كان لفن أفيشات السينما شغفه الخاص في الزمن الجميل، حين كان رسّامو الملصقات يعملون في الغرف الخلفية الصغيرة للمطابع، ويستخدمون الصُوَر الفوتوغرافية المأخوذة من الأفلام مادةً لتصاميمهم، يملؤون بها الشوارع التي تصبح أشبه بمعرض مفتوح لفن الكيتش، تنقل لقطات الهيام في أفلام النجوم، والنجم على قدر حضوره في الأفيش.
وعادة ما يُستخدم العنوان كصنّارة لاجتذاب المشاهد ومدخلاً أساسياً للعبة الدعائية والترويج للفيلم، ولا بأس أن يستفز ويثير الجدل. لكن هذا الاستفزاز قد يستثير الأجهزة الرقابية التي تفرض تغيير بعض العناوين كشرط أساسي للموافقة على عرض الفيلم، متحجّجة بحماية النظام العام والآداب ومصالح الدولة العليا.
من "جواز سفر مصري" إلى "عسل أسود"، من "الناظر صلاح الدين" إلى "الناظر"، من "دنيا الله" إلى "عسل الحب المر"... قصص أفلام غيّرت الرقابة عناوينها
بعض هذه الأفلام لا يزال اليوم يحيا بعنوانين، والبعض الآخر ناسبه العنوان الجديد أكثر. لكن الأكيد أن هذه الظاهرة تكرّس الجو الخانق الذي يخيّم على السينما العربية، وتدخّل أطراف كثيرة من خارج الفن في مصير الفيلم ونجاحه.
وتتخذ عمليات التضييق على حرية الفكر والإبداع في بلداننا أشكالاً مختلفة تندرج تحت ما يُطلق عليه مرة اسم المصلحة العامة، وأخرى اسم الدين أو الأخلاق. وهي تسميات لا يُراد منها معناها الحقيقي في حالات كثيرة، وإنما تبرير عمليات القمع الفكري وهيمنة الرقابة الجامدة.
وجدير بالذكر أن "رقابة"، وفقاً لقاموس ويبستر، تعني التفتيش من أجل قمع أو حذف أي شيء يُعتبر مرفوضاً، وكلمة رقابة نشأت في روما القديمة، حيث عيّنت الحكومة مسؤولين رسميين للإشراف على الآداب العامة، فالرقابة دائماً ما تحدث عندما ينجح بعض الناس في فرض سيطرتهم السياسية أو قيمهم الأخلاقية على الآخرين، من خلال قمع الكلمات أو الصور أو الأفكار التي يجدونها مضادة لتلك المعايير.
يُعدّ فيلم "عنتر ولبلب" 1952 إخراج محمد شوكت من أقدم حالات الاعتراض على عناوين الأفلام، فقد تم عرضه بداية تحت عنوان "شمشون ولبلب"، ثم توقّف العرض بشكل مفاجئ بعد بضعة أيام، ومن دون سبب واضح
من "شمشون ولبلب" إلى "عنتر ولبلب"
وهذه ليست أوّل مناسبة ترضخ فيها الرقابة لفئة أو أقلية تطالب بتغير عنوان فيلم، فقد تدخّلت السفارة الفلبينية في مصر كي يتم تغير عنوان فيلم "ولا في النية أبقى فلبينية" 1999، إخراج كريم ضياء الدين، واعتبر هذا العنوان إساءة للفيليبينيين. والغريب أنّ موضوع الفيلم كان أبعد ما يكون عن مخاوف التطرق لقضايا العمالة الفلبينية أو التمييز ضدها، بل تدور قصّته حول شخصية "حسن" الشاب الفقير الذي يتنكر في هيئة سكرتيرة فلبينية، بعد أن اتُهم ظلماً في قضية قتل وحُكم عليه بالإعدام.
