هذه قصة حظٍ عاثر؛ هذه دائرة مغلقة في قلبها أربع قصص منفصلة متصلة تنقّب عن الدموع من الضحك على الرغم من خفّتها الظاهرة. الحديث هنا، على غير العادة، لا يحتاج المرور التفصيلي على الأحداث بقدر محاولة طرح تساؤل فلسفي أوسع وأكثر شمولًا للمخرجة أولًا، ثم لمن دخلوا معنا تلك الدائرة بمشاهدة الفيلم أو من يريد التجربة: هل هناك شيء واضح احتاج صنّاع الفيلم أن يقصّوه علينا فعلاً بين كل تلك "الحواديت"؟ وإن كان هناك شيء أصيل يمكننا التفسير من خلاله، فهل يرتكز على البشري في القصص أم يتجاوز الإنساني للطبيعة الأم التي تشكّلنا وتشمل عواطفنا وتحركنا دون وعي أو إرادة؟
هذا السؤال المركزي ربما يجعلنا نكشف الخدعة التي استخدمتها المخرجة لكي تجعل الجميع يتجاوز هفوات الفيلم البسيطة ويقع في حب الفيلم وشخصياته برغم كل شيء. نحاول هنا أن نحكي عن كل ذلك، فهذا المقال ثرثرة مضادة للثرثرة الحميمية المليئة بالشجن التي أنتجها فيلم "دخل الربيع يضحك".
"دخل الربيع يضحك"، يتناول أربع حكايات ما بين الأسرار والغضب والأحزان والدموع الخفية، وسط الضحكات الظاهرة، ولكن مع بداية ذبول الأزهار الزاهية، يأتي خريف غير متوقع ليختتم القصص
من بين حوالى 194 فيلماً مختلفاً من 72 دولة حول العالم في الدورة الجديدة من مهرجان القاهرة السينمائي (من 13 إلى 22 تشرين الثاني/نوفمبر)، هذا الفيلم هو الفيلم المصري الوحيد المشارك ضمن المسابقة الرسمية في هذه الدورة من مهرجان القاهرة، وربما لا يبدو شيئاً نبيهاً أن نتوقع حصوله على جائزة.
إنتاجات السنوات الأخيرة العربية وغير العربية تبدو شديدة التواضع بشكل عام، وربما على الجميع أن يعي ذلك ويحاول تغييره. الفيلم من كتابة وإخراج نهى عادل، وإنتاج كوثر يونس وأحمد يوسف، بمشاركة لورا نيكولوف وسمر هنداوي وساندرو كنعان، مديرة التصوير سارة يحيى، ومونتاج سارة عبدالله. إلى جانبهم شارك عدد من الممثلات وجوههم غير مألوفة على الإطلاق سرقت الأضواء والقلوب. وقد أُهدي الفيلم إلى أخت المخرجة ندى عادل، المولودة في الربيع، والتي قالت لنا في حديثنا إليها إنها تمثل ملهمةً لهذا الفيلم وكل الجنون الذي تعرفه، وكذلك، الفيلم مهدى إلى سعاد حسني وصلاح جاهين.
"دخل الربيع يضحك"، يتناول أربع حكايات ما بين الأسرار والغضب والأحزان والدموع الخفية، وسط الضحكات الظاهرة، ولكن مع بداية ذبول الأزهار الزاهية، يأتي خريف غير متوقع ليختتم القصص. قصص تكمّل بعضها، وتشبه جمهورها، برغم استثنائية النظرة فيها. ووجاهة المونتاج شديدة الذكاء التي لم تضع فواصل بين كل قصة وأخرى تستحق الإشادة.
تتوقف الكتابة عن الفيلم في سياق ثلاثة مستويات غير متساوية: الخطاب الداخلي الذي تتبناه المخرجة، والصورة التي تعبّر من خلالها عن ذلك، والموسيقى التي تأتي في خلفية كل الثرثرة البصرية تلك لتضفي عليها حميمية زائدة تُحتمل. يستحوذ الطابع الخطابي على أغلب عناصر الفيلم، إذ كان الأنسب لفيلم بطلاته نساء أن يمتلئ بالأحاديث المغرية للاستماع، وكاميرا شديدة القرب من الوجوه في أغلب مشاهدها، كمحاولة لتجاوز كل ما يحيط بالخطاب للتركيز على أحاديثهن فقط.
