شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أستغفر الله

أستغفر الله "لسه شفايفي شايلة سلامك"… من يحمي الفن من مقص الرقابة السري؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن وحرية التعبير

السبت 21 ديسمبر 202403:28 م

يثار سؤال حول وجود رقابة خفية وسرية من صغار الموظفين في مصر، الذين لهم توجه سلفي خاص بهم وفي مواقع عملية وتنفيذية تجعلهم قادرين على استخدام مقص الرقيب حتى ولو كانت الإبداعات المكتوبة أو المصورة قد أجيزت من الرقيب الرسمي ومنذ عدة عقود مضت. وهنا يثار سؤال مهم: هل توجد هيئة للرقابة السرية على الكتب والأفلام السينمائية القديمة التي أجيزت منذ سنوات؟ سنكتشف وللعجب مثلاً أن رواية "موسم الهجرة للشمال" للطيب صالح مُنعت من التدريس في جامعة القاهرة، كما منعت رواية محمد شكري "الخبز الحافي" من التدريس في الجامعة الأمريكية! وقد وضع بعض عمال  المطابع سداً منيعاً أمام إعادة أعمال أدبية لأنها، وفق مفهومهم، تتعارض مع الأخلاق والدين!

كما تتم ممارسة رقابة متكررة وشبه يومية على أفلام وأغان تعتبر اليوم ضمن التراث الفني وفق نفس المفهوم؛ فمثلاً لا تذاع أغنية للعندليب عبد الحليم حافظ لأن الرقيب يرى أن فيها جملة فاضحة وهي "لسه شفايفي شايلة سلامك، شايلة أمارة حبك ليا!".

نقوم في هذا التحقيق باستعراض ألوان من التدخل الرقابي الذي تم ويتم على بعض الأفلام من قبل بعض مطربي دار الأوبرا وعمال المطابع في هيئة الكتاب في القاهرة، مع عمل إستفتاء لأخذ رأي بعض قادة الرأي والنقاد والمبدعين في هذه الإعتداءات علي حرية الإبداع التي يكفلها الدستور والقانون.

 سنكتشف وللعجب مثلاً أن رواية "موسم الهجرة للشمال" للطيب صالح مُنعت من التدريس في جامعة القاهرة، كما منعت رواية محمد شكري "الخبز الحافي" من التدريس في الجامعة الأمريكية! وقد وضع بعض عمال المطابع سداً منيعاً أمام إعادة أعمال أدبية لأنها، وفق مفهومهم، تتعارض مع الأخلاق والدين!

إذاً، ليست كل أنواع الرقابة آتية من الحكومة أو الجهات الرقابية، فالرقابة المجتمعية والرقابة الطوعية المفروضة بمبادرات فردية تزيد القيود وتضع حدوداً لم تكن موجودة من قبل؛ قناة "الحياة دراما" مثلاً تقوم بإعادة رقابة أفلام مرّ على بعضها أكثر من 70 أو 50 عاماً، فيتم حذف مشاهد عاطفية وقبلات بل حتى جمل حوارية! فمثلاً يختم يوسف وهبي فيلم "إشاعة حب" وهو يردد جملة "عيشوا بقى دي الدنيا فانية!"، ولكن الرقيب الجديد يقوم بحذفها! ورائعة نجيب محفوظ "السمان والخريف"، فيتم فيها حذف كادر سينمائي دال: ذلك المشهد الذي يتضمن أول لقاء تعارف بين ريري (نادية لطفي) وعيسى الدباغ (محمود مرسي)، وقد رأينا من قبل وجه عيسى من بين ساقَي ريري.

