إن كان لعام 2021 سمة طبعها على سوق النشر المصري، فهي عودة الرقابة بأشكال جديدة أكثر توحشاً من الشكل البيروقراطي المعتاد الذي سجلته أقلام كتّاب مرحلة الستينيات.
قبل انتهاء العام بأسابيع، شهد الوسط الثقافي المصري معركة بدت غير لافتة بين الكاتب سامح فايز وإحدى دور النشر الشهيرة التي اتهمها الكاتب بالترويج لفكر الإخوان المسلمين.
هجمة فايز على دار عصير الكتب التي تحظى كتبها بانتشار جيد في أوساط القراء الشباب، بدأت عبر مقالاته نشرها في صفحته على فيسبوك، ومنها راجت في بعض الصحف، وجذبت مهتمين بصناعة الكتب والثقافة، خاصة بعدما منعت هيئة الكتاب (كيان حكومي للنشر وإقامة معارض الكتاب) دار النشر المذكورة من المشاركة في معرض كتاب مدينتي الذي موّلته إحدى شركات العقارات الخاصة.
الخسارة دفعت محمد شوقي، مدير ومؤسس دار "عصير الكتب"، للردّ على اتهامات فايز في منشوراتٍ متفرقة على صفحته بفيسبوك، مؤكداً أن داره والقائمين عليها “ولاؤهم الأول والأخير لمصر ومشروعها الوطني”، زاعماً أنَّ وراء الحملة التي تُشّن على داره مستثمرين (لم يُسمهم) "يستخدمون طرقاً غير مشروعةٍ في أعمالهم وأساليب رخيصة في محاولة إقصاء منافسيهم من الشرفاء". واعتبر هيثم الحاج علي مدير هيئة الكتاب تصريحات شوقي هجوماً شخصياً عليه وهدد بمقاضاته.
وفي مقابلة تلفزيونية أعلن مدير الدار أنه سيتقدم ضد نفسه ببلاغ رسمي أمام "الداخلية المصرية" والأمن الوطني والجهات السيادية لبحث أوراق دار النشر الخاصة للتأكد من كذب زعم الصحافيّ سامح فايز.
إن كان لعام 2021 سمة طبعها على سوق النشر المصري، فهي عودة الرقابة بأشكال جديدة أكثر توحشاً من الشكل البيروقراطي المعتاد الذي سجلته أقلام كتّاب مرحلة الستينيات
وفي المقابلة نفسها قال مدير دار النشر إنه سيعدم بنفسه أي كتاب من إصداراته ترى السلطات أنه يروج لفكر الإخوان، "وإعدام الكاتب نفسه لو استطعت"، مدشناً روحاً جديدة يقوم فيها صناع الثقافة بأنفسهم بالحرق والإعدام والمصادرة بالنيابة عن السلطات.
من المحاكمة العسكرية إلى إعدام الكتاب
الأزمة الأخيرة ليست جديدة على سوق النشر المصري، فمنذ العام 2014 خيم شبح رهاب الأخونة على صناعة الثقافة المصرية بجميع أوجهها، بدءاً من الصورة الشهيرة لحرق محتويات إحدى المكتبات المدرسية في ساحة مدرسة بمحافظة الجيرة (جنوب غربي القاهرة)، مروراً بتجريم حيازة الكتب المنشورة تحت أسماء مفكري الإخوان وإن كانت لأغراض بحثية، انتهاءً بما يشهده سوق النشر في الأعوام الأخيرة من سجن ومصادرات وامتناع الجهات المختصة (دار الكتب والوثائق) عن الترخيص بالنشر.
في فبراير/ شباط 2016، احتجت النيابة العامة على قرار محكمة بتبرئة الروائي والصحافي أحمد ناجي من تهمة التحريض على الفجور بعد قضية تقدم بها أحد المواطنين، محتجاً على بعض مقاطع رواية "استخدام الحياة"، وتقدمت النيابة العامة بطلب لإعادة المحاكمة انتهت إلى قرار بسجن الكاتب عاماً ونصف العام.