بدت الكادرات في الفيلم في غالبها أمراً إلزامياً نبيهاً للتعبير عن فحوى الخطاب، على الرغم من إزعاجه مع مرور الوقت. والموسيقى التي تبدأ من عبد الحليم حافظ وتنتهي بفريد الأطرش، مروراً بكل جيلِهم الحميم، ربما أرادت التركيز عليهما بأنهما نجمان للحفلات الأكثر رومانسية، وعلى اعتبارهما أضداداً نسبياً يؤطران المشروع الغنائي العربي.
فيلمان قصيران وفيلم طويل من أربعة أفلام قصيرة أخرى
هل سمعتم من قبل عن متلازمة مشكلة الفيلم الأول؟ هي ظاهرة متعارف عليها سينمائياً تخص المشكلات التي تظهر في الأفلام الأولى للمخرج على اعتباره يريد أن يقول أشياء كثيرة، فتفلت منه بعض الأشياء أو تتسع مهتمه ويصعب احتواءها. لكن هذا الفيلم بدا في مفارقة غريبة مثالياً، بالرغم من كونه فيلم المخرجة الأول، وبالرغم من أنه يخرج في أربع قصص، تبدو ظاهرياً، مختلفةً، إلا أنه يعتبر قصة واحدة في جوهرها متفرقة على الأشخاص ومحاطة زمنياً بفصل الربيع الملائم لتغير المزاج. المفارقة أنه مع كل ذلك استطاعت المخرجة الإمساك بالخيوط ربما حتى دون وعيها تماماً، بسبب معايشتها الواضحة لأغلب القصص، وهو ما يدعو للإعجاب فعلاً، وربما هذا هو أقوى شيء يحتاج للثناء.
صنعت المخرجة نهى عادل من قبل فيلمين قصيرين؛ أحدهما "مارشيدير"، والذي تحدث قصته في نهار عمل اعتيادي في القاهرة. في شارع فرعي أحادي الاتّجاه تتقاطع سيارتان ويتشاجر سائقاهما، الأول غاضب وهائج، والثاني مذعور وعنيد. والآخر "أعقل مشجع كرة"، وهو، كما يبدو من عنوانه، عن كرة القدم وما تفعله في المشجعين من منظور نسائي نوعاً ما للعبة التي يعشقها الذكور. في القصص التي تتناولها نهى عادل، لا تبدو أنها منشغله بالحديث عن مساحات الرجل في مقابل المرأة، بل بالمرأة في نظرتها للعالم.
تفلت نهى من فكرة المناظرة المملة بين الرجال والنساء. تبدأ حربها الوجودية مع الذات النسائية أو مع الطبيعة ذاتها. لا تحيّد الآخر الذكر بل تستبعد وجوده، ليس تقليلاً أو تعالياً، بل إنه يبدو خارج سؤالها المركزي المتحرك. فالمرآة هنا كيان يبدو حاملاً لكل المشاعر والتعقيدات التي عليها الغطس في قلبها. "دخل الربيع يضحك" يتوج تلك النظرة ويتبنّى خطاباً راديكالياً حميمياً للمرأة التي تحتمل أن تجسّد العالم، وتبرز منها الحياة حرفياً ومجازاً.
يبدأ الفيلم بمشهد تعبيري شديد الوضوح والبساطة للوعد الذي سيستمر معنا: ورود تحيط الجميع، وموسيقى رائقة لإحدى أغنيات عبد الحليم حافظ، وضحكات من القلب على وجوه الجميع تسهّل خداع المشاهد الذي يبدو منتظراً للحب المتطاير، بينما سرعان ما تصبح كل تلك الأدوات خداعيةً ووسيلة لإنتاج البكاء على الأحاديث القلبية التي تخرج في لحظة حرجة.
تبدو القصص في أغلبها حقيقيةً نوعاً ما، مُضافاً إليها بعض اللمسات الدرامية التي تجعل الجميع في ذورة عاطفته وتعبيره. القصة الأولى تبدأ من جيران، يتحايل فيها العجوز للتقرب من صديقة زوجته المتوفاة، للزواج منها. والأخرى هي قصة امرأة تجمع صديقاتها في عيد ميلاد إحداهن وتكشف أسرار الجميع. ثم فتاة صالة الكوافير التي تعمل، بينما لا يعمل زوجها، من أجل إعالة ابنها، لتفاجَأ بأنها تُتهم من إحدى الزبائن بالسرقة. وأخيراً قصة الفتاة التي تتجهّز للعُرس بينما تبدو هناك مشادة بين والدتها وإحدى صديقاتها المطلقة التي ترفض الأم وجودها بين الصديقات في العرس على اعتباره شيئاً سيئاً غير مبشّر.
