي تحت رحمة الهواجس، كونه أعلمني بأنه لن يطيل الزيارة. عندما عاد قال إنه كان في كابول: "نعم عمار، كابول بما تحمله الكلمة من معنى". حدّثني عن مهاجعهم النظيفة، وعن أجهزة الخليوي الموجودة بالقرب من معظمهم، وعن صعوبة الدخول إلى مهاجعهم من دون رضاهم، حتى من قبل إدارة السجن. حدّثني وحدّثني ليختم بالقول: "بعد خروجي من هنا سأنضم إليهم"، وهو ما حصل لاحقاً. 

بعد ثلاثة عشر عاماً 

اليوم، وبعد ثلاثة عشر سنةً، تراودني تلك الذكريات، لا سيما في ظل تشابه بعض جزئياتها. قوة إسلامية تقود جهود إسقاط النظام، كما تنبّأ أبو نجيب. قوة كردية لم تقطع مع سوريتها أبداً، برغم ما يعتريها من قادة ظلّ عابرين للحدود، وقد بدا ذلك عبر تجنّبها استغلال الأحداث الأخيرة كما كان يجري في بعض الأحيان سابقاً، بالإضافة إلى الفرحة العامة التي طالت مكونات الشعب السوري كافة، التي غلّبت انتماءها إلى سوريا على أي انتماء آخر، فقد أزهرت جهود محمد وسواه ممن شاركوا في معاناة إخوانهم السوريين، بعيداً عن الانتماء العرقي والديني والمذهبي.

عوداً على بدء، ولطيّ صفحة السوداوية التي يحاول البعض نشرها، نتيجة تصدّر هيئة تحرير الشام مشهد إسقاط وما بعد إسقاط النظام الأشدّ إرهاباً، لا بد من التنويه إلى أن صفة الإرهاب الموصومة بها "هيئة تحرير الشام" لا تعني السوريين في شيء، فالإرهاب صفة فضفاضة، ولا تحظى بتعريف دولي جامع. لذا، السوريون هم من يقرر إرهابية الهيئة من عدمها؛ يُقاتلونها أو يُقاتلون دفاعاً عنها. الموقف تجاهها منوط بمنهجية الهيئة وسلوكها على الأرض لاحقاً. 

لا بد من التنويه إلى أن صفة الإرهاب الموصومة بها "هيئة تحرير الشام" لا تعني السوريين في شيء، فالإرهاب صفة فضفاضة، ولا تحظى بتعريف دولي جامع. لذا، السوريون هم من يقرر إرهابية الهيئة من عدمها؛ يُقاتلونها أو يُقاتلون دفاعاً عنها. الموقف تجاهها منوط بمنهجية الهيئة وسلوكها على الأرض لاحقاً 

على ذلك، يمكن توجيه رسالة هنا إلى الجماعة الإسلامية وقائدها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً)، بضرورة التركيز بشدة على التوصل إلى إقرار مبادئ فوق دستورية تحفظ للفرد والجماعات حرية الاعتقاد والتعبد والنشاط الدعوي بعيداً عن الملاحقة والاتهام، لقطع طريق المخاوف من عودة القمع السلطوي، وتقييد سلوكيات السلطة ورجالها تجاه هؤلاء الأفراد والجماعات.

بجانب ذلك، يجب تضمين هذه المبادئ منع أي شكل من أشكال استخدام أدوات القهر السلطوي أو سواه، لفرض أيديولوجيا معيّنة، أو قيام السلطة ببناء ثقافة المجتمع، عبر القهر والتجريم القانوني، بما يطمئن باقي فئات المجتمع، ويكسبها ثقة مكوناته العرقية والأيدولوجية والمذهبية كافة، ويدفع هذا المجتمع للدفاع عن هذه الجهة أو سواها ضد أي تجنٍّ خارجي عليها، في حالة مشابهة لحالة دفاع رئيس الوزراء السوري الأسبق، فارس الخوري، المسيحي، ومن على منبر الجامع الأموي في دمشق، في خطاب رصّعه التاريخ دفاعاً عن سوريا ومسلميها، في مواجهة دعاوى فرنسا إلى احتلال سوريا لحماية مسيحييها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image