وفي أغسطس/آب 2017، قررت لجنة التحفظ وإدارة أموال جماعة الإخوان الإرهابية التحفظ على الشركة العربية الدولية للتوكيلات التجارية التي يترأس مجلس إدارتها رجل الأعمال عمر الشنيطي، بعد اتهامه بالانتماء إلى جماعة إرهابية، بعد مشاركته في اجتماعات تنسيقية للإعداد لخوض انتخابات المجالس النيابية في مصر، وهي القضية المعروفة إعلامياً باسم تنظيم الأمل.
القبض على الشنيطي استتبعه وضع مجموعة مكتبات ألف التي كانت تعمل بنظام الشراكة العنقودية، وأدت الخسائر إلى إغلاق المكتبات تباعاً، بعد 37 فرعاً للمكتبة تحت الحراسة، أغلقت جميعها مطلع العام 2020. قبلها قررت السلطات إغلاق سلسلة مكتبات الكرامة التي دشنها الحقوقي جمال عيد لخدمة أبناء المناطق المهمشة المحرومين من الخدمات الثقافية.
خلال 5 سنوات؛ سجنت السلطات ناشراً بعد محاكمة عسكرية، واستأنفت النيابة العامة قراراً ببراءة كاتب وتسببت في سجنه، وأغلقت الدولة سلسلتي مكتبات إحداهما لأبناء المهمشين
وفي أبريل/ نيسان 2018، قُبض على خالد لطفي، مؤسس مكتبة "تنمية" بتهمة نشر أخبار كاذبة وإفشاء أسرار عسكرية، بسبب توزيعه كتاب "الملاك" للكاتب الإسرائيلي يوري بار جوزيف الذي وصف أشرف مروان – زوج ابنة الرئيس السابق جمال عبدالناصر والسكرتير المقرب من السادات- بأنه كان عميلاً مزدوجاً ويميل لخدمة إسرائيل، وصدر ضد لطفي حكم عسكري بالسجن خمس سنوات في أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه.
وفي العام الموشك على الانتهاء (2021)، رفضت دار الكتب والوثائق منح أرقام إيداع (ترخيص بالنشر) لعدد من الإصدارات في سابقة جديدة على سوق النشر المصري، منها كتاب عن الحركة العمالية من إصدار المرايا، ورواية لكاتب محافظ هو أشرف الخمايسي. وانتهى العام بتلويح مدير نشر بإعدام الكتب والكتاب إن أتيحت له الفرصة.
تعددت الأجهزة والرقابة واحدة
تنص المادة 67 من الدستور على أن: "حرية الإبداع الفني والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك، ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة".
وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ عملية الحصول على "رقم إيداع" من دار الكتب والوثائق القومية (مرحلة سابقة وأساسية الآن لنشر الكتاب) تتطلب تنفيذ العديد من الإجراءات على يد ناشر الكتاب. وإذا رفضت دار الكتب والوثائق القومية منح أرقام إيداع للكتب فإن ذلك يحول دون صدورها، أو خروجها للنور.
وَفقاً لموقع "دار الكتب والوثائق القومية"، فإنَّ شروط إيداع الكتب تشمل تقدم الناشر بصفحة الغلاف الداخلية مدوناً عليها: عنوان الكتاب واسم السلسلة (إن وجدت)، اسم المؤلف الأصلي كما هو مدون ببطاقة الرقم القومي واسم الشهرة إن وجد، اسم الناشر واسم الطابع أو أحدهما، ختم الناشر وختم الطابع أو أحدهما، رقم الطبعة وتاريخها، سعر النسخة المطروحة للبيع، عدد الصفحات التي لا تقل عن 49.
خطوة- إحدى فروع مكتبات الكرامة المغلقة من دون سند قضائي
وبرغم أن تلك القرارات المنظمة لا تحمل شروطاً خاصة بالمحتوى ولا تلمح إلى طرح رقابة مسبقة على الكتب والإصدارات التي يلزم لإصدارها رقم إيداع، فإن الواقع في العام 2021 شهد تحولاً لافتاً. يقول يحيى فكري، مدير دار "المرايا للإنتاج الثقافي"، إنَّ دار الكتب والوثائق القومية رفضت منح الدار رقم إيداع لكتاب مرايا غير الدوري الرقم 25، وتذرعت بأن "المنتج المقدم ليس كتاباً، ولكنه مجلة"، وألزمت الدار الحصول على ترخيص من المجلس الأعلى للإعلام لإصدار مجلة شهرية.