يقول الفيلم أشياء كثيرة خلال الحديث عن عقول النساء الأشبه بمغارات سحيقة تمتلئ بالأضداد، ويعتبر أنهن يملكن كل المشاعر، بل كل ما يحتاجه العالم في لحظة ربيعية متقلبة
تبدأ القصة الأولى بمحاولة تقرّب بين عجوزين للزواج، وتنتهي الرابعة بتردد، أو ربما بنظرة سوداوية، بقرار خاطئ آخر تتخده الفتاة من الزواج برجل نكتشف عدم حبها له. في القصص كلها يبدو الرجل بعيداً فعلاً، دون أن يصبح ذلك أمراً متعمَّداً أو متجاهِلاً. فبدا الفيلم كمونولوغ طويل ونصيحة حزينة عن الاختيار، عن الحب، والمرأة التي تسعى بجهد لفهم نفسها دون نتيجة.
عالم نساء نساء
امتلكت كل القصص الحد الأكبر من التماسك واللياقة للمساعدة في إنتاج الفكرة الأكبر من وجودها. فمرّت بذكاء على عدد من الأجيال والطبقات لتطرح تصوّراً شمولياً نسبياً عن النساء اللواتي يبدون متشابهات؛ فكلهن يملكن العالم بكل مشاعره. هذه القصص لا تعبّر سوى عن ذاتها، وتصل كلها إلى نقاط متجاوزة من الثرثرة، ثم الصراخ الحاد في وجه بعضهن بعضاً وفي أذن المشاهد. فتنتج إزعاجاً مستقطعاً مقصوداً بين بداية القصة الحالمة والمتحركة ونهايتها المؤلمة الساكنة.
يقول الفيلم أشياء كثيرة خلال الحديث عن عقول النساء الأشبه بمغارات سحيقة تمتلئ بالأضداد، ويعتبر أنهن يملكن كل المشاعر، بل كل ما يحتاجه العالم في لحظة ربيعية متقلبة. تتعمّد القصص إبعاد أي تدخل سياسي مباشر، فالخطاب كله نابع من المرأة ومعبّر عنها. في مجتمعات لا ترحم، تطغى فيها أحاديث الزواج والطلاق، ثم الطلاق والزواج، والخيانات الذكورية المتكررة، ثمة أحاديث حقيقية في هذا الفيلم تحاول خلق معنى ذاتياً في فضاء عام مخنوق.
فيلم "دخل الربيع يضحك" هو عالم نساء نساء. كلهن لديهن فائض مشاعر صارخ وحميمي للغاية. يحتاج أكثر من مشاهدة وينبّئ عن مخرجة واعدة، هربت بشخصياتها التي تحتاج من أجل بناء درامي إلى مساحات أضيق ليعبّرن عن أنفسهن سريعاً ولم تترك مجالاً للمشاهد لكي يتنفّس أو يفكر في التطور؛ أحاديث شعورية لا تتوقف، وتقطع الأنفاس لمواصلتها. اختيارات إخراجية حوّلت نقاط الضعف إلى تصفيق حاد من الأجيال التي شاهدت معارفها وشخصيات أليفة على الشاشة. هذه هي السينما في أحد أوجهها: كذبتنا الصادقة.
تسير الأحاديث للحدود القصوى من الجرأة وأحياناً الوقاحة، ولا يؤدي ذلك إلى القطيعة التامة. في أحد مشاهد القصة الثانية تساءلت لماذا تستمر صداقة هؤلاء أثناء الاحتفال بعيد الميلاد بعد كل تلك الأسرار التي بصقتها البطلة في وجه بعضهن. ولم أجد إجابة. كل القصص لا تطرح مصيراً نهائي لبطلاتها. هناك انهيار فقط وحميمية.
ثرثرة يصعب كرهها أو عدم التلصص عليها. كل المشاعر تمرَّر بالثرثرة وهذه وظيفتها المثالية هنا. تنقذ العالم من الملل، وتعيد تشكيل إنسانيتنا بالتفكير في حقيقتها أو محاكاتها مع معارفنا.
ذات مرة قرأت رسالة دكتوراه أدبية يدّعي فيها الباحث أن الإنسان هو نتيجة تجاربه المناخية. في فيلم "دخل الربيع يضحك"، المرأة/الإنسان نتيجة الربيع الذي يختمر في قلبه كل المشاعر. أبعد من الشتاء الجاف والصيف الحاد والخريف الشجي. أقرب إلى الربيع الذي يتقلّب بالمشاعر كما درجة الحرارة، يدخل علينا بالضحك ليستجلي الحزن. أحياناً لتجاوز وطأة مشاعرنا وأخرى لتخفيفها. لا تحدد المخرجة أيهما تقصد، إنما تترك المشاهدين يقررون ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يومينمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم