بعدما اختُتمت دورة مهرجان البحر الأحمر الرابعة (5-14 كانون الأول/ديسمبر 2024)، أنهت معها عاماً سينمائياً صّوّر في لحظة سياسية مضطربة أثّرت بالطبع على الجودة والشكل. هذه الدورة التي تأتي في سياق منافسة شديدة، تباشر مهرجانات عربية أخرى مثل مهرجان القاهرة السينمائي، ومهرجان مراكش الدولي.
حملت هذه الدورة عدداً من الحوارات والنقاشات السينمائية مع عمالقة صناعة السينما على خلفية أسئلة المنافسة والتحديث من داخل وخارج الأفلام المعروضة. كان ذلك على خلفية 122 فيلماً عرضهم المهرجان من 85 دولة تقريباً، تحت شعار "للسينما بيت جديد"، في تظاهرة ثقافية أُقيمت في ميدان الثقافة في مدينة جدة التاريخية، التي تسعى بوسائل مختلفة لتوطيد صناعة سينمائية حديثة.
بدأت الدورة بالعرض العالمي الأول لفيلم "ضي"، وهو إنتاج سعودي مصري مشترك يروي قصة المراهق نوبي ألبينو الذي يبلغ من العمر 11 عاماً ويمتلك صوتاً جميلاً، إلى جانب 16 فيلماً تنافست ضمن المسابقة الرسمية على "جوائز اليُسر"، مثل السعودي "صيفي" للمخرج وائل أبو منصور، والمصري "سنو وايت".
تطرح النماذج الأربعة المذكورة في المقال على اختلاف درجة تقييمنا لها أسئلة بصرية ومشاعرية تحاول الهروب نسبياً من رقابتها ومن محدودية سردها المعتاد شكلاً ومضموناً، وربما هنا تأتي نقطة قوتها الأكبر
كما شارك في المهرجان الفيم المصري السعودي "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" من إخراج خالد منصور، و"إلى عالم مجهول" للمخرج مهدي فليفل، و"أناشيد آدم" للمخرج عدي رشيد.
يقف هذا المقال تحديداً في منطقة أبعد من المسابقة في داخلها وخارجها، على بضعة أفلام يمكن أن نمتثل من خلالها إلى نظرة عامة للحظة السينمائية العربية في نهاية العام. تتبع هذه الأعمال بطرح أسئلة بصرية جديدة المواجهة نسبياً مع الجمهور العربي، ربما لنفهم أكثر أسباب محاولات تناول خطاباتها البصرية، وما يمكن أن تقدّمه للسينما دون النظر المباشر إلى مدى إعجابنا أو عدم إعجابنا بالتجربة في شكلها الكلّي.
هذا المربع يبدأ من الجزائري "بين وبين"، ويذهب إلى التونسي "أجورا"، والسعودي "ثقوب"، وثم"دراكو رع". أفلام روائية سعت لطرح أسئلتها البصرية، وقامرت أكثر من منافسيها، إلى جانب سؤال أكثر شمولًا عن جدوى عرضها وإنتاجها في ظل محدودية وجود الجمهور العام الذي نحتاج أن نختبر من خلاله كل ذلك التجديد فعلاً.
"بين وبين"... الجزائر العنيفة
في الفيلم الجزائري "بين وبين" نقف في مساحة موازية بصرياً، هي سريالية نوعاً ما. نلهث في صحراء قاحلة على الحدود الجزائريّة، يكافح فيها فتحي ورفاقه من القرويّين لكسب لقمة العيش، من خلال تهريب البضائع، والتي كان معظمها من البنزين، إلى تونس، حيث يعملون ليلاً، ويدفعون أموالاً لزعماء الجريمة المحلّيّين.
البطل هنا هو "سعد"، صانع الأفلام، الذي يحاول جمع الأموال لإنهاء فيلمه، عمل لمدّة عام مع فتحي. فهو يعيش في سقيفة عائلته، مُحاطاً بأسرة محبّة بالرّغم من عملهم المليء بالمخاطر. في الوقت نفسه، من الواضح أنّه غريب، فهو رجل يرتدي ملابس أنيقة، ومستعد للردّ على أيّ شخص، بما في ذلك الإمام. الفيلم مليء بالتحديات، ولكنّه أيضاً ذو جوّ مفعم بالأحاسيس، يستمرّ توتّره بفضل مؤثرات صوتيّة متقلّبة. يتعمّق هذا الفيلم في تعقيدات الأسرة، والصداقة، والبقاء اليومي.
من خلال مونتاج شديد القسوة يتناسب مع ذلك العامل، نشاهد المقاطع التي تُظهر تلك الحياة القاسية. وربما يطرح الفيلم خطاب السينما بصرياً من داخل فكرته وخارجها؛ إذ يصبح البطل في الداخل بصراع مع مافيا لكي يحقق أرباحاً تجعله يحصل على أفكار وأموال فيلمه، بينما في خارجه يطرح ذلك في خطاب عنيف.