أما فيلم "حكاية العمر كله" لفريد الأطرش، حيث تقوم فاتن بإنزال لوحة عارية داخل برواز من تلك اللوحات التي تمتلئ بها صالونات وحجرات نوم الطبقة المتوسطة المصرية عبر عدة عقود متعاقبة، يحذف الرقيب هذا المشهد. وفي مسرحية "المتزوجون" تواصل قناة "الحياة الزرقاء" حذف جملة حوارية لجورج سيدهم تفيد بأنه لم يدفع مليماً في زيجته: "أنا كدة ها أدخل بمجهودي فقط!". وتصل الرقابة إلى درجة حذف مشية ممثلة! ففي فيلم "كرامة زوجتي"، يفيد المشهد بأن شريفة ماهر تسير بدلال لإغراء المحامي صلاح ذو  الفقار، ولكن مقص الرقيب وجد في السير بدلال فعلاً فاضحاً! أما مشاهد حذف القبلات والمشاهد العاطفية فلا يمكن حصرها من كثرتها، والغريب أن هذه الأفلام تمت إجازتها رقابياً دون هذه الحذوفات طوال العقود الزمنية الممتدة منذ أربعينيات القرن الماضي حتى الألفية الجديدة. وإذا انتقلنا إلى دار الأوبرا المصرية سنصدم برقابة من نوع آخر؛ ففي حفلات ومهرجانات الموسيقى والأغاني، سنجد رقابة ذاتية ومزايدة من بعض المطربين فيما يمكن تسميته بمزاد ونفاق للجمهور ومحاولة لركوب موجة وهابية تسللت إلى وجدان الجمهور المصري للأسف، وتتمثل في تغيير كلمات أغانٍ تراثية لإرضاء التدين "الشكلاني"؛ فمثلاً في أغنية سيد درويش الخالدة، يقول في مقطع منها عن الحبيب: "وبعده عني يا ناس حرام"، فتتحول هذه الجملة إلى: "وبُعده عني ياناس 'مهوش' حرام"! إي أضيفت كلمة "مهوش". وإن كان الأمر كذلك فما هو سبب عذاب العاشق في الأغنية إذا كان بُعده عنه لا يمثل مشكلة؟!

أما في أغنية "على خده يا ناس مية وردة"، التي قُدّمت منذ أكثر من 100عام من قبل سيد درويش فيتم تغيير جملة "ما شبعتش من ليلة مبارح"، إلى "مش لسه مقبلاك مبارح"! وفي أغنية كامل الشناوي يستبدل مطرب الأوبرا كلمة "قدر أحمق الخطى" بكلمة "قدر طيب الخطى"! ومرات أخرى "قدر أسرع الخطى"، وكذلك يتم العبث بكلمات الشاعر إبراهيم ناجي لتتحول أغنية "الأطلال" التي شدت بها كوكب الشرق: "وتلاقينا لقاء الغرباء، لا تقل شئنا، فإن الحظ شاء" إلى "فإن الحقّ شاء"، وأحياناً "فإن الله شاء"! والغريب أن التدخل في كثير من المواضع يقلب المعنى المستقيم الذي أراده الشاعر تماماً.

، ليست كل أنواع الرقابة آتية من الحكومة أو الجهات الرقابية، فالرقابة المجتمعية والرقابة الطوعية المفروضة بمبادرات فردية تزيد القيود وتضع حدوداً لم تكن موجودة من قبل.

يعلق الدكتور خالد منتصر على هذه الظاهرة، في حديث إلى رصيف22، قائلاً: "من أغرب الرقابات ما حدث في هيئه الكتاب عندما رفض عمال المطبعة طباعة بعض الكتب ومجلة 'إبداع' لأن بها لوحة 'خارجة'! ووصل الأمر إلى مجلس الشعب، وبالفعل لم تصدر المجلة! فقد منعتها قوه عمال المطابع.  هذا نوع من أنواع الرقابه التي لا تخطر علي بال أحد.

الضغط الاجتماعي في مجتمع متحفظ مثل مصر أصبح المزاج السلفي يسيطر عليه، جعل أغنيه عبد الحليم حافظ يُحذف منها 'لسه شفايفي شايلة سلامك'، وهناك تحفظ شديد على أغنية عبد الوهاب التي تغنى بها العندليب أيضاً: 'جئت لا أعلم من أين'. ورقابه الأزهر منعت أفلاماً كثيرة حتى عن المسيح لهذا السبب ورواية 'وليمه لأعشاب البحر' لحيدر حيدر، وقد خرجت المظاهرات ضدها بسبب مقال لطبيب أشعة منتمٍ للتيار السلفي نشر في جريدة 'الشعب'. الأمثله كثيرة، والمزاج السلفي يضغط على الإبداع في مصر للأسف، فتصبح هناك رقابات كثيره أقلها تأثيراً رقابه الدولة الرسمية".