وأوضح فكري في حديثه لرصيف22 أنَّ الكتاب غير الدوري لدار مرايا يصدر كل شهرين أو ثلاثة، وكانت الدار تحصل في السابق على رقم إيداع بصورةٍ طبيعيةٍ، ولكن حدث تغيير في طريقة عمل دار الكتب والوثائق القومية قبل منح أرقام الإيداع، أبرز وجوهه مطالبة الناشرين المتقدمين للحصول على رقم الإيداع بترك الغلاف والملخص والفهرس 48 ساعةً، وهو ما قد يشير إلى خضوع الطلبات والمطبوعات لفحص قبل النشر، وهو إجراء جديد وغير منصوص عليه في القوانين التي تمنع الرقابة المسبقة على المطبوعات المصرية وتفرض الرقابة المسبقة على المطبوعات الأجنبية فحسب.
تحول إجراء بيروقراطي هو "استصدار رقم إيداع" من دار الكتب والوثائق، إلى وسيلة جديدة لمنع إصدار الكتب المثيرة للقلق
ولكن بشكل صريح، أخبرت دار الكتب والوثائق القومية الناشر جمال عبد الرحيم، صاحب "المكتبة العربية للنشر والتوزيع" أن رفض منح رقم إيداع لكتاب "خطط الإثمار: الإسلام في الألفية الثالثة" جاء لوجود اعتراضات أمنية على مؤلف الكتاب الروائي المصري المعروف أشرف الخمايسي.
ومع أن الرقابة على المطبوعات والصحف كانت تسري في حالات الطوارئ والحروب فحسب بموجب قانون الطوارئ، لجأت السلطات إلى دمج تلك المادة الاستثنائية في القوانين الطبيعية في العام 2018، مع صدور القانون المنظم للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والذي باتت له سلطة الرقابة على المطبوعات بشكل دائم من دون التقيد بحالات الطوارئ، وذلك إذا ما وجدت تقديرات المجلس أن المادة "تخالف الدستور" والقيم الدينية والأخلاقية للمجتمع المصري من دون تحديد.
كما تتدخل "مصلحة الجمارك" في الرقابة على الكتب المطبوعة خارج مصر، أو الكتب الواردة من دول أخرى، أو الكتب المشحونة من مصر لدول أخرى، وفي بعض الأحيان تصادر المصلحة الكتب من دون الرجوع إلى جهاز الرقابة على المطبوعات أو الأزهر، بحجة وجود خطأ إجرائي.
بالإضافة إلى ذلك، هناك أيضاً الدور الكبير لـ"شرطة المصنفات"، ومؤسستي "الأزهر والكنيسة" في ضبط الكتب ومصادرتها من خلال حق الضبطية القضائية الذي تسبب قبل ثورة 25 يناير في حبس الكاتب إبراهيم عيسى مدة قصيرة.
رقابة ذاتية
رهاب الأخونة والخوف من الاتهام بالترويج للإرهاب أو الإضرار بالأمن القومي دفعا دور النشر إلى ممارسة نوع من "الرقابة الذاتية" فارضيْن مهمة جديدة على لجان القراءة التي كان دورها فنياً ينحصر في تقرير المستوى الفني للكتب المقدمة، وهل هي صالحة للنشر أم لا. والآن، بحسب كتاب وناشرين تحدثوا إلى رصيف22، بات مطلوباً من بعضها أن تضع علامة تحذر من نشر الكتب التي قد تثير "صداعاً أمنياً" يضر بدار النشر أو كتابها.
قال الناشر هاني عبد الله، صاحب ومدير دار "الرواق للنشر والتوزيع"، إنَّ الدار تتبع طريقتين في نشر الأعمال، الأولى فحص الكتب المقدمة بمبادرة من كتابها، وتتولى لجان القراءة "اختيار ما يتناسب مع سياسة الدار" وخطتها التسويقية. والثانية "تكليف" كتاب ومؤلفين إنتاج أعمال خاصة تشير إليها أبحاث السوق.