يبدو سعد وكأنه بطل أمريكي متعرّب: جاكيت يذكّرنا بأبطال "سكورسيزي" بملامح وحركات سينمائية، لا يأبه بواقعه أبداً. في أحد مشاهد الفيلم يعيد سعد خلق عالمه الحقيقي في الحُلم، فيتخيل مصيره وحياته التي يواجهها بسبب رغبته في السينما التي يريدها ولا يراها.
وربما لو أقمنا مقارنة نسبية مع أكثر الأفلام شبهاً بهذا الفيلم أي "شرق 12" للمخرجة هالة القوصي التي تطرح أسئلة بصرية حادة على ذاتها وعلى المشاهد، يمكننا عند ذلك فهم حركة المخرج محمد لخضر تاتي كخطوة عنيفة نسبياً، فهو يرمي بطله في قلب المعركة يواجه مصير التجريب الحقيقي في عالم منهار. وبينما تأتي السريالية السابقة في اللعب باللغة زمانياً ومكانياً نشاهد هنا موازاة بين الإنسان/البطل وبين الحيوانات التي يراها حوله، والتي تجلس في منطقة برزخية بين الحياة والموت. يختبر الصانع هنا خطابه البصري في التركيز على السعي الموازي للحيوان في عالم قاسٍ، يفقد المشاهد موقعه العاطفي والخيالي بين الإنسان وصديقه الحيوان في عالم تقل إنسانيته وتزداد وحشيته.
لا ينفصل ذلك الطرح البصري الحاد عن لحظة سياسية يتورّط فيها الحيوان في كل مكان بالعالم من قنابل ورصاص الإنسان في الشرق والغرب. خطوة هذا الفيلم العنيفة أتت بمثابة قفزة بيئية من مصر إلى الجزائر.
فيلم "أجورا"... هل الإجابة هي تونس؟
قريباً من المنطقة التي ينتهي منها الفيلم السابق، يبدأ ذلك الفيلم من تونس المجاورة. تدور أحداث الفيلم في مدينة معزولة، حيث يعود بعض الأشخاص المفقودين بمظاهر غامضة، مما يخلق حالة من التوتر والقلق بين سكان المدينة. يتدخل فتحي، مفتش الشرطة المحلية، يسعى لكشف غموض عودة هؤلاء الأشخاص بمساعدة صديقه الطبيب أمين. تتعقد الأمور عندما يصل مفتش الشرطة عمر من العاصمة لاستجلاء الأمر، مما يؤدي إلى انقسام بين سكان المدينة بين من يرحب بعودة المفقودين ومن يعتبر عودتهم لعنة.
يطرح الفيلم مسألة الذاكرة الجماعية، تلك التي تزعج وتذكر بإخفاقات كل مسؤول في الدولة. يتناول الفيلم العلاقة غير الواضحة وغير الصحية بين السلطة السياسية والدينية، ورغبتهما في التستر على كل شيء، والمضي قدماً مع تبني خيار عدم إيجاد حلول حقيقية. يعالج الفيلم هذه القضية من خلال توظيف الرموز والقصص الفرعية التي تجسد التوترات الاجتماعية والسياسية في المجتمع.
الفيلم من تأليف وإخراج وإنتاج ومونتاج علاء الديم سليم، الذي يؤكد من خلال الفيلم على خطابه الأكثر جموحاً حتى لو أخفق نسبياً في تنفيذ بعض الجوانب بالشكل المثالي فنياً. يتجاوز الفيلم كل الأنماط الأخرى بصرياً للدرجة التي تجعله يأخذ قرار حوار بين الحيوانات في القرية.
لو كانت القوصي في "شرق 12" تتفرّد في سرياليتها المنضبطة والحالمة الأكثر نضوجاً فنياً والتي تؤهل مشاهديها لمشهد حميمي في النهاية يعيد تخييل الإنسان، ولو كان لأخضر بعدها يوّرط الإنسان أمام نفسه ويعيد تخيل ذاتها مقارنة بالحيوان، فإن "أجورا" ينتصر للحيوان من اللحظة الأولى ويحتقر الإنسان ، ذلك الكائن الذي يقتل دون رحمة أو تفرقة.
في الفيلم تأويل بصري يخرج عن مناطق المساءلة السابقة أو الإدانة المجازية للسلطة أو الطمع البشري. فيمررها علاء الدين للإدانة دون أن يترك المشاهد يقرر معه. نلحظ دناءات بشرية غير منهية: أعمال قتل وسفك وسحر يمارسها الإنسان المتورط مرة تلو الأخرى دون رغبة في التطهر.
السريالية هنا على عكس سابقيها لا تطرح أسئلةً أكثر مما تستعرض ذاتها بصرياً، وتخلق خطابات تغازل الخيال في ذاته. لا يمكن استعادتها بل يمكن التباهي بها أو بجودة صناعتها. وإن كانت السريالية خطت خطواتها أساساً أو ظهرت ثقافياً قديماً وقتما دمرت الحرب العالمية كل منطقي في الحياة، وراح الفنان يستلهم ذاته من انعدام المنطق، وقد سار الصناع في "شرق 12" و"بين بين" على هذا المنوال، فإن "أجورا" ينفض عن ذاته كل ذلك ويستخدم السينما في اللعب غير المبرر حتى مشهد النهاية.