يتفق المخرج والمؤلف محمد أبو دومة مع ما ذكر ويؤكد: "غياب دور المثقف سمح للمزاج السلفي الرقابي بالسيطرة. يظن الكثير من الناس أن فكرة نمو المزاج السلفي داخل المجتمع المصري قد تمت دون تخطيط، لكن الواقع أن تعاظم التيار السلفي قديم،  وقد رأيت بعيني هذا الأمر في مطابع هيئة الكتاب في بدايات التسعينيات عندما كان الدكتور سمير سرحان رئيساً لها، فقد أضرب بعض العمال وأصروا على تنقيح 'ألف ليلة وليلة' وتقديم نسخة معقمة منها خالية من ألفاظ بعينها، ليس بدعوى أنها منافيه للآداب، ولكن لأنها حرام! وقد أصر العمال على حذف كل الألفاظ 'الحرام'، وتقديم طبعة معقمة. وخضعت وزراة الثقافة لمطالبهم، وطبعت 'ألف ليلة وليلة' وفقاً للمزاج السلفي، الذي لم يكن سائداً آنذاك".

ويردف أبو دومة بأن: "في خطوة متصاعدة وجدنا ممثلاً يرفض أن يسجد 'تمثيلا' لصنم في المسلسلات الدينية. ثم تعاظم هذا الدور ليصل إلي مرحلة الرقابة الذاتية من الكاتب نفسه وأحياناً من المخرج، ورفض كثير من الممثلين الملامسةَ والتقبيل، بل والمباهاة بذلك. ثم ظهر مصطلح 'السينما النظيفة'، واختفت بعض المفردات الأدبية مثل كلمة 'خلق فني' وأحياناً 'إبداع فني'، وتم الخلط المتعمد بين الخلق والإبداع على المستوي الإلهي والمستوي البشري. وتعاظمت هذه الظاهرة حينما دخل 'الإخوان المسلمين' والمتعاطفون معهم إلى الجامعة".

يضيف المخرج أبو دومة لرصيف22: "الحقيقة أن هذا المزاج السلفي لا يخضع له المجتمع بأوامر عليا من الدولة التي قد يرضيها غلق الأبواب لأنها مشغولة بما هو أهم. هذا المزاج السلفي الذي يعد رقيباً مباشراً يتسلط على الفن والأدب والفكر، إنما يكتسب وجوده وقوته وشرعيته الافتراضية من غياب دور المثقفين".

يتفق الدكتور حسين حمودة، أستاذ النقد الأدبي في الجامعة الأمريكية بالقاهرة مع الآراء السابقة ويثني على تعبير "الرقابة الطوعية" ويعتبرها دالة على ما قام به عمال المطابع وما فعلته بعض دور النشر من تغيير عناوين نصوص أدبية، فهي تمثيل لقيمِ جماعة محدودة، بالقياس للجماعة الأكبر، وفكرة "الرقابة الطوعية" ترتبط بثالوث المحرمات الشهير (الجنس، الدين، السياسة). وفي ما يتعلق بتغيير معايير الرقابة، فعلى الرغم من أن تلك المعايير تسير باتجاه توسيع هامش الحرية، ولكن من الجائز أن الجماعة التي تتبني الرقابة يمكن أن تتقلص أو تكبر وتزداد أعدادها أو يزداد تشددها.

ويؤكد الشاعر والصحافي أحمد الشهاوي على أنه لا يجوز نهائياً حذف أي مادة من أي عمل إبداعي تحت حجة مراعاة الذوق العام أو الأخلاق، لأن الناشر أو الفنان ليس رئيساً للقيم والأعراف. فمن أراد إعادة نشر كتاب قديم أو عرض عمل فني عليه أن ينشره كما هو من دون التشويه أو التحريف أو الحذف. وفي عالم النشر لا يمكن استخدام مصطلحات تزيف العمل مثل: "بتصرف مختصر"، و"تهذيب"، وكأن كاتب العمل الأصلي منعدم التهذيب ومن جاء بعده هو من سيهذبه.

ويضيف: "الأمر زاد في السنوات الأخيرة، خصوصاً مع إعادة نشر كتب التراث التي ما زال هناك إقبال عليها من الأجيال الجديدة. وأظن أن القراء لا يحتاجون إلى وصايةٍ من أحد، فكل قارئ مؤهل للتلقي بشكل عميق. تجربة تغيير أعمال إحسان عبد القدوس في مكتبة مصر التي أرتبط بها نشرياً لسنوات طويلة جعلت ابنَيه محمد وأحمد عبد القدوس يسحبان أعمال والدهما وينشراها في الدار المصرية اللبنانية، وعلى المبدعين أن يفعلوا الأمر نفسه إذا تعرضت أعمالهم للحذف والتشويه".