عندما نقل المخرج صلاح أبو سيف رواية نجيب محفوظ "القاهرة الجديدة" إلى الشاشة الكبيرة، كان في نيّته الاحتفاظ بنفس العنوان، لما له من وقع ومدلول سحري يعكس –على بساطته- مضمون الرواية، لكن هذا قضّ مضجع الرقابة فطالبت بتغييره
من "القاهرة الجديدة" إلى "القاهرة 30"
عندما نقل المخرج صلاح أبو سيف رواية نجيب محفوظ "القاهرة الجديدة" إلى الشاشة الكبيرة، كان في نيّته الاحتفاظ بنفس العنوان، لما له من وقع ومدلول سحري يعكس –على بساطته- مضمون الرواية، لكن هذا قضّ مضجع الرقابة فطالبت بتغييره، لأنه يُحيي مضمون رواية نجيب محفوظ الطافح بالصراعات والأفكار والتساؤلات عن الحرية والاشتراكية والفقر والأخلاق والفساد السياسي وتوقُّع الهزيمة... وهي أفكار تُدين الوضع السياسي وتُسقط الماضي على الحاضر. وقد تعرّض الفيلم للرفض سبع مرّات، قبل أن ينال تصريحاً بالعرض عام 1966 لكن بعنوان جديد هو "القاهرة 30".
من "الناظر صلاح الدين" إلى "الناظر"
من السّهل ملاحظة التقاطع بين العنوان الذي اختاره منتجو فيلم "الناظر صلاح الدين" إخراج شريف عرفه، مع عنوان فيلم يوسف شاهين "الناصر صلاح الدين"، وهو فيلم تاريخي خلّد بطولات صلاح الدين الأيوبي، ولهذا السّبب بالذات اعتبرته الرقابة إساءة لشخصية عظيمة في التاريخ الإسلامي، واشترطت تغيير عنوانه. ويدور العمل حول "صلاح الدين"، طالب فاشل لم ينجح في الحصول على شهادة الثانوية العامة منذ سنوات، يتوفى والده ناظر وصاحب مدارس عاشور، ورجل التربية والتعليم شديد الصرامة، لتنتقل إليه إدارة المدارس، ويبدأ مغامرة مليئة بالمفارقات المضحكة، يستعين فيها بأصدقائه كي يصبح الناظر.
ويسجّل الفيلم أول ظهور لشخصية "اللمبي" الشهيرة التي أداها محمد سعد، وفيه الكثير من العبارات التي تحولت من إيفيهات في فيلم كوميدي إلى جمل دارجة في الحوارات اليومية مثل "الله وأنا مالي يا لمبي" و"كابتن، هو كلو ضرب مفيش شتيمة". ولعلّ الرقابة أسدت خدمة إلى صنّاع الفيلم، لأن اختصار اسمه إلى "الناظر" جعل من الأسهل على الجمهور ترديده.
من "جواز سفر مصري" إلى "عسل أسود"
عنوان الفيلم المصري "عسل أسود" يبدو أكثر انسجاماً مع قصّته، الغريب أنّ هذا العنوان لم يكن مطروحاً أبداً، بل جاء باقتراح من الممثل لطفي لبيب بعدما رفضت الرقابة عنوانين سابقين "جواز سفر مصري" و"مصر هي أوضتي"، بدعوى أنهما يسيئان لمصر ومؤسساتها. وفي اجتماع طاقم الفيلم لحل هذه الأزمة، اقترح لطفي لبيب الذي أدى دور "راضي" هذا العنوان. ويتتبع الفيلم قصّة شاب مصري (أحمد حلمي) اسمه "مصري"، يعود إلى بلده بعدما قضى 20 سنة في أمريكا، ويتعرض للسخرية والإهانة كلما نطق باسمه، والمفارقة هنا أن الجميع يعاملونه معاملة حسنة حين يحمل جواز السفر الأمريكي، إلى أن يتعرض لحادث يفقد فيه الجواز، فتختلف هذه المعاملة وتصل إلى النقيض.