يطرح ذلك تجريباً خارج دائرة السيطرة أو التفاعل معه؛ تجريب في ذاته، لا يمكن الحكم عليه تماماً بالإدانة، كما لا يمكن مديحه، ولكن يمكن المساءلة من خلاله: هل تتقدم السينما، لا سيما مهرجاناتنا العربية، بمجرد طرح تلك الأفلام أم عليها السعي إلى تفكيكها والتعاطي معها وفهم صناعتها وصنّاعها أساساً؟
"ثقوب" السعودية تدق مساميرها
في الفيلم السعودي" ثقوب" للمخرج عبد المحسن الضبعان نشاهد "راكان" وزوجته "ريم" اللذين يبحثان عن شقّة للإيجار. يبدو أنّهما وجدا المكان المناسب، باستثناء الثّقب في جدار ذلك المنزل، الذي يبدو وكأنّ شخصاً ما قد ضربه بمطرقة، ومع ذلك، فإنّ راكان غير مهتمّ بشكل غريب، فهو بالكاد يتحدّث مع زوجته.
تدريجياً، وبينما ننتقل من الحاضر إلى الماضي، نجمع معاً القصة التي تفسّر سلسلة المكالمات غير المرغوب بها، واللّقاءات العشوائيّة مع الشخصيات المشبوهة، والانفجارات العنيفة. وعندما يتعرّض منزل والدته للسّرقة، وتتعرّض والدته للهجوم، يواجه الشخص الذي لم يكن يريد رؤيته على الإطلاق.
يبدو "ثقوب" تجربة سعودية ممتازة على قدر تجريبها الحديث، تسعى بطرق مختلفة إلى خلق خطاب سريالي بصرياً نسبياً، يمكن ضمّها إلى النماذج السابقة حتى إن كانت لا تحمل نفس الشطحات الأخرى. لا يمكن أن يفهم المشاهد تماماً الضبابية التي تبدو متعمدة في سيناريو فيلم "ثقوب" على حساب التركيز البصري المثير للتعليق والإعجاب.
وعلى الرغم من عدم التغوّل أكثر في عناصر الفيلم، والوقوف فقط مثل سابقيه على ما نريده منه لإنجاز سؤال أكبر يحمل هم الصورة فإن "ثقوب" يمثّل نموذجاً مثالياً يحاول ترك انطباع بصري حقيقي دون أن يحمل خطاباً بعينه. ما الذي يعنيه ذلك؟
تطرح كل هذه الأفلام سؤالاً عن صورة جديدة تسعى إليها أنواع سينمائية، وبدلاً من الاعتماد المباشر على استعراض شكلاني، تخلق تلك الخطابات تحدّياً بصرياً يختبر الوسيط والفنان للوصول إلى مدى أقصى من السينما
ببساطة تطرح النماذج الأربعة المذكورة، على اختلاف درجة تقييمنا لها، أسئلة بصرية ومشاعرية تحاول الهروب نسبياً من رقابتها ومن محدودية سردها المعتاد شكلاً ومضموناً، وربما هنا تأتي نقطة قوتها الأكبر.
إلى جانب أفلام المهرجان هذه التي تحدثنا عنها، يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية والمصرية، فيلم "دراكو رع"، وهو فيلم سريالي آخر عن أبطال مصاصي دماء. يأخد الفيلم منحى كوميدياً، بينما نقطة قوته الكبرى تأتي من كتّابه: محمود الفار القادم من عوالم كوميدية ويفهمها بشكلٍ كبير، إلى جانب خالد منصور وشادي ألفونس الأبطال أمام الشاشة. لكنّه لا يبذل أي مجهود بصري لترجمة ذلك، بل ينفي عنه صورته المُتخيّلة، ما يجعله فيلماً يمكن سماعه باستمتاع أكبر. ربما لأننا لم نختبر تلك المساحة البصرية تماماً على جمهور واسع بالرغم من كتابته الذكية.
تطرح كل هذه الأفلام المذكورة سؤالاً عن صورة جديدة تسعى إليها أنواع سينمائية، فبدلاً من الاعتماد المباشر على استعراض شكلاني، تخلق تلك الخطابات تحدّياً بصرياً يختبر الوسيط والفنان للوصول إلى مدى أقصى من السينما في لحظة بات على الجميع التغيير لتفادي الملل والتجهيل؛ يمكن السؤال من خلالها: إلى أي مدى يمكن إتاحة الفرصة في صناعتها من البداية أو محاولة تفكيكها؟ ومن يتحمّل ذلك الدور؟ وكيف يمكن توفير عوامل أكثر اكتمالاً لاختمار تلك التجارب بشكل أكثر جدّية وتحقق وإيمان حقيقي بتجريبيتها وتفرّدها؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...