ناشر: عينَّا مختصاً لفحص الكتابات السابقة ومنشورات الكتاب الراغبين في نشر كتبهم لدينا، للتأكد من أنهم ليست لديهم آراء مؤيدة لجماعة الإخوان أو تسيء إلى الدولة المصرية
ورفض مدير دار الرواق إطلاق وصف "الرقابة الذاتية"، ويفضل تسمية "موافقة سياسة الدار ومعاييرها التي تحكم اختياراتها من الكتب". أضاف: "النشر مهنة ضمير في النهاية. لا توجد رقابة على الكتب، ولكن كل ناشر يحدد معايير وأخلاقيات دينية. دار الرواق تحترم القارئ ولا تنشر كتاباً قد يضر بالبلد مثلاً. هدفنا واضح وصريح وهو تقديم كُتب تُرضى شغف الناس، وتحاول إفادتهم في الحياة العملية، وفي الوقت عينه لا تتسبب في مشكلات للدار".
وقال الناشر يوسف ناصف، مدير دار المصري للنشر والتوزيع لرصيف22: "لكل دارٍ قواعد خاصة بالأعمال والكتب التي تنشرها"، مؤكداً أنه اختار ألا ينشر أية كتابات "سياسية، تضر الدولة المصرية، أو تتحدث عنها بشكلٍ سلبيٍّ"، وكذلك يرفض نشر "الكتب المثيرة للجدل التي قد تتسبب في فتنٍ داخل المجتمع".
وعن لجان القراءة بالدار، قال ناصف: "لدي لجنة من كاتبين محترفين يعملان على قراءة الأعمال المقدمة للنشر، و’فلترتها’، ثم يرشحان لي الأعمال التي يقرأها هو أيضاً بدقةٍ، لتحديد الكتب أو الروايات المقبولة بشكلٍ نهائيٍّ، والتي تتناسب مع سياسة الدار".
إلى ذلك، أكدّ عيد إبراهيم، مدير دار إبداع للنشر والتوزيع والترجمة لرصيف22 أن الدار "تعمل وفق رقابةٍ ذاتية تمنع الصدام أو الخلاف مع الهيئات الحكومية"، وأطلق على هذه الرقابة اسم "المعايير التي لن تتخطاها الدار"، كاشفاً عن أنَّه لن ينشر كتاباً بـ"اللغة العامية" ولا إصداراتٍ تتناول السياسة الداخلية للدولة، أو السياسة الخاصة بالدول العربية، مشيراً إلى أنه يعمل تحت شعار: "لا سياسة، لا دين، لا جنس".
في ما يتعلق بكيفية تشكيل لجان القراءة في الدار، قال إنَّ لجنة القراءة في الدار تتكون من خمسة أشخاص، أحدهم مختص بـ"اللغة العربية"، وثانٍ مختص بـ"الرقابة" يقرأ الأعمال المقدمة ليعرف مدى التزام العمل بسياسة الدار، منوهاً بأنَّ هذا الشخص هو في الغالب من الكتاب الكبار التابعين للدار، ومشيراً إلى وجود مختص بـ"التسويق"، وخاتماً: "وفي النهاية أنا اللي بحدد إيه يتنشر وإيه لأ؟".
وبشأن التخوف من وجود كُتّاب إخوان بالدار، أكد إبراهيم أنه في معاداةٍ شخصيةٍ مع الإخوان لأنهه اعتدوا عليه في أثناء الدراسة الجامعية، كاشفاً عن أنَّ مؤلفين نشروا أعمالاً معه ثم طلبوا فسخ عقودهم، "لأنني أكتب باستمرار منشوراتٍ ضد الإخوان. قالوا لن نأخذ أموالاً من قتلة ضد الدين" وفق قوله.
واستكمل: "عندما تأكدت من ذلك، فسخت عقودهم، وطلبت أن يحضروا ليأخذوا كتبهم معهم"، كاشفاً عن أنّه بعد هذه الواقعة استعانت الدار بشخصٍ للبحث في المنشورات القديمة لأصحاب الكتابات المتقدمة للنشر في الخطة الجديدة، "حتى نعرف فكر هؤلاء". وتابع: "لن أسمح بتسلل إخوان أو محسوبين على فكرهم للدار"، موضحاً أن 90 % من كُتَّاب دار "إبداع" على عداءٍ شديدٍ مع جماعة الإخوان.
وقال محمد نبيه، مدير دار إبهار للنشر والتوزيع، إنَّ الدار ترفض نشر أي كتابٍ يحوي تنمراً، أو يزدري الأديان، أو يتضمن توجهات سياسية معينة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...