من "دنيا الله" إلى "عسل الحب المر"
رغم أن عنوان "دنيا الله" ورد في أفيش فيلم "ثلاث قصص" 1968، وهو ثلاث قصص منفصلة، (دنيا الله لنجيب محفوظ، خمس ساعات ليوسف إدريس، إفلاس خاطبة ليحيى حقّي)، عاد نفس العنوان ليثير قلق الأجهزة الرقابية بعد سنوات، عندما قرّر المخرج حسن الإمام والممثل نور الشريف إعادة تقديم فيلم عن قصّة "دنيا الله" لنجيب محفوظ، فاضطرّا إلى ارتجال عنوان جديد هو "عسل الحبّ المر"، والسّبب هو الخوف من التأويل الديني لهذا العنوان، وتدور الأحداث حول شاب يدعى إبراهيم الساعي، يتعرّض للخديعة على يد بائعة متجولة فقيرة وعشيقها اللذين يتفقان على سرقة أمواله، فتوهمه الفتاة بالحب، وتحرّضه على سرقة مرتبات الموظفين في شركة يعمل بها.
ظل مشروع فيلم "لا مؤاخذة" مهدّداً بالتوقف في مناسبات كثيرة، فقد اعترضت الرقابة في البداية على موضوعه بدعوى إذكاء الطائفية بدل معالجتها، وتم لاحقاً إيقاف تصوير الفيلم لمدة طويلة، أما آخر أزماته وأشدّها، فكانت المطالبة بتغيير عنوانه
من "إسلام حنا" إلى "لا مؤاخذة"
ظل مشروع فيلم "لا مؤاخذة" مهدّداً بالتوقف في مناسبات كثيرة، فقد اعترضت الرقابة في البداية على موضوعه بدعوى إذكاء الطائفية بدل معالجتها، وتم لاحقاً إيقاف تصوير الفيلم لمدة طويلة، أما آخر أزماته وأشدّها، فكانت المطالبة بتغيير عنوانه "إسلام حنا"، فاختار طاقمه "لا مؤاخذة"، وهي عبارة تتردّد كثيراً في الفيلم، ما يجعلها مناسبة جداً كعنوان بديل. وتدور قصّة الفيلم حول طفل مسيحي، هاني عبد الله بيتر، يضطرّ إلى الانتقال من مدرسة خصوصية إلى أخرى حكومية بسبب تردي الأوضاع الاجتماعية لأسرته عقب وفاة والده. وبسبب الخوف من الاضطهاد الديني يدّعي أنّه مسلم، ليرصد الفيلم الكثير من التعقيدات التي تتعلق بهذه القضية.
الشيخ جاكسون ينجو...
أما أفيش فيلم "إلبس عشان خارجين" للفنان حسن الرداد، فقد تسبب في أزمة مع الرقابة التي أصرّت على تغيير الاسم للموافقة على طرحه، الأمر الذي التزمت به الشركة المنتجة ليظهر الأفيش الجديد بعنوان "عشان خارجين" بعد حذف كلمة "إلبس"، التي قد ثير الغرائز! هكذا تحت ذريعة الحفاظ على الأخلاق العامة والآداب قد يصل الأمر حد العبث، فلا يوجد تعريف دقيق لهذه المعايير، ما يفتح الباب أمام التفسيرات المتباينة التي تتخذها الجهات الرقابية كمدخل لتقييد حرية الإبداع، والإشكالية هنا أن "الآداب العامة"، لكونها جزءاً من النظام العام، تستمد بعض خصائصها من هذا النظام. وقواعدها نسبية متغيّرة تختلف باختلاف المكان والزمان، من مجتمع إلى آخر ومن جيل إلى آخر في المجتمع الواحد.
لكن المفارقة أن الرقابة تلعب دوراً كبيراً في الدعاية للأفلام التي تعترض عليها، إذ غالباً ما يتم تداول أخبار الأعمال المرفوضة على السوشيال الميديا، ما يثير فضول الجمهور لمتابعتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...