الضغط الاجتماعي في مجتمع متحفظ مثل مصر أصبح المزاج السلفي يسيطر عليه، جعل أغنيه عبد الحليم حافظ يُحذف منها 'لسه شفايفي شايلة سلامك'، وهناك تحفظ شديد على أغنية عبد الوهاب التي تغنى بها العندليب أيضاً: 'جئت لا أعلم من أين'

أما السيناريست أيمن سلامة فيتعجب "من هؤلاء الذين ينصبون أنفسهم حماة للمجتمع ويقررون المغالاة في تقييد حرية المبدعين، لاسيما في الأعمال التراثية والأعمال التي يعاد نشرها. وأتذكر أن واقعة قد حدثت منذ عدة سنوات حين قرر أحد الناشرين التدخل في رواية للكاتب الراحل إحسان عبدالقدوس، فغير بعض المفردات وحذف بعض الكلمات بحجة أن المجتمع لا يقبلها الآن، وقد قوبل هذا الفعل برفض من جميع المثقفين ومن ورثة الكاتب. أتذكر أيضاً الضجة التي حدثت عندما أعيد نشر كتاب 'ألف ليلة وليلة'، وأرى وأتابع ما تفعله بعض المحطات الإذاعية والتلفازية مع أغان قديمة أجازها الرقيب وسمعناها من قبل، ولكن رقباء اليوم قرروا أن يحولوا أنفسهم أوصياء على المجتمع، أتابع كل هذا بعين حزينة في ظل وجود الإنترنت ومنصات لا تخضع لأي رقابة وفي ظل حقيقة أن ثلاثة أرباع الشعب المصري ينتمون إلى فئة الشباب، وهُم جميعاً يتابعون المنصات ومواقع التواصل الاجتماعي التي لا رقابة فيها".

يقول الروائي والقاص عمرو منير لرصيف22 بأن "هذا ظهر في الواقع المصري بعد انتشار السلفية الدينية في الحياة الثقافية والتي تعطي الحق للفرد للتعقيب على الرأي الأدبي والفني حتى لو تم إجازته من خلال الرقابة الحكومية. وذلك يؤكد على حالة الارتداد الفكري والثقافي عن مبدأ حرية الفن والإبداع، وتعكس روح التطرف الفكري. فالمبدع عند إنتاجه لعمله الأدبي والفني يختار كل كلمة لتعبر عن رأيه و توجهه الفكري، وأي تعديل على إنتاجه هو بمثابه تحريف مناقض للحرية الفكرية وضرب لروح الإبداع في الصميم".

وتصرح الروائية والقاصة شاهيناز الفقي: "مما لفت انتباهي في الفترة الأخيرة هو تغيير اسم عرض مسرحي من 'شفيقة القبطية' إلى 'شفيقة المصرية'! وكلمات الأغاني مثل 'فإن الحظ شاء' لشاعر كبير كإبراهيم ناجي. والمبرر أنه لا يجوز دينياً أن يقول 'الحظ شاء'! هذا من وجهة نظري تزلف لا داعي له. والأمثلة كثيرة على مظاهر التدين السطحي الذي نراها اليوم في الشارع المصري، فتجد مثلاً من يركن سيارته ويعرقل المرور لأن صلاة العصر وجبت، فينزل من سيارته ليصلي في الشارع أو المسجد، دون اعتبارٍ لعرقلة الطريق. ونفس الأمر يحدث في المصالح الحكومية، فلا حرج عن الصلاة في أوقات العمل وتعطيل مصالح الناس. وبالتالي تنعكس مثل هذه السلوكيات على الفن والأعمال الفنية. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

معيارنا الوحيد: الحقيقة

الاحتكام إلى المنطق الرجعيّ أو "الآمن"، هو جلّ ما تُريده وسائل الإعلام التقليدية. فمصلحتها تكمن في "لململة الفضيحة"، لتحصين قوى الأمر الواقع. هذا يُنافي الهدف الجوهريّ للصحافة والإعلام في تزويد الناس بالحقائق لاتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة.

وهنا يأتي دورنا في أن نولّد أفكاراً خلّاقةً ونقديّةً ووجهات نظرٍ متباينةً، تُمهّد لبناء مجتمعٍ تكون فيه الحقيقة المعيار الوحيد.

Website by WhiteBeard
Popup Image